نظرة الى الوراء ياأنبار

كثيرة هي العبارات التي تعبِّر عن تجاوز شيء حده في لغتنا، وغالبا ماتكون مثيرة للإنتباه منها على سبيل المثال لاالحصر: بلغ السيل الزبى، طفح الكيل، وأخريات في لهجتنا العراقية الدارجة مثل: (وصلت حدها) و (صارت بلا ملح) او (صارت ماصخة)، وغيرها الكثير التي نتندر بها في يومياتنا، لكنني أرى ان عشرات من مثيلات هذه العبارات لاتفي بالوصول الى المعنى الحقيقي للتعبير عما جرى مؤخرا في المحافظة العراقية الأنبار، هذه المحافظة القريبة الى قلوب العراقيين جميعا، والتي تداخلت طبائعها ومفردات ألفاضها المحلية ولباسها من عقال و(دشداشة) و (غترة) و (صاية) في صلب حياة البغدادي والبصراوي والكربلائي والعمارتلي والمصلاوي. ومن منا لم يعشق أجواءها وشوارعها وأقضيتها ونواحيها وقراها وبساتينها، وهي منبسطة ومستلقية في أحضان فرات الخير، وغنية عن التعريف أخلاق أهلنا في الأنبار بمدنها وباديتها وهضابها، وكرم (ربعنا) في الفلوجة والخالدية والبغدادي والحبانية والقائم والرطبة، وتطول قائمة مسميات مناطقها، ويطول أكثر الحديت عن شهامة أبنائها ونخوتهم ومواقفهم التي ملأت سفر تاريخ العراق أصالة وطيبا، يفتخر لها كل عراقي شريف وغيور على كل شبر من أرض العراق. الذي حصل في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة هو ليس من شيمة أهل الرمادي المعروفين بغيرتهم على عراقهم، أولها التظاهرات التي أج أجيجها وعج عجيجها في بادئ الأمر، ولاينكر الالم الذي تسببت به في قلوب العراقيين الذين ينتظرون الفرحة بفارغ الصبر، ويستبشرون بأي بصيص أمل يلوح في أفقهم فيفاجئهم على حين غرة موقف البعض من أهاليهم هناك، وكأني بهم يجسدون قول شاعر:
لا أبلغ الذروة العليا على قدمي
حتى أنكَّس للوادي على راسي
نعم فالعراقيون الذين يئسوا و (غسلوا اديهم للعچس) من أغلب سياسيي البلد الذين مابات همهم إلا مصالحهم الخاصة، وبعد ان خاب أملهم منهم، رجوا الخير وتوسموه فيمن تبقى من شرفاء البلد ونبلائه، والذين قد يبدو عددهم قليلا، إلا أنهم كثيرون وكثيرون جدا، في المواقف والتأثيرات التي يحدثونها في حياة العراقيين، لاسيما والبلد مقبل على استكمال تحرير أراضيه المسلوبة، ويجدر بالجميع حينئذ التفرغ لبناء ما خربه المخربون، وإعمار ما هده المغرضون من أعداء العراق والعراقيين، وبديهي أن البناء لن يعلو بالاسمنت والطابوق فقط، إذ أن أصغر خلية في المجتمع هو الإنسان، وكلنا يعلم ماحدث لهذه الخلية في مجتمعنا إبان سنوات مابعد تحرير العراق من النظام الدكتاتوري القمعي والدموي، وحين ننعت ذاك النظام بهذه المواصفات، فإننا نعني أن النظام الذي استخلفه هو نظام ديمقراطي، فهل هو كذلك؟.
وبعودة الى أنبارنا، وبنظرة الى ماضيها الجميل في ذاكرة العراقيين، ليس للمقام مقال إلا العتب، والعتب في حقيقة الأمر يوجه بالدرجة الأساس الى شيوخ عشائرها، وكذلك الى وجهائها الذين حشدوا لتظاهرات السنوات الماضية، والتي دسوا فيها روح الفرقة والعداء، وأججوا نيران فتنة كان سناها قد خبا، وولى زمانها الى غير رجعة. كذلك فإن العتب يقع على الحكومات التي تعاقبت على سدة الحكم، فهي الأخرى تتحمل مسؤولية تدني الأوضاع وترديها، وتداعيها الى الحد الذي وصلت اليه. وسواء عرفنا المسبب والأسباب أم لم نعرفها! علينا اليوم التوجه الى حيث ينادينا واقع الحال بعد خراب البصرة والرمادي والموصل، وعلينا توظيف النكوص الى نهوض، واستبدال التقهقر الى تقدم، وتعديل مسارات عديدة كنا قد ولجنا او أجبرنا على الولوج فيها، فالوضع الجديد لم يعد يحتمل سهوا او خطأ او غفلة.