الصندوق الاسود

 

الطائرات التي تسقط فوق المحيطات والبحار أو فوق اليابسة نتيجة حادث ما، أياً كان نوعه، يتم البحث فوراً من قبل الجهات المعنية عن صندوق يسمونه الصندوق الاسود، رغم انه ليس بالضرورة اسود اللون، ولأنه يحمل كل نداءات قائد الطائرة وحركتها وحمولتها من البشر والبضائع منذ لحظة الهبوط، واذا يتم العثور عليه تبقى الحادثة لغزاً موحياً للتكهنات والاخذ والرد، ولا يصبح الامر يقيناً لدى كل الاطراف الا بعد العثور على هذا الصندوق الذي سيفصح عن كل شيء.ولقد اطلق عليه رجال الطيران اسم الصندوق الاسود، لأنه هو المخزن الذي يفصح عن حجم الكارثة فيما اذا حدثت كارثة، باعتبار سوداوية الموقف وليس لأي اعتبار آخر، وربما يكون لونه اصفراً أو أحمراً، ولا يعني ذلك شيئاً، الا بمقدار حجم المعلومات التي سيوفرها في حال العثور عليه من قبل الغواصات والغواصين اذا ما وقعت الطائرة في مياه البحار والمحيطات أو من قبل رجال البحث والتحري اذا ما وقعت على اليابسة أو فوق الغابات. هو على أية حال مجرد صندوق لا أستيطع التكهن بحجمه ولكنه على مستوى كبير من الاهمية كما ترون، وكما تعرفون، وسأقلب المعادلة فأقول ان في داخل كل فرد منا صندوقاً أسود تماماً صندوق الطائرة، فيه خزينناً المعرفي والتاريخي واشكال علاقاتنا الحياتية ومجرياتها وكم رأينا وكم عشنا وكم استهلكنا من وقت وكم قرأنا وأكلنا وشربنا وسافرنا ونمنا واستيقظنا، في خرائط يومية يخزنها الدماغ البشري الذي يكف عن العمل حتى في لحظات راحة الجسد، بل ويظل فاعلاً ومنشغلاً بالذي جرى والذي يجري ومن ثم الذي سوف يجري!، في الماضي والحاضر والمستقبل.هذا الصندوق البشري، أو مخزن الفعاليات الدنيوية وذاكرة الوجود الحياتي، لا يفارق الجسد ولا يمكن لأحد العثور عليه حتى وان فني الجسد فهو لصيق به لا يطلع عليه اقرب المقربين ولا يفك الغازه أحد، فهو ينشأ معنا ويرحل معنا، على العكس تماماً من صندوق الطائرة الاسود الذي ما ان يتم العثور عليه حتى تصبح خزائنه من المعلومات ملكاً لشركات الطيران والطائرات وذوي المفقودين.نحن من نمنح اللون للصندوق البشري، فمنا من يكون صندوقه اسود اللون ومنا من يكون صندوقه بالوان اخرى، ولكننا نطمح ان تكون صناديقنا بيضاً تسكنها خرائط الود والالفة والمحبة وكفانا الله واياكم كوارث الطيران وسواها وجعل كل صناديقنا بيضاً مثل نديف الثلج.