تتقلب أسعار النفط في السوق العالمية هذه الأيام صعودا ونزولا، ومعها ترتفع وتهبط معنويات المسؤولين عن الاقتصاد العراقي وفي مقدمتهم رئيس الوزراء حيدر العبادي. ولكن التعويل على سعر النفط وحده أشبه بتعلق الغريق بقشة. ففي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة يواجه العراق التزامات مالية هائلة تتمثل في مرتبات الجيش الكبير من الموظفين الحكوميين وأعباء الجهد الحربي ضد داعش والعناية بملايين النازحين والمهجرين، هذا إضافة إلى المستحقات المالية للشركات النفطية. وهي كلها استحقاقات يصعب تأجيلها طويلا الأمر الذي يجعل الحكومة عاجزة عن الوفاء بالتزامتها المالية ويدفعها عمليا إلى هاوية الإفلاس. وتعتبر هذه الأزمة المالية بمثابة الرحم الذي تولد منه أزمات أخرى. فالأزمة الحكومية على خلفية المطالبات بتعديل التشكيلة الوزراية تحولت إلى أزمة برلمانية أدت إلى تعطيل مجلس النواب. وتحاول بعض القوى الاقليمية والمحلية توظيف ذلك للسعي لتدويل الأزمة العراقية. يتزامن كل ذلك مع اتساع غضب الشارع المشروع ضد الفساد ونظام المحاصصة والذي ينذر بالتحول إلى قوة مدمرة تقضي على البقية الباقية من هيبة الدولة. كل هذه الأزمات بدأت بالتفاقم في عام 2015 وانتقلت إلى مرحل أخطر في 2016 في مؤشر واضح على عجز العراق عن استيعاب التداعيات الخطيرة لانهيار أسعار النفط. صحيح أن أسعار النفط تعافت مؤخرا لكنها لا تزال دون نصف مستواها قبل عامين. وفي نفس الوقت فإن الارتفاع الجيد في انتاج النفط العرقي ليس كافيا لمواجهة عجز الموازنة وأزمة السيولة. وكل ذلك ينذر بخروج الصراعات المحتدمة عن نطاق السيطرة، طالما أن أحد أسبابها الجوهرية والمتمثل في تدهور الوضع الاقتصادي لا يزال ينتطر معالجة جدية. ابحثْ عن المال! اعتمد رئيس الورزاء السابق نوري المالكي المال كأهم وسيلة لتخفيف حدة الصراعات السياسية والاجتماعية والمذهبية ولتوسيع قاعدة التأييد الشعبي لحكومته. وساعده في ذلك الزيادة المطردة في أسعار النفط بعد عام 2003 والتي وصلت إلى ذروتها في ولايته الثانية عندما لامس سعر البرميل حاجز 150 دولارا. وهكذا سجلت إيرادات الدولة لعشر سنوات متتالية ارتفاعا كبيرا وسع من قدرة الحكومة على المناورة ومن إمكانياتها على استخدام الانفاق الحكومي كأداة لاستمالة الأطراف المتذبذبة في مواقفها أو على الأقل ضمان حيادها وعدم انخراطها في نشاطات معادية. ومن دون شك فإن هناك ما يبرر اللجوء إلى سياسة توزيع المال والهبات والامتيازات لفترة معينة للحفاظ على السلم الأهلي في ظل التركيبة المعقدة والتحالفات الهشة التي اتسم بها نظام ما بعد 2003. وعلى خلفية هذا النهج لم تلعب معايير الجدوى الاقتصادية والاجتماعية الدور الحاسم في توزيع موارد الدولة على المناطق والمحافظات، وإنما أعتمدت سياسه سخية ومتساهلة بهدف تجنب الصراعات والخلافات ولضمان الولاء المؤقت على أساس مصالح مالية ضيقة وقصيرة الأمد. ومن دون شك فقد ساهم نظام المحاصصة وتفشي ظاهرة الفساد والمحسوبية والمنسوبية في تكريس هذه السياسة التي أدت إلى تبديد المال العام وتراجع العائد الاقتصادي والاجتماعي للإنفاق الحكومي. وفي إطار هذا النهج تم أيضا رفع الرواتب والأجور لموظفي القطاع العام والمتقاعدين عدة مرات، بل ومرر مجلس النواب قوانين في هذا الشأن بطريقة متهورة ودون وعي كاف بتبعاتها المالية. ورغم أهمية تحسين الوضع المعاشي للمواطنيين، إلا أنه لم يكن "حسنة" لوجه الله، وإنما محاولة سافرة من المسؤولين في الأجهزة التشريعية والتنفيذية لشراء سكوت المواطنين على تمتعهم بامتيازات مالية سخية. ومع استمرار تدني أسعار النفط وصل نهج شراء التأييد والولاءات وأسلوب "تطييب الخواطر" و"رشوة" الخصوم والحلفاء إلى طريق مسدود الأمر الذي شكل الأرضية لتأجيج الصراعات السياسية والاجتماعية منذ عام 2015 . ولم تقتصر تداعيات الأزمة الاقتصادية على القطاع العام فحسب ، وإنما امتدت أيضا إلى القطاع الخاص الذي أصيب بحالة من الشلل نتيجة توقف المشاريع الحكومية ونقص التمويل. ومع أن خطورة الوضع كانت منذ البداية واضحة للعيان، إلا أن الحكومة بقيت مترددة واكتفت بترديد شعار الاصلاح دون محاولة جدية للاقتراب من جذور الأزمة. الدواء المر للأزمة تعهدت حكومة حيدر العابدي بتنفيذ حزمة إصلاحات كانت محاربة الفساد والحد من امتيازات المسؤولين و تقليص العمالة الفائضة وترشيد نفقات الدولة العنوان الأبرز فيها. والآن وبعد نحو عام على إقرار الاصلاحات، فإن كل ما تحقق هو عمليا إلغاء مناصب نواب الرئيس ورئيس الوزراء وتخفيض مرتبات الدرجات الخاصة، بينما بقيت معظم القرارت الهامة حبرا على ورق بعدما تاهت في دهاليز المحاصصة الحزبية. في المقابل سجلت معدلات انتاج النفط العراقي زيادة قوية لتصل مؤخرا إلى 4,7 مليون برميل ، فيما ارتفعت معدلات التصدير إلى مستويات قياسية بلغت في شهر مايس/مايو الماضي 3,2 مليون يوميا من المنفذ الجنوبي فقط وبقيمة شهرية قاربت 3,8 مليار دولار. ولكن هذه النجاحات الهامة لن تعني سوى تخفيف حدة الأزمة في أحسن الأحوال ، لا سيما وأن الموزانة العامة انطلقت من سعر تقديري للنفط يبلغ 45 دولارا للبرميل، وهو لا يزال أعلى من سعر التصدير الفعلي. وإزاء الوضع المالي المنهار اضطرت الحكومة للجوء إلى الاقتراض الخارجي وحصلت بالفعل على قرض بشروط ميسرة من صندوق النقد الدولي بقيمة 5,4 مليار دولار سيدفع على دفعات. وبطبيعة الحال لا يوزع صندوق النقد الدولي قروض "حسنة"، وإنما يشترط اتخاذ إجراءات لإصلاح الاقتصاد. وبهذا تجد الحكومة نفسها إزاء ضغوط داخلية وخارجية تجعل من الإصلاحات الاقتصادية الجذرية ضرورة ملحة لا يمكن تأجيها. إن معالجة العجز الهيكلي في الموازنة العامة، المؤشر الأهم للأزمة الاقتصادية لن يتحقق بإجراءات شكلية وإنما يتطلب تغييرات وإصلاحات عميقة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، وبما فيها إجراءات مؤلمة ولا تحظى بالشعبية. فحتى لو نُفذت أوامر العبادي بإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس الورزاء وشطب عدد من الوزارات وتقليص الحمايات والمرتبات للدرجات الخاصة، فإن ذلك سيعني توفير مئات الملايين من الدولارات. ومقارنة بالعجز الضخم فإنها أشبه بقطرة على صفيح ساخن. إن الحل يتطلب أولا تشخيص مجالات الإهدار والتبذير في المال العام وطرح بنود الانفاق في الميزانية على طاولة البحث، وفي مقدمتها بند الأجور والمرتبات الذي يلتهم أكثر من ثلث الميزاينة بحسب التقديرات المتاحة. وبطبيعة الحال فإن المنطق الاقتصادي يقول بأن ترشيد الانفاق يجب أن يبدأ بهذا البند. ومما لاشك فإن هناك إمكانية كبيرة لذلك من خلال القضاء على ظاهرة الموظفين الفضائيين والحد من العمالة الفائضة في الأجهزة الحكومية المترهلة وتحسين كفاءة عملها ومحاربة المحسوبية والمنسوبية في شغل الوظائف الحكومية وتقليص امتيازات أصحاب المناصب العليا. من جهة أخرى يفرض للوضع الاقتصادي المتأزم الشروع دون إبطاء في إعادة هيكلية مؤسسات القطاع العام والتي يعيش الجزء الأكبر منها عالة على ميزانية الدولة. لقد تم تأجيل هذا الملف لسنوات طويلة، ولم يعد بالإمكان الاستمرار إلى ما نهاية في إبقاء مؤسسات مخسرة على قيد الحياة من خلال منحها قروض حكومية بالمليارات يعرف الجميع أنها لن تُسترجع. بل وهناك مصانع حكومية لا يكفي انتاجها حتى لتغطية الأجور المباشرة ، ناهيك عن التكاليف الأخرى. وإلى جانب الخسائر المالية هناك أيضا إهدار كبير في الكفاءات البشرية في هذه المؤسسات حيث يعاني عشرات الآلاف من المهندسين والكوادر في مختلف التخصصات من البطالة المقنعة. بيد أن الشروع بتنفيذ مثل هذه الاجراءات الملحة يتطلب أيضا توفر إرادة سياسية واضحة وعدم استغلال هذه القضية في تأليب الرأي العام لأغراض انتهازية. كما يتطلب الاصلاح الاقتصادي الجذري إزالة التشوهات في آلية السعر والتي تتسبب بتبذير موارد مالية واقتصادية هامة. وتجدر الاشارة هنا إلى أهمية مراجعة الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر لتسعيرة الكهرباء والذي يعتبر أهم سبب للهدر غير المبرر في التيار الكهربائي. وللأسف فقد تخلت الحكومة تحت الضغط الشعبي والسياسي عن خطتها لتعديل تسعيرة الكهرباء وبما يراعي مصالح ذوي الدخل المحدود. ونفس الشيء ينطبق على البطاقة التموينية التي تلتهم المليارات دون مردود يُذكر. فمن هذا الواضح أن هذه الكلفة العالية غير مبررة مقارنة بدورها المحدود للغاية في مكافحة الفقر ، إضافة إلى كونها مصدرا للتلاعب والفساد. ومن القضايا الحساسة والمهمة في نفس الوقت هي تخفيض سعر صرف الدينار لكي يتلائم مع الظروف الجديدة ويساهم في تخفيف الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها ميزان المدفوعات العراقي. من جهة أخرى تبدي الحكومة تلكؤا واضحا في إصلاح النظام الضريبي. ولعل قانون التعرفة الجمركية يُعد مثلا بارزا على الفشل الحكومي في هذا المجال. فرغم مضي 5 أعوام على إصداره والإعلان عدة مرات عن البدء بتطبيقه لا يزال الغموض يكتنف هذا القانون الهام. والنتيجة هي خسارة الحكومة لإيرادات تقدر بالمليارات ، واستمرار انكشاف الانتاج المحلي للمنافسة الخارجية دون حماية. ولا يجوز بطبيعة الحال النظر إلى الاجراءات القصيرة الأمد المذكورة باعتبارها بديلا لاعتماد خطة طويلة الأمل لتجاوز الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد العرقي. بل يجب ان تشكل مقدمة لتقليص الاعتماد الوحيد الجانب على النفط ولاحتواء ظاهرة الدولة الريعية.
|