شيء من السريالية الممتعة أن تصحب تلاميذ المعدان وفي كل عام الى سفرة مدرسية يتنفسون فيها هواء جغرافية غير تلك الجغرافية التي تقوقعوا فيها من الازل السومري والى اليوم حيث وحده الماء والقصب والسماء المقتوحة الابواب على مصراعيها فوق رؤوسهم .
وفي كل سفرة مدرسية لتلاميذ مدرستنا الخمسة عشر .من الثالث الى الصف السادس أكون أنا من يسجل تفاصيل التعجب والخوف والدهشة في عيون الاطفال وكأنهم مثل كولمبوس يكتشفون عالما جديدا وقارة لم يكن يشاهدون ملامحها وظلالها سوى في الكتب المدرسية التي يقرأون فيها ، لكن احدهم لم يصدق ليكون في سيارة فالفو خشب يركبها اول مرة ويصيبه الذهول من بيوت مدينة الناصرية وشوارعها المزفتة أو تذهلهم حقول الورد والالواح المنسقة ومنظر النهر من فوق كازينو متنزه الناصرية التي نجعلها محطة لاستراحتنا في سفرتنا المدرسية الى آثار مدينة أور.
أجمع علامات التعجب من وجوههم واتخيل شكل احساسيهم في نظراتهم الى سلالم الزقورة وهم لايدركون معنى ان يشرح لهم معلم التأريخ أن هذا البناء المبني من الآجر والزفت الاسود هو اول معبد في التاريخ اراد فيه امراء السلالة الثالثة ان يقتربون من السماء .
سعادتهم فقط حين يصعدون السلالم الطويلة بفرح ونشاط ليصلوا القمة ليشعروا انهم حقا قريبين من زرقة السماء بعد ان كانت اجفانهم تنظر الى السماء من اعلى سوابيط لاترتفع عن الماء سوى مترين.
يتجولون بخطوات حذرة بين الطلل والاثار ، ويتذكرون ان اباؤهم يتحدثون عن تلال قريبة من قراهم تسكنها ارواح اناس مثل اؤلئك الذين كانوا يسكنون هنا ، لكنهم يصابون بدهشة اكبر حين يصلون الى بيت النبي ابراهيم ويسمعون من المعلم ان نبيا ولد هنا ، فيرد احدهم :ولكن النبي ولد في مكة كما في كتاب الدين .؟
فيرد المعلم : الله لم يبعث للبشر نبيا واحدا بل مئات الانبياء والرسل ، وابراهيم عليه السلام هو الجد البعيد للنبي محمد ( ص ) .
عندئذ اراهم ينحنون بخلسة وخشوع على الارض فيأخذون من تراب او احجار باحة البيت النبوي ويخبؤنه في جيوب الجاكيت الصوفي الذي يوزع لهم كمعونة شتاء ليقيهم من برد صباحات الاهوار القارصة.
يخبئون هذا ويعطونه لابائهم في العودة ،وبدورهم الاباء يحفظوه بصرة قماش نظيفة ويضعوه في زاوية من زاوية البيت ليكون بركة تحفظ اهل المنزل من اي طاريء ومحنة وكذلك تحفظ جواميسهم من بعض الامراض التي تفتك بها ، أو وعندما يساق ابنائهم الى التجانيد والحروب ، لقد كان ذلك التراب المقدس الذي يجلبه أطفال المدرسة من بيت النبي السومري هو التميمة التي تحفظ ابناءهم وتعيدهم سالمين من جبهات القتال.
ولكن اور وقصص البشر اللذين كانوا من سكانها ، وصمت الخرائب والخشوع الفطري في بيت النبي يبقي في الاطفال لذة كامنة لعام كامل في انتظار سفرة جديدة ينتظرونها على احر من الجمر.
هذا العام حملت اقتراحا جيدا وربما جنونياِ بالنسبة لمدرسة كل تعداد تلاميذها خمس عشرين تلميذا ومن يحق له السفر ثلاثة عشر تلميذا فقط ، وقلت اتمنى ان تكون سفرتنا هذا العام لمكان ابعد من أور .
قال المدير : يا رجل أور ومتنزه الناصرية تكاد تصيب الاطفال بالذهول ، هل في نيتكَ تجعل سفرتنا لطاق كسرى وحديقة الزوراء في بغداد ، واظن السفر الى هناك ممنوع على المدارس الابتدائية ، فالمسافة للمدارس الابتدائية حددتها التربية بمئة كيلو متر فقط ، ان اردت ان نذهب الى بحيرة ساوة فالمسافة مئة وخمسين كيلومترا وهذا ممنوع.
قلت :كلا ننحدر جنوبا ؟
قال المدير : الى اين ، للقرنة نزور شجرة النبي آدم ؟
قلت :نعم ولكنها محطة استراحتنا في سفرتنا المقترحة.
قال : اين ؟
قلت الى مرقد النبي العزير في الطريق بين القرنة والعمارة.
وبعد جهد جهيد اقنعت الادارة بالرغم من ان المسافة بين ناحية العزير حيث مرقد عزرا الكاتب ( العزير ) ، النبي اليهودي الذي توفي في هذا المكان بعدما كان مسافر من بابل ليعمد مريدية في منطقة دهلران في الجانب الايراني المقابل لمنطقة الطيب في محافظة ميسان العراقية.
وهكذا تحركت الحافلة من الجبايش صوب القرنة حيث ستكون استراحتنا لنصف ساعة تحت ظل السدرة التي نزل عليها النبي آدم وبعله حواء ( ع ) قرب الضفاف التي يلتقي فيها الرافدين دجلة والفرات ، حيث امتعض التلاميذ في البداية حين شعروا ان سيارة الفالفو الخشبية لم تنحدر بهم صوب الناصرية حيث امنية رؤية الزقورة والتزود بتراب واحجار من البيت الذي ولد فيه النبي ابراهيم.
سمعتهم يقولون :انهم ملوا من رؤية المكان ، ويشعرون انهم ذاهبون الى امكنة فيها قصب وماء وزوارق وهذا هو ما لايريدوه .
لكنني قلت لهم : كلا نحن ذاهبون الى مرقد نبي آخر غير ابراهيم وبأمكانكم جلب التراب والطين من هناك لتجلبوا البركة والامان لأباءكم .
سألني أحدهم : ومن يكون هذا النبي أستاذ ؟
قلت : النبي العزير .
صاح احدهم : أعرفه .ابي مرات اسمعه يقسم برأسه .
قلت :نعم بالرغم من انه يهوديا ، لكن اهل الاهوار يقسمون برأسه .
صاح الاطفال بصوت تعجب وذهول : نبي يهودي .
قلت نعم : لليهود انبياء كثر ، وللصابئة المندائيين الذي ينتمي اليهم زهرون الذي يأتي اليكم كل عام ليعالج اسنانكم ويصلح لكم المناجل والسكاكين هناك نبي اسمه يحيى .والمسيحيين ايضا لديهم نبي اسمه عيسى.
تعجب احد التلاميذ وقال : استاذ ( عبالنه ) كل الانبياء اسلام ومن مكة .
ضحكت وقلت : روحياً كلهم من مكة ، ولكن الاسلام له نبي واحد ، والاخرون يتفرقون على امم وبلدان وقوميات.
لم يفتهم التلميذ كثيرا كلماتي وقال : استاذ جعنا ، هل نأكل عند شجرة آدم فقط .؟
قلت :كلا ، لان الطريق طويل فيكون غدائنا عند النبي العزير.
وصلنا موقع شجرة النبي الأول ، ومن البعيد عكس تلاقي النهرين صورة الازل الذي هبط هنا وأسس للبشرية تواريخ وجودها واساطيرها وعولمتها والعقول التي رسمت المونليزا وجورنيكا وزهرة عباد الشمس وشيدت الجنائن المعلقة والاهرامات وسور الصين ، وسيرت الافواج المدرعة لتحارب في النورمادي وجبهة القرم وسيناء وجنوب لبنان.
أستمتع الاطفال بالظل البارد لشجرة النبي الأول ، وشاهدت احساسيهم البريئة مرسومة على وجوههم على شكل سعادة وقبول بجمال المكان الجديد بعد ان كانوا يحزنون لأنهم لم يذهبوا هذا العام ليجلبوا التراب المقدس من بيت ابراهيم( ع ).
واستبدلوا التراب بأنهم جمعوا الاوراق الصغيرة لشجرة السدر الذي يفترض أن آدم وحواء استظلا بها لحظة النزول على الارض لأول مرة وخبئوها في اكياس وبعضهم أزاح قليلا من الحناء التي تصبغ جذع الشجرة التي تضعها النساء اللائي يزرن المكان بعد ان تحققت نذورهن التي طلبناها من النبي لتحقيق امانيهن في الانجاب والشفاء من المرض أو عودة ابنائهن سالمين من جبهات القتال.
نصف ساعة تمنى فيها الاطفال ان تكون اطول وأنا يظلوا في هذا المكان المقدس طوال اليوم ، فقد اعجبتهم الظلال الجميلة للبساتين الغير بعيد من ضفتي لقاء النهرين ، واستمتعوا بكثرة الزائرين وزحام الناس ، واستمتعوا وهم يشترون المثلجات ( الاسكيمو ) من رجل عجوز كان يحملها بفلينة .
وبالرغم من انهم تعودوا على الماء والخضرة إلا انهم تفاجئوا بتلاميذ وطلبة مدارس من المناطق الحضرية العمارة والبصرة والناصرية كانوا يزورون المكان في سفرات مدرسية ، وبعض هذه المدارس هي مدارس ابتدائية وللبنات فسكن وجهوه اطفال مدرستنا ذهول النظر الى الخدود الحمراء لبنات مدارس المدن .
لهذا كنت اراقب مشاعرهم والفرح الخفي الذي سكن اجفانهم وهي تخبيء نظرات اشتياق غريب في عيون بنات اطفال المدارس الائي يمرحن ببرائتهن الطفولية بتنانيرهن القصيرة وتحت ظل شجرة السدر المقدسة.
ضحكت وهمست لزميل معنا في السفرة : لقد اشتعل العشق والغرام في عيون الاطفال .لنسرع في جعلهم يصعدون الحافلة قبل حدوث كارثة .
ضحك المعلم وقال :مهروش وطاح بكروش.
قلت : كلا انها فطرتهم وقلوبهم المرهفة التي منحتها لهم الطبيعة وجمالها في قرية المحاريث.
قال : اظن ان البعض من تلاميذنا لو كانت لديه الان ورقاً واقلام لبدءوا بكتابة الخواطر ورسالة الحب ، وربما القصائد.
ضحكت وقلت : انها القلوب ياصديقي ، هي من صنعت قصة قيس وليلى وروميو وجوليت وطروادة.
قال زميلي : انظر واحدة من التلميذات الصغيرات تمسك تفاحة حمراء وتقضمها بشهية امام التلميذ مسعد ، وانظر اليه كيف ينظر الى البنت بشهية وشبق ، يا لهذا المجنون ، لنبعده عن المكان قبل ان يفجر قنبلة . وربما يتقدم من الطفلة ويقبلها من خديها ببراءة ما يشع من عينيه الآن . وربما مثلها يتمنى ان يقضم التفاحة ليشعر بشهية ما وهو يتأمل بشبق الى فم الطفلة الصعيرة وهي تلوك التفاحة.
وفعلا اسرعت نحو مسعد وسحبته الى الحافلة رغم رفضه عندما قال :استاذ خلينا نكمل سفرتنا هنا كل اليوم ، ودعوا زيارة النبي العزير للعام القادم.؟
رد زميلي ضاحكا وقال : سيزعل نبي اليهود يا مسعد .
صبغ الحزن وجوه جميع الاطفال حين تحركت الحافلة مغادرة مكان هبوط النبي وبعله ، وشعرت أن جميع وجوه التلميذات بقيت مرسومة كظلال من ملامح مولنيزات صغيرات على جدران لوفر عيون التلاميذ المعدان .
عادت الاهوار ثانية الى عيون الاطفال تحمل صورها المألوفة على امتداد افق الطريق ، غير ان الاهوار هنا والتي تربط القرنة بناحية العزير يشقها طريق اسفلتي يسمح لراكب العجلة ان يتأمل امتداد الاهوار الغير بعيدة عن الضفة الشرقية لنهر دجلة ليمتد نظرك الى قامات خضراء ونحيفة لملايين من اعواد القصب ربما ينتهي منظورها حتى مدينة الاهواز الايرانية.
ساعة لتصل حافلتنا الى ناحية العزيرحيث فتحت المدينة الصغيرة أسارير وجهها الريفي البشوش وهي تستقبل اطفالا من ذات بيئتها . وتباعا نزل التلاميذ من الحافلة ولم تزل خدود بنات المدارس قرب شجرة آدم تبقي عطرها في عيون التلاميذ بتسريحاتهن وتنانيرهن القصيرة ومرحهن الشهي الذي لم يتعودوه مع بنات قريتهن .
سألني التلميذ مسعد : استاذ هل نجد هنا في المكان مدارس غير مدرستنا .؟
قلت ضاحكا : ربما نجد يا مسعد ، ولكن سوف لن ترى تلميذة وهي تأكل تفاحة حمراء.؟
أحمر وجه مسعد خجلا ، ضحك التلاميذ .
فرد عليهم بصوت عال : كلكم تحبون رؤية البنات وهن يأكلن التفاح .
قلت : لينزل الجميع من الحافلة ، نحن في حضرة نبي مقدس ، وانسوا التفاحة ، فأنها سبب هبوطنا من الجنة .
لم يدرك التلاميذ معنى ما قلته . وربما تساؤلوا مع انفسهم عن سر علاقة التفاحة بالجنة ، لكنهم نزلوا ليقفوا بطابور ، لنوزعهم على مجاميع تفترش الظل البارد لاربع نخلاتٍ قريبة من المكان .ثم قلت :هذا مرقد النبي العزير امامكم الذي يريد ان يتمم الزيارة ليذهب ، يقبل عتبة بابه الخشبي ويدخل .
لم تكن سوى مدرستنا في المكان وقليل من الزوار أبناء القرى القريبة وبعض العوائل القادمة من العمارة والبصرة وقلعة صالح .
دخل الاطفال فيما ابقى مسعد نظرته بعيوني وكأنه يقول لي :لو كنا باقين في ذلك المكان الذي تملأه البنات المرحات لكان اليوم جميلا.؟
اقتربت منه وقلت : مسعد هذا النبي يعطي المراد باليد . اطلب وتمنى .
ابتسم مسعد وقال : استاذ ، اتمنى بنت وبيدها تفاحة .
قلت : التفاح لأهل التفاح ، التحق بزملائك وخذ ترابا أو حناء من المرقد فأمك وأبيك ينتظران هذا منك.
فتح النبي ابوابه لاستقبال صغار اتوا من قرية في عمق الاهوار اسمها المحاريث. وبحس لطيف متخيل رأيت خيالا لوجه النبي بلحيته الصغيرة ووجهه النحيف وعصاه الطويلة التي ساعدته على مشقة الطريق البعيد بين بابل وفارس ، ثم يستريح بعودته هنا ، فتصعد روحه تحت ظل نخلة ربما هي من بين تلك النخلات القليلة قرب المرقد ، رأيته يفرش عبائته ويدعوا الاطفال ليجلسوا حوله ، واحسست ان الاطفال ذعروا من دعوة النبي العبراني ( البابلي ) ليجلسوا معه ، بفعل تحذير معلم لنا ظل يكرر طوال الطريق بين القرنة والعزير قوله :لاتنسوا يا صغار ان النبي الذي نذهب لزيارته الآن هو نبي يهودي.
وبالرغم من نقاشي معه لاخبره ان هذا النبي مقدس هنا من قبل المسلمين قبل اليهود الذين انقطعوا عن زيارته بسبب التهجير الجماعي لهم الى فلسطين ، إلا أنه اصر ليقول :ان العزير هو عزرا الكاتب الذي عاش في بابل واتى الى هذه الاماكن ليبشر باليهودية .
قلت : ولكن هذا النبي مذكور في القرآن ولديه معجزة .
صمت وكرر وهو يقول :انا فقط اذكر الاطفال انه يهوديا ونحن نحارب اليهود في فلسطين.
قلت : الله يخليك لاتدخل الاطفال في جدل لايفهموه ، هم جاءوا ليزورا نبي تزوره كل البشر هنا ، ولم يكونوا آتين لزيارة الكنيست الاسرائيلي.
وقتها لم يلتفت وينتبه الاطفال لنقاشنا ، ومسعد نفسه رد على المعلم بقوله : المهم يا استاذ اننا سنرى هناك بناتا جميلات يمسكن التفاح الاحمر .
ضحكنا ....
وتركنا الحافلة تمضي الى مرقد النبي الذي تجمع الاطفال حوله بفرح ولم يسألوه إن كان نبيا مسلما او يهوديا........!؟
|