رغم مرور ٥٣ عام على حركة حسن سريع البطولية إلا أنها بقيت خالدة في ضمائر من عايشوها وكذلك في وجدان الأجيال اللاحقة التي سمعت عنها وصارت لهم مثلاً يُحتذى به لما فيها من دلالات بطولية في التضحية والفداء بالروح والنفس من أجل قضية عادلة كانت تراودهم .
بعد ثورة 14 تموز الباسلة عام 1958، إنخرط الآلاف من أبناء العمال والفئات الوسطى إلى صفوف الجيش العراقي الذي إرتفع رصيده الشعبي بعد قيام الثورة المجيده بقيادة الشهيد البطل عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار. وإنخرط المئات من الشيوعيين العراقيين في صفوفه وفي مختلف الصنوف والفروع ، وكذلك إلى كل المدارس والدورات والكليات العسكرية ، وتطّعم الجيش بعناصر من مختلف الفئات والأحزاب السياسية ، وأفتُتحت في الكثير من الوحدات العسكرية مكتبات عامة توزع فيها الجرائد اليومية والمجلات والكتب الأدبية والثورية … ولكاتب السطور تجربة خاصة في هذا المجال ، حيث كنت مسؤولاً عن إحدى المكتبات العسكرية التي كانت تتوسط معسكر الرشيد في بغداد ، إحتوت على المئات من الكتب الثورية والقصص والمجلات والجرائد ، كانت محطاً لأنظارالوحدات العسكرية الأخرى بالتزوّد منها والأستعارة … وبرزت أسماء في الكتابات السياسية والثقافية والاجتماعية والعسكرية وفي شتى المواضيع الأخرى ، وأتذكر من بين هذه الأسماء الرفيق العريف " تركي كطامي السعدون " الكاتب والأديب المعروف - عضو إتحاد الأدباء العراقي آنذاك ، والذي كان يكتب تحت اسم مستعار " أبو نضال " لأنه كان عسكرياً … ولا أدري إذا كان حياً يرزق لحد الآن !! , وكان العديد من الجنود وضباط الصف وفي مختلف الوحدات العسكرية منهمكين على القراءة في بطون هذه الكتب ومطبقين الإرشادات والتوصيات الحزبية التي كانوا يتلقونها خلال الإجتماعات الحزبية ، حيث كان الرفيق الشهيد " نافع عبد الرحمن شخيتم " أحد الوجوه التي عملت بين صفوف العسكريين في تلك الحقبة من الزمن ، وكان همه الأول والأخير هو تنمية وعيهم السياسي والعسكري والثقافي ، وأن يكونوا درعاً حصيناً للشعب والوطن , وكان على رأس المظاهرات العارمة التي إندلعت إثر الانقلاب الدموي الفاشي صبيحة 8 شباط عام 1963 ، وإستشهد على أثر القصف البربري على وزارة الدفاع من قبل طائرات الإنقلابيين . لقد كانت هناك صعوبة بالغة بإحتواء المئات من العسكريين المترشحين إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي ، حيث لا يوجد الكادر العسكري الكافي لإحتواء هذا الزخم الكبير ، وكانت الإجتماعات الحزبية داخل المعسكرات ممنوعة وخطرة جداً , حيث أن قوى الردة والإستخبارات العسكرية والقوى الرجعية تنبهت هي الأخرى إلى هذا النشاط ، وراحت تسعى للإيقاع بهم ، فأبعدت العديد من الضباط عن مواقعهم ومراكزهم , وأحالت العدد الكبير إلى التقاعد وكذلك الأمر بالنسبة لضباط الصف والجنود , فنقلت العديد منهم إلى مراكز غير حساسة ، وتركز الأمر على وزارة الدفاع وحمايتها , وكذلك على قوة حماية الإذاعة والتلفزيون ومرسلاتها , وعلى القوة الجوية والبحرية , وعلى وحدات الدبابات والمدفعية وغيرها. وفي 8 شباط المشؤوم كانت حملة التصفية والإبادة الجماعية ضد القوى الوطنية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي , وإعدام المئات من قادته وكوادره , وزج الآلاف منهم في غياهب المعتقلات والسجون ، فتركت هذه الأعمال الوحشيه أثراً بالغاً في نفوس الباقين من أعضاء الحزب وأصدقائه داخل الجيش الذين لم تطلهم أيادي الإنقلابيين بعد . وأصبح التفكير بالقيام بعملية عسكرية ما للإطاحة بنظام الفاشست الجدد أمراً متداولاً بين هذه الأوساط . لكن الضربة القاصمة التي وُجهت للتنظيمات الحزبية العسكرية كانت كبيرة جداً ، بحيث لم يبق أي تنظيم حزبي بالمعنى الصحيح ، ولم يكن هناك أية قيادة فعلية لهذه العناصر المتوزعة في مختلف الوحدات العسكرية ، ولم يكن لها أي تنسيق … كنت وقتها في إحدى مراكز الإعتقال في معسكر سعد التابع للفرقة الثالثة في بعقوبة مع العشرات من العسكريين ، وكانت ترد الينا إشارات غير منتظمة مع عوائل المعتقلين حين الزيارات , بأن يوم الخلاص قريب , وما علينا إلا الصمود والتحدي ، وفي إحدى المرات وصلتنا إشارة مفادها “ أن تموز أبو الثورات " .. فهمنا منها أن شهر تموز سيكون حاسماً ، لكن من هي الجهة التي ستتحرك !؟ .. وكيف ومتى وأين !؟ .. إلخ من الأسئلة العديدة المحيرّة . كان الأمل يحدونا بأن هناك تخطيطاً محكماً كما حدث في ثورة 14 تموز الباسلة ، وأن هناك قيادة توزع المهمات على المساهمين بشكل دقيق .، وأن هناك مَن سيتحرك صوب الإذاعة والتلفزيون والقصر الجمهوري والمؤسسات الحكومية المهمة الأخرى . جاء يوم 3 تموز 1963 والفاشست لازالوا في أوج بطشهم وجبروتهم فتحرك نائب العريف الشهيد ( حسن سريع ) ورفاقه الأبطال من مدرسة الهندسة الآلية الكهربائية "مدرسة قطع المعادن ( عريبي محمد , محمود طلال , جودي مهدي ) وغيرهم وتم تحرير بعض السجناء العسكريين في بعض الوحدات العسكرية في معسكر الرشيد وأغلقوا منافذ المعسكر وكذلك البوابة النظامية الرئيسية , وإعتقلوا طالب شبيب وحازم جواد وزير الخارجية ومنذر الونداوي قائد الحرس القومي حين مرورهم من المنطقة , ولم يفلحوا في كسر سجن رقم واحد الذي يقطن فيه حوالي ( 1200) من الضباط الذين كان يعوّل عليهم في الذهاب إلى وحداتهم العسكرية والسيطرة عليها ، وللأسف لم يكن هناك أي تنسيق بين هؤلاء الضباط القابعين داخل أسوار السجن وبين الأبطال الذين قاموا بهذه الحركة التي تفتقد إلى أي خبرة عسكرية وسياسية تؤهلهم للتخطيط الصحيح الناجح ، حيث أن أولى المتطلبات هو التنسيق مع هذا العدد الهائل من الضباط داخل سجن رقم واحد , لأنه بدونهم تبقى القيادة غير قادرة على التأثير في مجريات الامور لأن القائمين بها لايحملون رتباً عسكرية تؤهلهم تحريك القطعات العسكرية , مما حدى بالبعض منهم بإرتداء ملابس الضباط من الرتب الصغيرة ، وهذا ما جاء في المحكمة العسكرية الصورية التي حكمت عليهم بالاعدام بأن قال رئيس المحكمة للمتهمين الذين إرتدوا ملابس الضباط من أعطاكم الحق بإرتداء هذه الملابس .. فأجابه الشهيد حسن سريع ومن أعطى الحق لرئيس الجمهورية أن يحمل رتبة المشير بعد ان كان عقيداً في الجيش , وكان يعني هنا عبد السلام عارف .
لقد نكل الإنقلابيون بهذا العدد الكبير من الضباط وأرادوا التخلص منهم بأية طريقة كانت ، فإبتدعوا طريقة بربرية من أجل موتهم المحقق ، بأن وضعوهم في قطار سمي بـ ( قطار الموت ) لنقلهم إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي ، عرباته خشبية تستعمل لنقل الحيوانات والبضائع ، وأغلقوا كل الفتحات والمنافذ فيها لمنع الهواء من الدخول إليها . وكانت غايتهم قتل جميع الضباط المحشورين في هذه العربات ، خاصة وأن درجات الحرارة كانت مرتفعة جداً في أيام تموز . لقد كانت التعليمات المعطاة لسائق القطار المرحوم ( عبد عباس المفرجي ) أن يسير ببطىء إلى السماوة لأنهم أوهموه أن بضاعته خاصة وتستدعي السير البطيء . لكنه بعد مسيرة ١٤٠ كم تقريباً عرف أن بضاعته الموهومة هم من السجناء السياسيين . فتصرف بحسه الوطني ، وقلب المعادلة حين سار بقطار الموت بسرعة فائقة إلى السماوة وبفترة زمنية قياسية ، ووجد أهل المدينة بإنتظاره كأنهم على موعد معه ، ناقلين إليهم المياه والثلج والملح والمشروبات والحاجيات الضرورية الأخرى ، وأنقذهم جميعاً عدى إستشهاد أحدهم وهو الضابط الغيور الرائد ( يحي نادر ) .
إن الفرق بين ثورة 14 تموز وحركة 3 تموز كبير جداً ، حيث كانت الاولى بقيادة عسكرية مجربة وقادرة على التأثير وتحريك القطعات ، والثانية تفتقدها . وفي الأولى كانت الجماهير الشعبية بقيادة جبهة الإتحاد الوطني وأحزابها المؤتلفة تسيطر على كل المدن والاقضية والنواحي مجرد الإعلان عن البيان رقم واحد من دار الاذاعة العراقية ، وكانت للآسف حركة 3 تموز تفتقد إلى مثل هذا الدعم , للضربة الشديدة التي وجهت الى المنظمات الجماهيرية والحزبية , وقتل الآلاف منهم , وزج الآلاف الأخرى داخل المعتقلات والسجون مما جعل من عملية المساندة أمراً بالغ الصعوبة ومعدومة تقريباً . إن ثورة 14 تموز خطط لها على نار هادئة , ولها العديد من الحلقات المتسلسلة في مختلف وحدات الجيش وعلى رأسهم ضباط كبار وبرتب عالية مما سهل الإستيلاء على السلطه وبشكل سريع جداً . أما أبطال 3 تموز فلم يكن لهم سوى الإستعداد الكامل للتضحية والفداء بأنفسهم ، وأن يقوموا بعملية بطولية تحمل بين جنباتها الفشل المحتم للأمور التي أسلفناها . ومهما يكن من أمر , ستبقى حركة حسن سريع الأبية من بين الحركات التي سيخلدها التاريخ السياسي والوطني لأبناء الجيش العراقي الباسل … وستخلدها الاجيال على مر العصور .
اليوم جيشنا الأبي بكل فروعه مدعوماً بالشرطة الإتحادية وقوات الحشد الشعبي وقوات العشائر والبيشمركة يسطرون أروع الملاحم في الفلوجة والرمادي وأطراف الموصل الحدباء وغيرها سائرين في تطهيرها من داعش والمتعاونين معهم من الإرهابيين الذين إستباحوا عراقنا الحبيب .
المجد كل المجد للواهبين حياتهم من اجل حرية وسعادة شعوبهم .
|