في مايس من عام 2003 ، أي بعد قرابة شهرين من سقوط نظام البعث في بغداد. كنت ، مثل المئات من الوطنيين العراقيين الذين إعتقدوا أن النظام قد تغيّر فعلاً وأن الديموقراطية قادمة ، قد بدأنا كل من موقعه نفعل مايمكن فعله من أجل المساهمة بحل مشاكل العراق المستعصية كالإسكان والطاقة والضمان الإجتماعي والصحي والتعليم والنقل . أرسلتُ للسيدة وزيرة الأعمار الهولندي " سيبيللا ديككر" خطاباً نارياً شرقي اللهجة عبر مكتبها ،يحمّسها لفسح المجال للعراق الإفادة من خبرة هولندا في السيطرة على مشكلة السكن ملوحاً أمامها بالمستقبل " المشرق" الذي ينتظر العراق فهو بلد غني وافر الخيرات بشعب متطور ..عانى من إبعاد قسري عن مسيرة التقدم بسبب حصار لاذنب له فيه ، الى ماهناك من الخزعبلات التي أثبتت الأيام إنتفاء صحتها . المهم في الأمر أن خطابي قد أثر بالسيدة الوزيرة ومقربيها وبعد نقاشات حول " الوضع الأمني" في العراق وتأكيداتي أن الآمور في طريقها للإستقرار وأن الإرهاب زوبعة لاتلبث أن تنقشع فنتمتع جميعنا بسماء العراق الصافية ، وبعد أن بالغت مع نفسي ومعها حين حاولت إقناعها بتحضر شعبنا وعصريته وتوقه للحاق بأوربا، حيث سيتوجه ملايين العراقيين قريباً لصناديق الإقتراع فيأتون بأبناءهم الوطنيين المتمدنين ليجعلونهم قادة يقودون البلاد بإتجاه التقدم والتطور ....فيعوضون البلاد ما لحق بها من دمار الحروب والحصار والتخلف، وأن أوربا سترى وجوهاً غير التي إعتادتها من السياسيين العراقيين..و..وو ..دون أن يخطر على بالي آنذاك أن برلماننا سيمتلئ بعد أيام بما لايسر من وجوه .. وأن نظاماً لتفريخ وحماية الحرامية كان في طور الصيرورة والتشكل سيقعي علينا مثل ليل ثقيل لا آخر له ....ودون أن يمر بخاطري أن النخب السياسية ستتميز بالصلافة والجشع والتشبث بالإمتيازات الشخصية الى الحد الذي رأيناه وما زلنا نراه . أثمرت الجهود أخيراً بأن أدرج العراق ضمن قائمة الدول التي بإمكانها الإفادة من تجربة هولندا . كان ذلك يوم عيد إحتفلت به متخيلاً نفسي أحقق أول إنتصار بعد سقوط الدكتاتورية إذ أن موافقة الوزيرة كانت تعني ،أن هولندا ستستقبل الوفود العراقية وتستضيفهم للإطلاع على ماتحقق هنا وأن هذه الوفود ستتصل بالشركات والمكاتب الهندسية والبيئية عالية المستوى فتأخذ من خبرتها وأن المختصين الهولنديين سيزورون العراق ضمن برنامج تعاون بنّاء ومخطط له مما يفتح أمام وطننا فرصة بدء البناء الصحيح بدلاً من التخبط والعشوائية التي صبغت خططنا . في يوم أسود ( أو لعله أبيضأ) نقل لي التلفزيون أن السيدة "سيبيلا ديككر" قد إستقالت! وبإستقالتها تقطعت شبكة الخيوط التي نسجتها معها بعد سقوط النظام في 2003 بغية إشراك العراق ببرنامج هولندا الخاص بدعم الإعماروالإسكان في العراق. نعم إستقالت الوزيرة، ولا أعتقد أن أحداً من مسؤولي العراق الحاليين سيصدقني حين أطلعه على أسباب إستقالة هذه الوزيرة، بل ولعل كل من جرب الوصول لكرسي الحكم في العراق سيضحك مني مردداً القول العراقي المعروف " يمعوّد إشتر بعقلك حلاوة " ومع ذلك أتمنى أن يصل ما أكتبه الآن لهؤلاء الذين ورثوا أملاك صدام وبعضاً من أخلاقه علهم يجربون النظر لوجوههم بعد ذلك في المرآة: في يوم في 27 اكتوبر من عام 2005 شب حريق في سجن مطار امستردام مخصص لإحتجاز المشتبه بهم من مهربي المخدرات والقادمين غير الشرعيين عبر المطار بعد أن أضرم أحد السجناء النار إحتجاجاً أو خبلاً. أدى الحريق الليلي الى سقوط 11 ضحية من هؤلاء الأجانب . عندها وقفت السيدة "ديككر" أمام المحققين لتقر بإعتبارها "مذنبة" كوزيرة للإسكان لم تتمكن من توفير وسائل السلامة لنزلاء سجن هو في المحصلة بناية حكومية هي مسؤولة عنها ! وبعد ذلك قدمت إستقالتها في سبتمبر 2006 ! السيدة "ديككر " لم تكن رئيس وزراء دولة، ولا وزير داخليتها ولم تكن لها علاقة بجهاز المخابرات ، ولم تكن من مهامها حماية البلاد وآمنها من الإرهاب، ولم تكن بأية حال وزيرة في بلاد تجتاحها الإنفجارات والمفخخات وتلتصق بأهدابها العبوات اللاصقة ..وتتطاير أشلاءها يومياً. إستقالت لأن في رأسها شئ ينبض إسمه الضمير وفي أعماقها شئ إسمه تقدير المسؤولية.
|