مباحث في الاستخبارات(10) المكافحة والاستخبار

مدخل
==========
موضوع هذه الحلقة مهم جدا لان هنالك وهم وخلط كبيرين بين واجبي الاستخبار والمكافحة, بين كشف خلية ما وبين الهجوم عليها ومكافحة خطرها وتقديمها للعدالة .
وهو امر عانينا ,ولانزال , من الخلط بينهما , وكان من نتائج ذلك تشتت الجهود وتبعثر اية امكانية لتراكم المعلومات وفهرستها والاهم من ذلك عدم تمكن الحكومة من تحديد المسؤول عن كل واجب لتبيان تقدمه او تقصيره.
اذ ان المتعارف عليه ان في كل بلد هنالك نوعان من الاجهزة المختصة بأمن البلاد ,اجهزة مهمتها الاستخبار , واخرى مهمتها المكافحة , ماعدا بعض الاستثنائات.
===================
بين الاستخبار والمكافحة 
===================
ففي دول العالم هنالك دورة يتم بها العملان الامني والاستخباري , فهنالك جهاز استخباري مهمته ان يتلقف ويتابع اي خبر من خلال مجساته سواء كانت العلنية كالاعلام اوالسرية كالمصادر , ثم يستخبر عن الخبر بشكل سري ليحوله الى معلومة استخبارية ويحلل المعلومة ليتبين حدودها ومدلولاتها ومدى خطورتها , ثم يدقق المعلومة بمختلف الطرق بالمراقبة والتنصت وغيرها من الاساليب , ثم يحصر الهدف بشكل دقيق ومعلومات مؤكدة .
وبعد هذه المراحل الخمس يبلغ الجهازُ الاستخباري الجهازَ المكافح بالقضية بملف تفصيلي ويطلب منهم العمل عليه , اي انه يسلمهم قضية متكاملة الاطراف , وهنا تبدأ الخطوات القانونية للجهاز المكافح فيبدأ بالمراقبة بامر قضائي , ثم يقوم بالخطوة العملية بالاعتقال او القتل (اي بالاشتباك مع الهدف)وقد يحتاج هنا الى جهاز مساند كجهاز التدخل السريع او الجيش , بحسب المهمة , وحين انتهاء مهمة الهجوم من قبل التدخل السريع او الجيش , فان مهمتهم تنتهي ولايحتفظون بالمعتقلين بل يسلمونهم فوراً للجهاز المكافح وينسحبون , لتبدأ خطوات التحقيق من قبل قضاة تحقيق مختصين باحد نوعين , اما ان يكونوا مختصين بنوع الجريمة (قاضي مختص بغسيل الاموال واخر بالمخدرات وثالث بالارهاب وهكذا) او مختصون بعدو معين (قاضي مختص بداعش واخر بالجيش النقشبندي وثالث بأنصار السنة وهكذا) , وتكمن اهمية القضاة المختصين في ان لديهم المام تراكمي بالقضايا والتنظيمات العصابية ولايستطيع المتهم التلاعب بهم .
وبعد اكتمال التحقيق , يسلم الجهاز المكافح الى الاستخبارات التي احالت القضية اليه نتائج التحقيقات والاعترافات بتغذية عكسية لتكمل الاستخبارات بياناتها وتصححها وتحدثها , وقد تنتج من الاعترافات اهدافاً جديدة , وبعد ذلك يقوم الجهاز المكافح بتقديم المتهمين وملفاتهم الى القضاء لتصدر عليهم الاحكام القانونية العادلة .
ان ماذكرناه هو الشكل المثالي المعمول به في العلاقة بين الاستخبار والمكافحة , والمطبق في الدوائر الامنية والاستخبارية في العالم ,وهو مانفتقده للاسف .فهنالك خمسة خطوات للاستخبار تليها كما اوضحنا خمسة خطوات اخرى للعمل الامني المكافح ,وهذه الخطوات العشر مترابطة ومتسلسلة لاتتقدم اي منها على الاخرى , ففي الاستخبار هنالك :
1.الخبر. . 2.الاستخبار . 3.التحليل 4.التدقيق . 5.التهديف.
تليها مراحل المكافحة الخمسة وهي :1. المراقبة . 2. العمليات ( التدخل باستمرار المراقبة اوالاعتقال اوالقتل) . 3. التحقيق . 4. التغذية العكسية . 5. الاحكام القضائية.
ولكن هنالك خطوة حادية عشر ليس لها تسلسل او توقيت معين وهي المعالجة , فحين يرى طيار ارهابياً يزرع عبوة ناسفة على الطريق فانه لاينتظر اياً من تلك الخطوات العشر وانما ينفذ الضربة في الحال , واحياناً تكون هنالك خلية ارهابية تراقبها الاستخبارات او جهاز المكافحة ضمن اي من المراحل العشر , ولكن اذا بدر من الخلية الارهابية مايفيد بقرب التنفيذ لعملية الارهابية , فلابد من التدخل بالمعالجة دون تسلسل للخطوات .ووفقاً لما ذكرناه ووفق الشواهد في الدوائر الامنية والاستخبارية في العالم , فان هنالك في كل بلد جهاز مكافح مركزي واحد تحال اليه كافة الملفات من الاجهزة الاستخبارية التي لابد من تعددها , بحكم طبيعة وجغرافية عملها , ففي بريطانيا هنالك جهاز استخباري داخلي MI5 وجهاز خارجي MI6 وهنالك استخبارات عسكرية , ولكن هنالك جهاز مكافح واحد هو الاسكتلانديارد.
وفي امريكا هنالك CIA كجهاز استخباري والمخابرات العسكرية في الجيش ,وجهاز الاستخبارات الفني وهنالك جهاز مكافح واحد هو الFBI .
وهنا نلفت الانتباه الى ملاحظة مهمة , ونعني بها العمل المخابراتي خارج الحدود والذي تقوم فيه الاجهزة الاستخبارية باعمال المكافحة كالخطف والاغتيال بل والاعتقال احيانا .
العمل الاستخباري ينقسم الى عمل داخل البلاد وعمل خارج البلاد او لنقل داخل اوخلف خطوط العدو او في بيئته . 
ومما لاشك فيه فان العمل خارج البلاد يكون في ظروف بالغة الصعوبة والسرية وبلا اي غطاء حكومي , فهو عمل ليس فقط غير قانوني , بل انه بمثابة تهمة للبلد الذي يتبع له الجهاز الاستخباري ويتم نفيه وعدم الاعتراف به في حال انكشافه , فكم من عملية استخبارية قام بها بلد ما خارج حدوده , وفي ذات الوقت انكرها واستنكر فعلها وادانها !!!!.
ولتعقيدات العمل المخابراتي الخارجي فان الدولة تتيح لمن يقومون بالعمل المعقد والخطير ان تكون لهم الصلاحية السرية في كافة المراحل سواء مايتعلق الامر بها بالجانب الاستخباري كالتجسس والتجنيد , او العمل المكافح في معالجة الاهداف التي تشكل خطراً على البلاد , ومن هنا تجد ان الCIA جهاز استخباري ولكنه تولى عملية قتل بن لادن(بمساعدة قوة خاصة) , لان الجهاز المكافح في كل بلدان العالم لايستطيع ان يعمل خارج اطار حدود الوطن , فعمله امني يتم من خلال رجال الدولة بشكل رسمي وتحت شرعية السلطة القضائية, والعاملون ليسوا اجانب وهم ضمن وكالات حكومية مختصة بالعمل الامني تحت اشراف السلطة القضائية. ================
بين المضمد والطبيب!!!!
================
باعتبارنا بلد العجائب والمتناقضات , بلد يمنع المضمد والصيدلي من ان يصف للمريض الدواء ويحصر الامر بيد الطبيب , لكننا وبكل بساطة نسمح لمضمد ان يقود العمل الامني !!!!.
لعل من ابرز المظاهر التي ادت الى تراجع العملين الامني المكافح والعمل الاستخباري تتلخص في تعويمهما ,فلسنوات عديدة تركنا الجيش يكافح والشرطة تكافح وحتى الصحوات و الاجهزه الامنية والاستخباريه كلها تستخبر وتكافح , حتى وصل الحال بان اجهزة الامن الداخلي كالشوون الداخليه ذات المهام الرقابية تعلن عن اعتقال شبكه ارهابية اي انها تتحول لجهاز مكافحة , فصارت الاستخبارات تكافح والمكافحة تستخبر , وهذا الامر اضاع المركزية والتحقيق والتغذية العكسية للجهاز الاستخباري و انتشر الفساد بين القوات المسلحة من خلال بيع المعتقلين في ظل غياب قاعده بيانات ومرجعية امنية وتسيب قضائي .
فلو كان هنالك جهاز مكافح يعمل وفق ملف يقدم له من اجهزة الاستخبارات , لما استطاعت اية جهة ان تفلت الارهابي او ان تساومه لان الاستخبارات ستبقى تتابع الملف بما يشبه الجرود المخزنية .
ولكن تعويم المكافحة ساهم في تدمير الجهد الاستخباري واضاعة الخيوط ونتائج التحقيق وربط الاعترافات ببعضها , وكذا كان الامر بتعويم الجهد الاستخباري وعدم ارجاعه الى المؤسسة المختصة وعدم وضع المختصين فيها , ووضع رجال من غير ذوي الاختصاص وفق المحسوبيه والحزبيه فصارت المناصب الاستخبارية والامنية عرضة للمساومات التي فتحت المجال لفاشلين وتجار واعلاميين , بل واميين الى ان يشقوا طريقهم الى مناصب استخبارية في بلد يمزقه الارهاب.
كان على الحكومه بناء وكالة امنية مختصة بمكافحة الارهاب والجريمة المنظمة والتجسس وتمد اذرعها في كل المحافظات , وتعتمد على قضاة مختصين ومحققين خبراء , وتكون مرجعية لكل عمل مكافح وهي التي تطلب من الجيش او جهاز مكافحة الارهاب ضرب اي هدف تحتاج ان تهجم عليه شريطة ان ينتهي دور الجهات المنفذة حال تنفيذ العملية وتسليم المعتقلين والمقتولين للجهاز المختص والانسحاب بدل الفوضى التي كانت في هذا المجال, وهو مالم يحدث للاسف.ان مانقوله له اهمية قصوى في فك اشتباك الاجهزة الامنية والاستخبارية والمكافحة لدينا , فلدينا الجميع يعتقل والجميع يستخبر والجميع يكافح والجميع يقدم متهمين للقضاء والجميع لايعنى بدور الجميع ضمن خلط وتشابك اضاع الكثير من الجهد وضيع امكانية المحاسبة ومعرفة المقصر , فالجيش يستخبر ويكافح ويعتقل , وكذا الشرطة بكل صنوفها , والامن الوطني كذلك بل ان جهاز مكافحة الارهاب تحول الى جيش عسكري وترك مهمته في المكافحة , وبالطبع ادت الفوضى ان لاتوجد بيانات دقيقة ولاتغذية عكسية تتيح ان تكون هنالك خارطة دقيقة للتنظيمات العصابية والاجرامية والارهابية , وتنسحب الفوضى الى التحقيق , فلطالما افلت عتاة من الارهابيين والمجرمين من محققين غير ملمين بنوعية المتهمين المتمرسين ولابتشكيلاتهم العصابية , فمهرب المخدرات يستطيع ان يتلاعب بالحقائق والاسماء وبالاعترافات المزيفة حين يحقق قاض غير مختص بجرائم وتشكيلات عصابات المخدرات , فمابالك اذا قاد التحقيق ضابط في وحدة عسكرية واحاله للقضاء!!!!.
نستنتج مما سبق ان المكافحة الامنية هي عمل امني داخل حدود الدولة تتم بعمل اولي مهم تقوم به الاستخبارات وبطلب منها , اما الاستخبارات فعملها داخل الدولة يكون استخباري بحت ولاتمارس العمل المكافح , اما في عملها الخارجي فتقوم بمهمتي الاستخبار والمكافحة(المحدودة) . ===========
خلاصة 
===========
لدينا في العراق خلط بين العمل الامني المكافح من جهة والعمل الاستخباري من جهة اخرى , وهذا الخلط له عاملان خطيران , اولهما تدخل المحسوبية والتحزب في تعيين القادة في الاجهزة الاستخبارية والامنية مما ادى الى تسيّد قيادات لاتفقه بالفرق بين العملين ولافي تطبيقاتهما , والسبب الثاني ان هنالك جهات كثيرة كانت ولازالت ترى ان الفوضى في الاجهزة الاستخبارية والامنية واختلاط اعمال المكافحة و اعمال الاستخبارات تعد امثل وضع للفساد المالي والاداري والابتزاز ومساومة الارهابيين , فصارت الفوضى بمثابة قنابل دخان تغطي جرائمهم . والله الموفق.