من القضايا الطريفة التي شهدناها اثناء ممارسة المحاماة في بغداد عام ١٩٩٦ ، والتي اصبحت من الطرائف التي يتندر بها المحامون في العراق آنذاك ، وهي قصة شيخ تقي من أهالي الكرادة في بغداد ، قد اعتاد الذهاب الى الجامع للصلاة يوميا ، وكان الجامع لايبتعد عن بيته سوى موقف واحد للباص . وفي احد ايام شهر تموز القائض ، ارتأى شيخنا هذا ان يستقل الباص بدلا من السير تلك المسافة القصيرة تلافيا للحر اللاهب. ولكون الرجل من التقاة والزاهدين ولا خبرة له او تجربة بأمور الفساد والفاسدين ، فعلى مايبدو كان هناك في موقف الباص فتاتين من بنات الهوى ، يتظاهرون بأنهم ينتظرون الباص ولكنهم في الواقع ينتظرون من يطلب منهم ممارسة الجنس لقاء مبلغ معين من المال. وماهي الا دقائق حتى وقفت سيارة شرطة الآداب امام موقف الباص وداهمت من فيه وساقتهم الى مركز الشرطة لتوقيفهم ، وقد استغرب الشيخ من معاملته لاسيما وانه لم يفعل مايخالف القانون ، وانه متأكد من براءته ، الا ان الشرطي عاجله بضربه على رقبته لإرغامه على صعود السيارة قائلا: اصعد گواد . فيما اصابت الشيخ دهشة كبيرة وصدمة مفاجئة لاسيما وانه شيخ وقور محترم من الجميع ، اما بنات الهوى فأخذن يضحكن عاليا غير مباريات لما يجري ، فهم يدركون جريمتهم جيدا في ممارسة البغاء، وواثقون من خلاصهم ايضا . وفي مركز الشرطة حضر محامي البغايا وما أكثرهم ، وأطلق سراحهم بكفالة باعتبار ان الشرطة لم تلقي القبض عليهم وهم متلبسين بجريمة ممارسة البغاء . فخرجن وهن يقهقهن بصوت عالي . اما شيخنا فقد أودع التوقيف لعدة ايام بعد تحقيق قصير اتهم فيها بممارسة السمسرة او القوادة ، وذهبت كل جهوده هباءً وهو يحاول ان يشرح لهم انه رجل دين محترم وان لحيته دليل إيمانه لا تسمح له بذلك ولإعلاقة له بتلك البغايا ، وقد علاه الحزن والاسى ، واهله لايعرفون بمصابه الاليم ، وليس لديه محامي ليطلب حضوره فورا، وقد شعر بالغبن والظلم وقلة الحيلة في زمن لم يكن هناك هواتف نقالة للاتصال . ومرت الأيام وشيخنا تمدد له ايام التوقيف تلقائيا دون حل لمشكلته . وفي تلك الأيام زار مفتش وزارة الداخلية ذلك المركز وطلب زيارة الموقف والاطلاع على قضايا الموقوفين لحسمها ، وبطبيعة الحال فقد رافقه مدير شرطة المركز الجديد بعد نقل المدير السابق ، ويبدو ان المدير الجديد كان قليل المعرفة بالموقفين وقضاياهم وأسباب توقيفهم . وبدأ المفتش يسأل مدير الشرطة عن كل متهم وسبب توقيفه ، فيما يرد مدير الشرطة بما لديه من معلومات بخصوص ذلك الشخص ، فهذا متهم بالقتل ، وذاك بالسرقة وما الى ذلك. ولما لاحظ المفتش ان هناك شيخ في زاوية السجن ، ويبدو من هيئته انه قد مضى عليه وقت ليس بالقصير في التوقيف ، فتسأل : وهذا شنو قضيته؟ ففكر مدير الشرطة الذي لم تسعفه ذاكرته بتذكر قضية هذا الشيخ لبرهة قصيرة واستنتج ان تهمة رجال الدين معروفة آنذاك ثم قال : ها اعتقد سيدي قضية انه من حزب الدعوة . وكانت تلك التهمة يومذاك كافية لإحالة الشخص للإعدام غير مأسوف عليه . فما كان من شيخنا الذي صمت طويلا الا ان ينتفض صارخا : لا عمي ، اني الگواد چا نسيتوني ؟ فقهقه الحميع ضاحكين ، وأدركوا ان هذا الشيخ المسكين بريء من أية تهمة ، لانه يعترف على نفسه بالسمسرة وهي جريمة عقوبتها قد تصل الى السجن لمدة سبع سنوات، لكي يتخلص من تهمة الانتماء لحزب الدعوة الذي كان حزب البعث يحاربه ويقمع قياداته ويطاردها. وحتى به ان أوكل محامي للدفاع عن هذا الشيخ ساله قائلا : كيف قلت ذلك ، الا يعد هذا اعترافا منك بجريمة لم ترتكبها . وأخذ الشيخ يدافع عن وجهة نظره انه مازال يفضّل ان يكون قوادا على مضض ، من ان يكون منتميا لحزب الدعوة. تذكرت هذه الدعوى هذه الأيام وقد استلم حزب الدعوة السلطة في العراق منذ ١٣ عاما ، وبتصرفاته االفاشلة وسوء ادارته قد اثبت ما ذهب اليه ذلك الشيخ المسكين من ان مهنة قواد أفضل من الانتماء لحزب الدعوة .
|