ناموسيات قُبلاي خان

في مدينة حيدر آباد الهندية كان هناك حي سكني كبير يسمونه المدينة القديمة حيث الطرز الاثارية في المعابد الهندوسية والبيوت الملوكية ذات القباب والتي كان يسكنها ولاة وملوك ومهراجات المدينة ، والجوامع والاضرحة المتبقية من الحكم المغولي ــ الأسلامي الذي حكم الهند لقرون عديدة.
في تلك الجهة القديمة من المدينة يوجد متحف الفنون الاسلامية في العهد المغولي والعهود الاخرى ، ومن بين ما رأيت صورا لملوك مغول ممدين على السرير في وقت النوم او القيلولة وفوق رؤوسهم ناموسيات لتقيهم من البعوض ، الذي يأتي الى المدينة من مزارع القصب والمستنقعات المحيطة بالمدينة المكتظة بالبشر بشكل غريب وخصوصا في شهر حزيران حيث كنا وكان الجو شرجياً خانقاً وممطراً .
أمام استراحة الملوك التتر وهم تحت الناموسيات أستعدت ذكرياتنا في الاهوار ، عندما كانت الناموسية واحدة من اهم ضرورات العيش في المكان وخصوصا في ايام الصيف حيث البعوض والحرمس والبراغيث ، ولآاعتقد ان معلما يستطيع ان يبقى ليلة واحدة مضطجعا فوق سوباط الخشب او داخل الصريفة بدون تلك الناموسيات البيضاء التي كنا نشتريها من المدينة ونخطيها عند خياطي القيصرية ، اذ لم نعرف الناموسيات الجاهزة إلا عندما ذهبنا الى الجيش وكانت توزع على الجنود مع اليطخات والاحذية والزمزميات وخصوصا في الصيف وللوحدات التي تتجحفل في المناطق المائية والزراعية والقريبة من الاهوار .
مكثت في مدينة حيدر آباد لاكثر من شهر ، من منتصف مايس حتى اواخر حزيران حيث اتى صيف رياح الشرجي الخانقة وافواج لاترحم من حشرة البعوض التي بدأت تغزو ليل المدينة بشكل عجيب ، مما اضطرنا لننام فوق سطح الفندق ، وكان علينا ان نشتري ناموسيات من السوق كنا نبللها بالماء وننصبها ليمر عليها الهواء الرطب والدبق فيتحول الى نسائم باردة تستطيع فيها ان تنام كما في جو المبردة حتى لو لساعتين وحين تشعر بلزوجة المكان تنهض مرة ثانية لتغمسها في الماء وتعيد نصبها .
يوم ذهبت الى سوق المحرومين هكذا يسمونه في حيدر اباد لشراء ناموسية سألت احد الهنود الذي يتكلم العربية عن افضل نوع من الناموسيات قال لي ان النوع المسمى ( قبلاي ) هو افضل نوع .
ضحكت وقلت هل تقصد قبلاي خان ؟
قال الهندي : انا ما يعرف ، ولكن الكثير هنا يحملون الاسم ، وهو اسم كان الكثير من المغول يسمون ابنائهم به بعد ان أصبحوا أسلاماً .
قلت : هذا يعني أن صاحب معمل الناموسيات أسمه قبلاي ولا يمت بصلة للامبراطور المغول الاسطوري الذي حكم في الصين والذي ذكره كثيرا في حكاياته الرحالة الايطالي ماركو بولو؟
عاد الهندي ليقول بعربية مكسرة  :والله هذا حكي يقول عليه أنتَ ، انا ما يعرفه .
قلت :اذن لنذهب نشتري ناموسية قبلاي خان ، فربما في الليل اعيد معها متعة استعادة ما قراته من كتاب رحلة ماركو بولو وحواراته المذهلة مع الخان المغولي.
هز رأسه موافقا وذهبنا صوب متجر لبيع الناموسيات ، وكانت اغلى الناموسيات هي من النوع المسمى ( قبلاي ).
وما ان نظرت الى الناموسية وانا اقلبها لاعرف جودة قماشها حتى تفجأت بصورة الخان المغولي مرسوما  في اذيالها كعلامة تجارية لهكذا نوع من الناموسيات وكن بأشكال واحجام والوان عديدة ، فيما نحن لم نتعود سوى على تلك الناموسيات البيضاء التي كنا ننام تحتها في ليل الاهوار وقماشها في اغلبه صينيا ، أما في العسكرية فقد كان لون الناموسيات خاكيا كما لون ملابس الجيش حتى تتلائم من طبيعة المكان في العش والتخفي وكانت تأتينا من كوريا .
وفي الحالتين حتى تلك التي نستخدمها في الاهوار والعسكرية لها علاقة بقبلاي خان حيث حكم الصين وكوريا وشعوب هذا المناطق هي من ذات العرق الذي ينتمي اليه.
أتخيل اللوحة التي يتمدد عليها ملك حيدر آباد المغولي واقارنها بالصورة المطبوعة على ناموسية قبلاي خان التي اشتريتها من سوق المدينة فتتناثر على رأسي الصور التي كنا نمتع فيها خواطرنا ولذة القراءة يوم كانت حكايات ماركو بولو بعض من ينابيع ثقافتنا واحلام العبور الى الضفاف الاخرى.
كولمبس وماجلان وابن بطوطة وابن خلكان والسندباد وفاسكو دي غاما وابن ماجد وماركو بولو كلهم يشتركون في حكاية الطريق الرابطة بين المدن والقارات وحتما كانوا يشاهدون في صيغ تلك المدن الاستوائية والحارة تلك الناموسيات ، وقد يكونوا قد جلبوها معهم الى بلدانهم وبدأ شغف نوم الملوك داخلها ، ولاادري فربما عن طريق الجنود الهنود ( الكركه ) الذي جاؤا مع المحتل البريطاني  تعلم معدان الاهوار استخدام الناموسيات.