العقل هو المصدر المعرفي في الحياة، وقد ورد في القرآن الكريم كثيراً بتعابير متعددة: اللب، النهى، الفؤاد، القلب وغيرها، والعقل كاشف، اما النفس فهي المريدة بفعل القوى الفجورية والتقوائية (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)([1]).
وقد خلق الله العقل من نوره وكرّمه على جميع خلقه وجعل للعقل خمسة وسبعين من الجند، وخلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً وأعطاه الله خمسة وسبعين من الجند كذلك.
مثل: الخير من جند العقل بينما الشر من جند الجهل.
وهكذا: الايمان والكفر، والعدل والجور، والشكر والكفران، والتسليم والشك، والصدق والكذب وهكذا، ولا تجتمع هذه الخصال الخمس والسبعون من خصال العقل وجنده إلا في نبيّ أو وصيّ نبيّ، او مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، صدق مولانا الامام جعفر الصادق (عليه السلام)([2]).
فالعقل طريق لمعرفة الله سبحانه، وهبنا الله العقل ليعيننا على ادراك الحقائق وفهمها، فبه نفكر ونفقه ونذكر ونبصر قلبياً ونقلب الامور وهذه المطالب ذكرها القرآن الكريم ودعانا لتطبيقها واستخدامها لنقف على المعلومة والمعارف والعلوم ونحفظها ونتذكرها ونبصر ابصار دراية فيها.
فالانسان خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً ثم استخدم السمع ليفيد مما ينقل اليه من علوم ثم يبصر فيها ليميزها بالمشاهدة ثم يدركها بالفؤاد فيقف على الحقائق غير المحسوسة فيدركها ويفهمها: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والافئدة لعلكم تشكرون)([3]).
وقد قرن رسول الله (صلى الله عليه وآله) العقل بالدين: (ولا دين لمن لا عقل له)([4]).
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) انه طريق الى الرقي في الجنان: (العقل رقيّ الى عليّين)([5]).
وعن الامام الصادق (عليه السلام): (العقل دليل المؤمن)([6]).
فهو الحجة الباطنة بينما الرسل والانبياء والائمة حجة ظاهرة. وقال الامام الكاظم (عليه السلام): (وما بعث الله أنبياءه ورسله الى عباده إلا ليعقلوا عن الله)([7]).
ومكونات هذا العقل كما يذكرها الامام الصادق (عليه السلام) أربعة أشياء: (خلق الله تعالى العقل من أربعة أشياء: من العلم والقدرة والنور والمشيئة بالأمر فجعله قائماً بالعلم دائماً في الملكوت) الاختصاص للشيخ المفيد.
فترة الركود العقلي:
بمجيء الاسلام تحرر العقل من قيود وأوهام كان يغط فيها فترك الانسان المتحرر عبادة الاصنام واحترم النفس ولم يقتلها عبثاً وسعى لبناء الانسان واسعاد مجتمعه لكن الأمة مرّت عليها قرون من الزمن أصيبت فيها بالجمود الفكري وانتزعت منها المبادرة العلمية وأوصد باب الاجتهاد وكثرت كتابة الحواشي والتعليقات ومحاكاة الماضي من غير إبداع فتقيد عطاؤها وقل ابداعها وتسطحت نظراتها للاشياء ولعل الاستبداد وضعف النزعة للتغيير وضعف الاحساس بالمسؤولية والخوف من المستقبل وعوامل أخرى وراء هذا الجمود والركود الفكري فلم توظف الطاقات العقلية بشكلها الصحيح، في وقت تحرك فيه الغرب وتقدم في الجانب المدني والاكتشافات المادية.
وقد هيمنت عليها النزعة الفردية في المعالجات وحتى في الاحكام الشرعية. وغلب التطرف والغلو وساد تقليد أعمى في ظل توقف الاجتهاد فغرقت الأمة بالاهتمام بالجزئيات والقشور وعمّتها سطحية مرعبة في تفكيرها ونظرتها للاشياء وما حولها، فتعصبت لفرقها ومذاهبها وتوسع الشرخ والفرقة فيها. ولو كانوا قد رعوا للعقل دوره في التحليل والتركيب والاستنباط لما دامت هذه المحنة وفتنة الركود الفكري زمناً طويلاً.
العناصر الثلاثة في المجتمع:
يرى مالك بن نبي ان كل مجتمع يتكون من ثلاثة عناصر رئيسة هي:
عالم الافكار وعالم الاشخاص وعالم الاشياء وتتشكل العلاقات بين هذه العناصر وتتبدل الولاءات فيها لمقتضيات زمانية ومكانية فاذا ساد الولاء لعالم الافكار ترى مجتمعاً يسوده التفكير يتقدمه العقلاء الذين يدركون فقه التحديات ويعالجون الازمات بمعايير فكرية لخدمة الانسان والمجتمع.
وحين يكون الولاء لعالم الاشياء فتغلب المصالح التجارية ورؤوس الاموال وتتأطر العلاقات الاجتماعية بقيم هذه التحولات المادية، واذا كان الولاء للاشخاص فتكثر عبادة الفرد وتقديس العشيرة والعائلة والمناطقية.
ومن هنا تتحدد اتجاهات الحركة العقلية المجتمعية من خلال هذه العناصر والعلاقات الناتجة عنها فتبرز قيمة العلم، حين يكون الولاء لعالم الافكار.
التنوير العقلي:
1-حين يكون العقل فاعلاً ومتحرراً من قيود التخلف والتحجر والجمود بأمكانه ان يقاوم (سنة الآباء) قال تعالى: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)([8])، وان كانت تدعو لعبادة غير الله سبحانه، المهم لديهم انهم يحافظون على التقاليد الموروثة.
2-وحين يحضر العقل بقواه الفاعلة يختفي الغلو والتطرف قال امير المؤمنين الامام علي (ع): (هلك فيّ اثنان: محب غال ومبغض قال). (نهج البلاغة)
3-من اجل مواجهة الاعراف الاجتماعية الخاطئة كأذلال المرأة واحتقارها والمعاملة القسرية لها وعدم توريثها في بعض الاعراف العشائرية وهي مخالفة صريحة للتشريع الالهي.
4-لمواجهة التضليل الفكري: (قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)([9]).
فهناك نكوص فكري وهزائم مرعبة لدى بعض الحداثيين الذين يريدون التجديد فوقعوا في المحظور.
5-وعلى الصعيد الاخلاقي، هناك من ينغمس في ملذات مجالس الباطل من خلال احاديث الغيبة والبهتان والنميمة والافتراء على الآخرين انطلاقاً من اجواء الالتذاذ بهذه العدوانية المفرّغة تماماً من اي تنوير عقلي فحين يستحكم الجهل تجد مثل هذه الامراض.
6-مواجهة الظاهرة الفرعونية في استخفاف عقول الناس قال تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه انهم كانوا قوماً فاسقين)([10]).
فبطريقة التوائية ضحك فرعون على قومه حتى يمنعهم من اتباع موسى (عليه السلام) فذكر لهم ان موسى (عليه السلام) لو كان نبياً سيداً فيهم لسوّروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب وكانت هذه عادة اجتماعية في تلك المجتمعات لمن يصير سيداً على قومه، لكنها ايضاً حيلة فرعونية ليفرق بها الناس عن النبي الجديد موسى (عليه السلام).
7-التنوير العقلي لترشيد المستوى العلمي للمنبر ومن يتحدث ويخاطب الناس لابد ان يأتي لهم بما ينفع ويفيد بعيداً عن التكرار او اجترار الاخبار التي باتت معروفة ومألوفة للناس، المهم ان يكون الخطاب بمستوى تحديات المرحلة للنهوض بالامة لمواجة الاخطار التي تحدق بها وتسليحها بالفكر الواعي والمسؤول.
8-الوقوف بهذا التنوير العقلي بوجه من يجعل من الاحلام دليلاً ومن القصص غير المعتبرة سبيلاً لاقناع مخاطبيه بالفكرة التي يطرحها في خطابه بينما العقل احد مصادر التشريع الاربعة (فالعقل ما عبد به الرحمن واكتسب الجنان) كما ورد ذلك عن الامام الصادق (عليه السلام): وكمال العقل هو طاعة الله واجتناب معاصيه وهكذا مضت الامامية على طول التاريخ على جعل العقل المصدر الرابع للتشريع بعد القرآن والسنة والاجماع وقد تصدى المجتهدون والمفكرون للاجابة على كل التحديات بتفكيك الازمات الفكرية وتبديد شبهات التضليل التي تثار على الفكر الاسلامي بدعاوى مختلفة.
فالعقل يبقى رائداً في ترشيد الانسان وتنمية طاقاته وقدراته الفردية والمجتمعية.
(*) محاضرة ألقاها الدكتور علي رمضان الاوسي في الموسم الرمضاني
الذي أقامته الجمعية الخيرية اللبنانية في لندن
([1]) سورة الشمس: 8.
([2]) كتاب الاربعين حديثاً للامام الخميني (رض).
([3]) سورة النحل: 78.
([4]) روضة الواعظين –الفتال النيسابوري.
([5]) غرر الحكم ودرر الكلم للامام علي (عليه السلام).
([6]) الكافي للكليني.
([7]) الاختصاص للشيخ المفيد.
([8]) سورة الزخرف: 22.
([9]) سورة يوسف: 108.
([10]) سورة الزخرف: 54.
|