سريالية موت طائر الكناري

يوم وطأت قدماي ( لاس بالماس ) أحدى جزر الكناري تساءلت متعجبا كيف تحقق الحلم المستحيل أيام كان الحرمس ينهش في اجسادنا حتى في نشوة احلامنا وامانينا ونحن نسمع ام كلثوم من المذياع في ذلك الليل الذي هو امتداد لأديم قديم يعود الى اللحظة التي قرر فيها نوح ع صناعة سفينته.
أيام كانت تلك الاحلام عند بعض المعلمين الذين يكرهون السفر ويعتبروه بطراً عدا السفر الى مدن الائمة المقدسة وكانوا ايضاً يعتقدون ان جزر الكناري كل سكانها من الطيور .
 ويسألني أحدهم : لماذا تحلم بالذهاب الى جزر ليس فيها سوى طيور الكناري وبأمكانكَ رؤيتها هنا في قفص طيور الكناري الذي جلبه المعلم ( جبار ) هنا والذي يحب تربيتها .
ضحكت وقلت :هل تعرف أن هذا المكان بالرغم من جماله إلا أنه بالنسبة لهذه الطيور منفى قاس ، فأن أي يوم شرجي ، ونظرة اللامبالاة التي ترمقها الجواميس في عودتها من مراعيها ، وعدم الاهتمام بها لأنهم يعتبرونها طيور وحشية مدللة لاتحب سوى لب حب الشمس ( الأكراد ) والحنطة المغسولة بماء حلو ، وهذا ما كان يوفره جبار بالرغم من علمه أن طيوره منزعجة جدا من المكان الذي تخلوا فيه النباتات كبيرة الاوارق والواح الورد الأستوائي ، واكتشف هذا حين اقدم احد الطيور على الانتحار بعد ان رفض تناول حب الشمس وشرب الماء.
عاشت الكناري معنا ، وكل صباح اتطلع الى حزنها وتغريدها الهجين ورغبة بعضها بليلتحق مع الطير الذي غادر القفص منتحرا ودفنه صاحبه ( جبار ) على ضفاف طين الاهوار رغبة منه ان يظل جسده باردا في غربته ، والغريب انه وضع في مقدمة قبر الطائر صليبا صغيرا صنعه من تعامد قصبتين ، وقال :لقد جلبوا هذا الطائر المسكين من ارض مسيحية ، ولانه يدفن في منفاه ، علينا ان نضع الصليب شارة بركة لتحمي نومه الهادي هنا .
ذلك المشهد الغريب عن بيئة المكان وذاكرته هو من دفع معلم الرسم في مدرستنا ليرسم على ضوء الفانوس لوحة اسمها ( سريالية موت طائر الكناري ) وقد رسم الطائر يغادر قفص جبار بسلالم على شكل صليب ، فيما جعل شارب سلفادور دالي المقوس القفل الذي كسره الطائر وخرج منتحرا .
فسر المعلم ان السلم هو رحمة يسوع الصاعد مع الطائر الاسباني الى السماء  وموته السريالي الذي اقترن بشارب سلفادور دالي الذي هو اسباني ايضا .
الآن وعبر نافذة غرفتي بالفندق الذي يطل على الحديقة الاستوائية واسراب من الطواويس تمشي متخاتلة في صباح تهب عليه نسائم المحيط القادمة من قرى افريقيا البعيدة للمكان الذي تمتلكه اسبانيا بالرغم من ان اغلب سكان جزر الكناري من اصول امازيغية.
أتذكر من هنا ، المكان الذي يسرق من خيال الجنة فينا الكثير من التفاصيل و أظن أن السومريين تخيلوا دلمون بما تمنحه لك فتنة المشاهد في حدائق جزر الكناري ، فأذهب الى حسرة اشتياق غريب الى دموع المعلم جبار عندما احس انه كان سببا في انتحار طائر الكناري في قفصه فحزن وأعتقد أنه اقترف جريمة لا تغتفر وأتذكر قبره الصغير الذي علاه مد مياه الفيضان في الاهوار ذات صيف واختفى القبر والصليب ,
ولكن ذلك المشهد السريالي لشارب سلفادور دالي وهو يصير قفلا للقفص ظل اسير المخيلة حتى عندما اتت الحرب ونالت من وجودنا في المكان عندما تم استدعاء الكثير من المعلمين الى خدمة الاحتياط وكان لي ان اكون ضمن اول المواليد التي دعيت الى الخدمة فأتحول من معلم لغة عربية لصفي السادس والخامس في مدرسة تقع في عمق الاهوار الى جندي مشاة فوق ربيئة عالية في جبل سنجاب المطل على مدينة قصر شيرين الايرانية.
ومن فوق الربيئة كنت أتأمل السفوح والمرتفعات الممتدة على مد النظر الى عيلام وكيلان غرب ، وحين ادور وجهي الى الوراء تمتد امامي سابحة ذات السفوح ولكن في امتداد الجانب العراقي في خانقين وقره تو .وابعد منها تلوح لي قرية الممتدة في افق الماء في تلك الاكمة البعيدة من القصب والعباءات السود المتشحة بخجل السير امام المدرسة خوفا من نظرات المعلمين الخاطفة ، فيلوح في ذلك الافق الاخضر القفص الملون لطيور الكناري ، لكن القبر لايظهر في الصورة ومع متعة التخيل والتأمل في أول يوم لك فوق ربيئة جبل سنجاب يتقدم اليك احد الجنود ليعرف بنفسه :
أنا جبار عودة صيهود من اهالي عفك التي قيم الركاع فيها ، ولكنهم هنا ينادونني بجبار كناري لاني اهوى نربيتها ولدي قفص هنا فيه خمس طيور ملونة من طيور الكناري .
قلت مندهشا :يا الهي حتى هنا يوجد جبار كناري .اي صدفة هذه .
قال :لااظن ان احد في هذا العالم يسمونه جبار كناري غيري.
ضحكت :وسردت له قصة المعلم جبار كاملة .
دمعة سقطت من النائب العريف ابن عفك وقال لو كنت انا من تعرض الى انتحار واحد من طيوره لأقمت مأتما وعزاءً لثلاثة ايام.