لماذا تعثرت تجربة الانتخابات في العراق ؟

 

بعد حمله دعائية هي الأوسع منذ عام 2005م جرت انتخابات المجالس المحلية في العراق ، وهي  الأولى منذ رحيل الاحتلال الأمريكي ، يوم العشرين من شهر نيسان في اثنتي عشرة محافظة من مجموع  ثماني عشرة محافظة عراقيه باستثناء الأنبار ‏والموصل وكركوك ومحافظات إقليم كردستان الثلاث: أربيل والسليمانية ودهوك، بمشاركة لم تتجاوز سقف ال 50% من عدد من يحق لهم الانتخاب و البالغ ‏‏13 مليون و800 إلف ناخب.، كانت المفاجئة الأولى الإقبال الضعيف على التصويت من ناخبي هذه المحافظات رغم الدور الكبير للمرجعيات الدينية ووسائل الإعلام لحث الناس على المشاركة ورفض السلبية والذي فسر سريعا  بأنه نتيجة لعدم ثقة المواطنين بالمرشحين وإحباطهم من سوء ‏أداء الحكومات المحلية في محافظاتهم ويأسا من مجمل النخب السياسية وأدائها وشكوكا بان فرص التزوير ربما تكون قائمه وبالتالي لن يتغير شئ. لقد  بلغت نسبه المشاركة في بغداد  33% فقط، ديالى 51%،وبابل54%، وكربلاء54%، واسط 52%، وصلاح الدين 61%، النجف 53% والبصرة 42% الديوانية 58\%ميسان 44% ذي قار 50%، المثنى 59%. وكان واضحا ان من شارك في الانتخابات هم بالدرجة الأولى أنصار الأحزاب ومؤيدي أعضاء مجالس إدارة المحافظات السابقين.
هذا يعني  ان حوالي سبعه ملايين ناخب قاطعوا هذه الانتخابات او لم يشاركوا فيها لأسباب متعددة ربما تستحق وقفه طويلة من الحكومة والبرلمان والساسة والباحثين لسبر أغوارها ودوافعها وكان باستطاعة النصف المتذمر من تردي الخدمات إحداث تغيير حقيقي في روح وعمل مجالس المحافظات بضخ دماء جديدة فيها تغير من الواقع الفاسد إذ لا يعقل  عدم وجود مرشحين أكفاء ألا أذا كان في نية هؤلاء طلب استيراد كوادر من اليابان  وألمانيا  وربما من كواكب أخرى لإقناع هؤلاء المقاطعين  بالتوجه نحو مراكز الانتخابات؟  
يبرر البعض خروج نصف المواطنين عن طابور الانتخابات نتيجة انعكاسات سلبيه للوضع الأمني المتدهور منذ شهور، لا يصدق سوى على  العاصمة بغداد وبابل، والإجراءات الأمنية ألمشدده والثغرات في سجل الناخبين وظهور حاله إحباط واضحة بسبب الأداء المتعثر للدورة السابقة رسخت لدى الناخبين المقاطعين للانتخابات هذه النظرة السلبية واحتمال اعتقادهم بضعف فرص فوز عناصر وطنيه نزيهة ومهنيه بديله لترأس الحكومات المحلية وسط  صعود لافت على المسرح لجوقة من قراصنة السياسة الجدد قليلي الخبرة ومتصيدي المناصب وفرص الإثراء اللا مشروع  الذين قدموا أنفسهم للجمهور في مسرحيه إنقاذ هابطه فاقده حتى لروح التهريج يرجعها المراقبون لتحول الفساد واستغلال المنصب الحكومي الى ظاهره باتت ترسخ اليأس في وجدان عراقي ثاقب ودقيق بات يرى بان الأفق مظلم وان لإخلاص أبدا بعد عشر سنوات من الكبوات والفشل  رغم كل الخطب والوعود الوردية  للمرشحين الجدد وانتشار قناعه لدى الكثيرين بان ما يجري  ليس أكثر من  استبدال طرابيش بأخرى  لا تختلف في الجوهر عن التي سبقتها  لان العقل أو القيادات المتحكمة بالعملية السياسية برمتها هي التي تقرر أسماء الفريق الجديد الذي سيقود مجالس المحافظات واتجاهه وأين سيكون موقعه في الغد وما هو مسموح له وما هو ضمن الخطوط الحمراء.  
  فيما روج البعض لتفسير غريب ميز فيه المناطق والمحافظات ودرجه إقبالها تبعا لانتمائها الطائفي متوصلا إلى استنتاج ساذج مفاده  تراجع نسبة المشاركة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية وتصاعدها ‏في المناطق ذات الكثافة السُّنية وخاصة صلاح الدين التي تصدرت نسبه المشاركة بين المحافظات رغم ان الجميع بغض النظر عن طائفتهم  مستاءون من تردي الخدمات وان( كلنا في الشرق هم) مثلما يقول شوقي في قصيدته الشهيرة.
 اغلب وسائل الإعلام الأجنبية توقفت عند تأثير العنف والظلال القاتمة للتظاهرات والتمرد في ثلاث محافظات على محمل الجو السياسي العام كان لها تفاعلات غير مباشره على ترددا لناخبين للمضي نحو صناديق الاقتراع في 32 إلف مركز والتي لا ندري  لماذا لم تبدأ في ساعة متاخره من الصباح لتنتهي في الساعة السابعة أو الثامنة مساء لأتاحه ألفرصه للكثيرين ليغيروا رأيهم ويشاركوا في هذه التجربة الديمقراطية ربما بعد سماع نداء فضائيه او مناشده مرجع ديني يحثهم على استبدال السيئ بالأفضل.
أن التساؤل الأهم قبل معرفه نتائج هذه الانتخابات هو هل ان هذه النسبة تعد منخفضة بالمقاييس الديمقراطية في العالم ام هي طبيعيه؟ والجواب الأولي  هو أن هذه المشاركة لا تعد ضعيفة نسبيا وفق المقاييس التي أفرزتها تجارب الانتخابات في العديد من دول العالم سواء المتقدمة او التي تمر بمرحله تحول نحو الديمقراطية مثل العراق وكذلك دول( الربيع العربي) لأنها بالدرجة الأولى انتخابات ذات صله بالخدمات البلدية وليست انتخابات تشريعيه او رئاسية  تقرر مستقبل البلاد السياسي وترسم سياسته الداخلية والخارجية كما انها لا تختلف كثيرا عن نسبه المشاركة في انتخابات عام 2009 رغم أن غالبيه العراقيين تعاملوا معها وفق منظور سياسي وطائفي أحيانا في خلط واضح  اثر وانعكس كثيرا على صواب الخيارات الانتخابية ودرجه المشاركة ناهيك عن تدخل الصلات العشائرية والعائلية والمال الانتخابي على خيارات الناخبين . وفي كثير من دول العالم غالبا ما ترتفع نسبه المشاركة في المحافظات عن العاصمة التي تعرضت  لسلسله من التفجيرات سبقت الانتخابات التي كان من بين أهدافها إفشال الخيار الديمقراطي ومنع الناس من الوصول إلى مراكز الاقتراع.
 لكن الأمر اللافت للنظر هنا هو إذا كان الشعب قد خرج بتظاهرات وانتقد مرارا سوء الخدمات فلماذا قاطع الملايين فرصه التغيير؟؟؟ أهي احجبه أم نكته او كوميديا سوداء قد تستلزم منا أعاده قراءة ما كتبه علي الوردي لفهم الشخصية العراقية وتناقضاتها... لا ادري!! 
 عامل أخر خطير لم ينتبه إليه من راهنوا على مشاركه شعبيه واسعة في الانتخابات يتعلق  باللعبة النفسية الخطيرة والذي يبدو لنا انه لعب دور هاما في تخفيض نسبه المشاركة مصدره دور وسائل الإعلام و المرجعيات طوال الأشهر الماضية  الذين واصلوا القرع على طبول انتقاد وكشف عمق وإخطبوطيه شبكات الفساد والنهب المنظم للمال العام في العراق وتمزيق شرانق الأكاذيب الذي اسقط الأقنعة التي طالما تستر بها سياسيون ونخب بارزه مما جعل الملايين يشعرون بأنهم يعيشون في غابه لا في وطن ودوله يحكمها القانون والمؤسسات والقضاء العادل وربما باتوا يعتقدون أنهم  في  مغارة (علي بابا) الذي تناسل لصوصه أكثر من يأجوج ومأجوج وهو ما أشاع حاله من اليأس بإمكانية التغيير وجعل الناس يشكون حتى في كثير من المرشحين الشرفاء والمخلصين والشخصيات الجدد التي  تسعى فعلا نحو الإصلاح والعمل الوطني الجاد والشريف بتجرد ونزاهة.
 فضائح وإخبار الفساد أحدثت صدمات نفسية متتالية أفقدت المواطن العراقي  ثقته حتى  بنفسه وبقيادته وكل من يقدم نفسه كبديل منقذ حزبا كان أو مرشحا لمثل هذه الانتخابات... أي أن الناخب العراقي ومع تقديم وثائق وأدله دامغة تفضح لصوص السلطة أصبح نفسيا مهيئا لتوقع الأخبار السيئة دوما لأن سلسلة من الإخبار السيئة السابقة عن اللصوص والمختلسين وباعه الضمير التي اعتاد عليها كل صباح ومساء تبين صحة اغلبها لاحقا ليعتقد الناس ان لا يد  نزيهة أمست موجودة في العراق وبالتاي الكفر بأي مشروع إنقاذ وطني يلوح في الأفق.
 هذه الحقيقة المرة هي حسب رأي احد المختصين لعبة ذكيه ماكرة تقضي بتقسيط الأخبار لخلق نوع من الثقة بأي خبر سيء قادم والتعتيم على كل ما هو ايجابي باعث للأمل و بالتالي يصبح الخبر المفبرك شبيها للخبر الصحيح لانضوائه تحت مصفوفة من الأخبار المتتالية الصحيحة  ولذلك سيتم الدفع بالخبر (الفخ) السيئ جدا لتمرير مشروع إسقاط ألدوله وخيار الديمقراطية في عيون العراقيين.


واستنادا إلى ما  كتبه الباحثون والأكاديميون المتابعون لأبحاث سيكولوجية المجتمعات التي تسير في طريق الديمقراطية ومن بينها العراق نرى أن ما حدث من تراجع في المشاركة النسبية في هذه الانتخابات مرتبط بالعوامل التالية :

 أولا: إفرازات التعثر في مجمل الأداء السياسي  لمؤسسات ألدوله  والمجالس البلدية والخدمية على مدى  الأعوام الماضية التي تلت الاحتلال الامريكيه عام 2003 وعدم ارتقاء  مستوى أدائها النوعي والشفاف لما كانت عليه حتى في ظل النظام الدكتاتوري السابق المحكوم بالمركزية وتركيز المناؤين للعملية السياسية على ترسيخ هذه القناعة لدى الناس لأهداف لا تخفى على احد. 
 ثانيا: علاقة سلوك الناس تجاه وعود المرشحين والثقة بالانتخابات  بالقهر التاريخي عبر الثقافة الموروثة حيث أن المجتمعات العربية وبضمنها المجتمع العراقي خصوصا الذي عاش  قرونا من الاستبداد و العنف السياسي والاحتلال افرز غالبا نوعا من السلوك المضلل والمشوش والقلق في علاقة المواطن بالسلطة ومن ذلك عدم القدرة على التمييز بين الانتخابات البلدية والتشريعية  وحساسيته تجاه الثروة والمال السلطوي. 
 .
.ثالثا : افتقار التجربة السياسية العراقية لمعارضه وطنية خارج نطاق العداء والتطاحن الطائفي وخطاب التخوين مما حال دون تنمية ثقافة المعارضة الوطنية المخلصة  التي تقدم المشاريع البديلة التي تعبر عن رأي اغلبيه  الناس  مع تشرذم القوى والتيارات لا نتيجة الاختلاف في مشاريع التغيير وتصحيح المسيرة إنما بسبب المصالح والعداءات الشخصية  وتحريك القوى الخارجية التي احتضنت من ينفذون أجندتها المشبوهة في العراق .

 ليست الديمقراطية مجرد بطاقات انتخابيه وشعارات ووعود  وتظاهرات او حتى عصيان مدني ،لا يفرق بين دوله محتله وأخرى ذات سيادة، بل هي وعي  لا يرسخ بين ليله وضحاها خاصة في وجدان شعب حمل على ظهره من الصراعات والتناقضات والسياط والتجويع والشكوك ما يحني القامات... لكنه ينسى أحيانا انه هو من يصنع مصيره بيديه حين يختار ان يكون وسط الحدث او مجرد متفرج يبكي أحيانا ويلعن أخرى ويحلم بالتغيير دون أن يسعى نحوه.