المؤسسة العسكرية التركية وامتداداتها (الرسمية وغير الرسمية) وعلاقاتها (المحلية والدولية) ليست كمثلها من المؤسسات في الانظمة الديمقراطية الأخرى بل ان الدستور و القوانين التركية تمنحها الحق والمرونة التي تمكنها من الهيمنة (الدستورية) على الكثير من مفاصل الدولة وعقد الاتفاقيات بمعزل حتى عن الدولة والبرلمان بل انهم في بعض الاحيان يمارسون دوراً رقابياً على الدولة والبرلمان خصوصاً بعد تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923 [أُعلنت الجمهورية وفقًا للقانون رقم 364 الصادر عام 1923 الذي حدد شكل الدولة ونظامها ولغتها، وأعطى رئيس البلاد سلطاتٍ مطلقة؛ فرئيس الدولة (مصطفى كمال أتتورك) هو رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني كما يتولى رئاسة الوزراء، وله أن يختار من أعضاء المجلس الوطني رئيساً للوزراء.]،و رغم أن مصطفى كمال أتاتورك حضر على الضباط في الخدمة الفعلية العسكرية أي أنشطة سياسية في قانون العقوبات العسكري المرقمة 1632 والمؤرخة 22 مايو 1930 . ومع ذلك، بعد الانقلاب العسكري في عام 1960، أنشأت اللجنة الوطنية للوحدة (ملي بيرليك Komitesi) قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية (تورك Silahlı Kuvvetleri Hizmet Kanunu IC) في 4 كانون الثاني 1961 إلى إضفاء الشرعية على تدخلاتها العسكرية في السياسة. وكانت المادتين 35 و 85 من هذا القانون تبرر لهم نشاطاتهم السياسية، بوصفه حامياً للتعاليم التي قامت عليها الجمهورية التركية كما تنص المادة 35. وينظر الجيش التركي نفسه حامي الكمالية، والأيديولوجية الرسمية للدولة. ففي 27 نيسان 2007، وقبل أنتخابات 2007 4نوفمبر الرئاسية (على سبيل المثال) وكرد فعل على سياسة (عبد الله غول)، قام الجيش بأصدار بيان بحضر الأحزاب الإسلامية مثل حزب الرفاه وقال أن الجيش يعمل على حماية الطبيعة العلمانية لتركيا، وإرث مصطفى كمال أتاتورك. مع تحذير واضح بأن (TAF) مستعدة للتدخل إذا حصل أي مساس بالطابع العلماني للدستور التركي، . ولا تزال هيئة الأركان العامة التركية (TAF) تحتفظ بدرجة كبيرة من التأثير على السياسة التركية وعملية صنع القرار فيما يتعلق بالقضايا ذات الصلة بالأمن القومي التركي (وإن كان قد انخفض هذا التأثير في السنوات الماضية) من خلال (مجلس الأمن القومي) الذي أسسه ورأسه رئيس الجمهورية التركية في عام 1982 (كنعان إيفرين) بعد نجاح إنقلابه في 12 سبتمبر عام 1980م مع مجموعة من الضباط، نشأوا على فكرة حماية المبادئ الأساسية للجمهورية التركية كما وضعها اتاتورك وكان للمجلس تأثيره المباشر والقوي في رسم السياستين الخارجية والداخلية في الجمهورية التركية. كما يتعمق في علاقة المؤسسة العسكرية وجنرالاتها بالأحزاب التركية بمختلف انتماءاتها وبالإسلام السياسي و تصديها للأحزاب التي تمثله في الشارع التركي ومع هذا أستطاعت تلك الأحزاب (الإسلامية) الوصول عبر صناديق الإقتراع إلى السلطة والذي يرأسها اليوم رئيس الجمهورية (أوردغان) الذي سعى بشكل متواصل (بعد إستلام حزب العدالة للسلطة) على سن وتعديل بعض القوانين التي تحد من سيطرة الجيش . كما أن تكوين وبناء المؤسسة العسكرية التركية وقيادتها لها خصوصيتها المختلفة تماماً عن بناء بقية اجهزة الدولة واركانها ؛ وهناك صراع واضح بين الغطاء الدستوري لاوردغان وبين الغطاء الدستوري والقانوني والعرفي والواقعي (الفعلي) للمؤسسة العسكرية التركية وأمتداداتها التاريخية داخل أجهزة الدولة الرسمية وكذلك إمتداداتها داخل المجتمع التركي وعبر التحالفات سياسية والتي تمتد حتى لما قبل الحقبة الاتتوركية (الكمالية) فقد كان للمؤسسة العسكرية العثمانية قوتها وتأثيرها خصوصاً مع ضعف الدولة وبداية إنهيارها . وقد يكون (اوردغان) نجح الى حد ما في تقليم اظفر من اظافرالمؤسسة العسكرية الظاهرة للعيان لكنه لم يستطيع التغلغل داخل كيانها العريق وامتداداتها الرسمية وغير الرسمية ؛ ولثقة المؤسسة العسكرية بنفسها وحجمها وامتداداتها وجذورها والداعمين لها (من الخارج والداخل) دفع قسم من اذرعتها للقيام ( بانتفاضة) كما وصفتها (السفارة الأمريكية في انقرة) (لتصحيح المسار العلماني) دون الحاجة لمشاركة كل المؤسسة العسكرية معها بشكل عملي وهم واثقين تماما أن ذلك متوافق مع العقلية العسكرية وعنجهيتها التي تمادى (اوردغان) بالتعريض الغير مباشر (وعن طريق البرلمان والتعديلات الدستورية؛ ورغبته الجامحة التي فشل (داود اوغلوا) رئيس الوزراء السابق في كبحها في تغيير الدستور وأعطاء رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة قسم منها يتعلق بقيادة المؤسسة العسكرية التي لا زالت لغاية اليوم تتمتع بستقلالية عن بقية اركان الدولة التركية ؛ وكان مجيء (بنعلي يردلم) لتنفيذ بعض من ذلك الطموح وكانت هذه ((الانتفاضة )) ضرورية توافقية لايقاف هذا (التوجه الاوردغاني) من قبل بعض قيادات المؤسسة العسكرية الواثقة من نفسها والتي تقود جيش عرمرم (ثاني أكبر جيش في الناتو بعد نظيره الأميركي، يبلغ عدد قواته نحو 670 ألفا، وتقدر ميزانيته بنحو 18 مليار دولار، ويحتل بذلك الرتبة 15 عالميا على مستوى الإنفاق العسكري.) ومن الطبيعي جدا ان طبيعة وصلاحياتها تمكنها من استشارة القوى الدولية العسكرية سواء في حلف الناتو او الامريكان (الدفاع او المخابرات) فضلا عن بعض الاركان والمؤسسات الدستورية التي لازالت بعيدة عن هيمنة البرلمان التركي او تاثيرات حزب العدالة . لذا فأن ابعاد المشهد لا يتعلق فقط بالقطعات التي قامت بالانقلاب ولا حتى امتداداتها المعلنة بل هي تتعلق تعلقاً عضوياً بالتركيب (الجيوسياسي الاجتماعي العضوي) بالمؤسسة العسكرية التركية العريقة والتي عرضها فشل الانقلاب الى أمتهان جماهيري (شعبي) قد يكلفها الكثير من نفوذها وسطوتها ويعرض بكبريائها ؛ ولكن الرد على الإنقلاب كان رائعاً لأنه أعتمد بالدرجة الأولى على الشعب التركي الذي خرج الى الشوارع مسلحاً بالعلم التركي فقط مواجهاً الدبابات والسلاح بأجسادهم ولم يكن خروجهم هذا (حزبيا) بل شارك فيه عموم الشعب التركي (ومنهم أعضاء الأحزاب المعارضة) وهذا يدل على تغيير كبير جداً في مزاجية الشعب التركي وقناعاته بالديمقراطية الحقيقية التي بداْ يقطف ثمارها ويخاف على الرفاهية التي تحققت له [ارتفعت الرواتب والاجور بنسبة 300% وأصبح أدنى أجر (957 ليرة) بعد أن كان (340ليرة) واصبح دخل الفرد (11000) دولار بعد أن كان (3500) دولار (اعلى نسبة من دخل المواطن الفرنسي) وأنخفضت نسبة البطالة إلى 5% بعد أن كانت 38% والدراسة في الجامعات والمدارس التركية الرسمية مجانية وفي خلال عشر سنوات الماضي تم بناء 125جامعة جديدة و189 مدرسة و 510مستشفى ولا يتجاوز عدد طلاب الفصل الواحد ال (21) طالباً وتقدمت الزراعة وتم زراعة مليارين و 770مليون شجرة حرجية ومثمرة وفي الصناعة تصنع تركيا الان الدبابات ووالطائرات بدون طيار والسيارات والاجهزة الكهربائية الضخمة والمنزلية ولديها شراكة لتصنيع الطائرات المدنية العملاقة مع الشركات البريطانية في تركيا وعندها قمر صناعي متعدد المهام وفازت خطوطها الجوية كأفضل ناقل جوي في العالم لثلاث سنوات على التوالي وقفزت تركيا من مركز 111 الى مركز 16 في الإقتصاد العالمي وبهذا فهي أحد أعضاء الدول العشرين المتقدمة إقتصادياً في العالم وكان الناتج القومي لتركيا عام 2013 ما يقارب (ترليون دولار) وتسعى تركيا لتفريغ (300الف) عالم للبحث العلمي وفاقت ميزانية التعليم والصحة على ميزانية وزارة الدفاع وراتب المعلم يوازي راتب الطبيب . وبعد ان سددت تركيا ديونها البالغة (47) مليار دولار الى البنك الدولي قامت بإقراضه 5مليارات دولار إضافة إلى وجود أكثر من 100مليار دولار كاحتياطي للعملة الصعبة ؛وصلت صادراتها إلى 153مليار دولار و وصلت الكهرباء إلى ما يقارب 98% من المدن والقرى التركية وارتفعت إيرادات السياحية ألى 20مليار دولار ... (راجع SA/-http://www.invest.gov.tr/ar -http://www.invest.gov.tr/arSA/investmentguide/investorsguide/Pages/MacroEconomicIndicators.aspx 46300-pub-mec.org/2011/12/19/ar-http://carnegie مركز كارينغي للشرق الاوسط ؛ وكذلك مركزسترافورد ... كل هذا التقدم الإقتصادي المتسارع رافقه تغيير بنوي وحضاري ومجتمعي وثقافي جعل (المزاج الشعبي)الذي كان يتقبل تدخل الجيش في الشؤون السياسية ويتقبل الإنقلابات السابقة جعله الرافض الأول لها والحامي الأول للديمقراطية (بغض النظرعن من يحكم) إنه يدافع عن إنجازات حقيقية واقعية غيرت حياته إلى الأفضل ولا يدافع عن كيان أو حزب سياسي محدد أنه يريد أن تتقدم تركيا بلا مخاطروعن طريق (الديمقراطية) وإذا كان هناك من يقدم لتركيا أفضل فليتفضل ولكن عن طريق الديمقراطية. ومع هذا من الطبيعي جدا ان لا نتوقع استسلام هذا الصرح العظيم بمثل هذه السهولة ولا يمكن الا ان نتوقع اجراءات (دستورية او قانونية اوعرفية) لايقاف هذا الانهيار ويمكن ان نتوقع حدوث ما يستوجب تدخل الجيش لحماية تركيا من أخطار (خارجية او داخلية او داعشية ) قد تهددها (عدا عن ردود افعال غير محسوبة او غير منضبطة ) كل ذلك وأشياء أخرى وحقائق عملية أخرى قد يكون تكشفت بفعل اعترافات المتهمين الكبارفي التحقيقات الجارية كل ذلك يدفع الدولة (الظاهرة) لاتخاذ كل ما يمكنهم من إجراءات احترازية مستعينين بالدعم والغطاء الشعبي والتوافق السياسي والابقاء على عنصر القوة الاجتماعية الموازية للقوة العسكرية ؛ وخلق جو يتقبل التغييرات التشريعية المرتقبة التي تهدف لإعادة صياغة دور المؤسسة العسكرية في تركيا طبعا هذه (الاحترازية) رافقتها (براغماتية) سياسية طبيعية زادت من وطئتها وتعسفها وزادت من (القلق الدولي) الداعم لقوة من اهم قوى حلف الناتوا (عضوا في حلف الناتو في 18 شباط 1952) والتي يتوقع ان يكون لها دورها الكبير في (محاربة الارهاب والتطرف الديني في الشرق الاوسط) وكذلك قوة ضرورية جدا في (توازن القوى الإقليمي أما التعسف الروسي )... ولابد أن يحصل وبشكل تدريجي إستعادة الثقة بالجيش بعد بعض الإجراءات الدستورية حيث لا يمكن أن تكون تركيا قوية ومتنفذة من دون (جيش تركي) قوي يمكنه أن يتوازن مع القوى المحيطة به على الأقل . وإطلاق سراح الموقوفين إحترازياً وإستعادة الأوضاع القانونية الطبيعية لمصلحة تركيا ولابد أيضاً من الإعتراف بدور المعارضة السياسي وتثمين دورها في إفشال الإنقلاب ورص الصف التركي لذا لابد لها من دور أكبر في السياسة التركية في المرحلة القادمة . نعم الجميع قلق والكل مترقب والامر لم يحسم ولن يحسم في القريب العاجل ...!
|