ويشير فولتير الى رغبة خاصة راودته فيذكر عبارة ذات مغزى حيث يقول: أحب أن أعلم الخطوات التي سارها الانسان في طريقه من الهمجية الى المدنية وسوف نتبنى هذه الرغبة لكن في جانب منها فمعرفة الخطوات التي خطاها الانسان في طريقه الى الفساد ومحاولاته إصلاح الحال قد تلقي ضوءاً في طريق طويل سار فيه بنو البشر. وعلى كل حال, من غير المقبول التسليم بوجهة نظر مفادها إن الفساد كظاهرة إجتماعية عالجها المشرع في كل مكان هي وليدة العصور الحديثة ذلك أنها تمتد في جذورها إلى عصور قديمة إرتبطت بنشوء المجتمعات الإنسانية الأولى في حضارات وادي الرافدين ووادي النيل.
وقد عالج المشرع العراقي القديم مظاهر الفساد التي تتطلب منه التدخل لوضع حدٍ لها بنصوص تشريعية تعاقب مرتكبها، ففي القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد أقدم أوروكوجينا على إصلاحات اجتماعية واقتصادية هي الأقدم في العالم وتشير المعلومات المتوفرة إلى ان مدينة لكش تمتعت في فترة حكامها الأوائل بازدهار حضاري وقوة عسكرية فاقت الدويلات المجاورة لها وحققت إنتصارات عسكرية ساهمت في رفع مستوى المعيشة لسكانها وعلى وجه التحديد الطبقة الحاكمة فيها، إلا ان الضعف بدأ يدب في أوصال هذه الدولة فتقلصت إنتصاراتها العسكرية وإنهارت مواردها الاقتصادية فلجأت الأسرة الحاكمة للمحافظة على مستوى معيشي مرموق لأفرادها إلى فرض الضرائب وإبتزاز الأموال بشتى الطرق فانتشرت مظاهر الفساد في البلاد وعمت الفوضى وقام الحكام بالاستيلاء على أملاك المعبد الذي أصبح تابعاً للأسرة الحاكمة، فجاء أوروكوجينا الذي أصلح الحال المذكور فأرجع أملاك المعبد وأراضيه وألغى الكثير من الضرائب وخفض الأخرى, ومنع الموظفين والجباة من إبتزاز أموال الناس والتسلط عليهم وبعد التاريخ المذكور بعقود عالج قانون حمورابي بعض مظاهر الفساد القضائي, إذ تطرقت المادة 5 من شريعته إلى معاقبة القاضي الذي يلجأ إلى تغيير حكم سبق له وأن أصدره ربما نتيجة وقوعه تحت تأثير متنفذ آخر أو مدفوعاً في ذلك لمصلحة خاصة حيث ألزم القانون إن فعل القاضي ذلك أن يدفع تعويضاً يساوي اثني عشر ضعفاً مبلغ الدعوى التي غير حكمه فيها فضلاً عن طرده من مجلس القضاة، ولا يسمح له بممارسة مهنته كقاض بعد ذلك، والنص المتقدم يعكس معالجة لحالة من حالات الفساد الذي يمكن أن تشوب الجهاز القضائي وتؤثر على سير العدالة.وفي الفترة الزمنية التي حكمت فيها الإمبراطورية الآشورية يشير أحد الباحثين إلى أنه حتى هذه اللحظة لم يعثر على ما يشير إلى ان الآشوريين قد أصدروا قانوناً موحداً يعمل به في أرجاء الإمبراطورية الآشورية، بل لا توجد حتى مجرد إشارات إلى أية محاولة من الملوك الآشوريين للعمل على إصدار القوانين والمراسيم، ويستأنف الباحث فكرته عن وضع القانون أثناء حكم الملوك الآشوريين قائلاً: إن نظرة سريعة إلى التاريخ الآشوري ولاسيما في عهد الإمبراطورية الحديثة يشير إلى ان الآشوريين كانوا قد وصلوا إلى قمة مجدهم وإزدهارهم الحضاري في مختلف المجالات العسكرية والإدارية والفنية مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن لابد وأن كان لتلك الإمبراطورية الواسعة ذات الإدارة المركزية الدقيقة والحضارة الزاهرة قوانين ثابتة تحكم بها علاقات الأفراد بينهم، وعلاقات الأفراد مع الدولة، وعلاقات الدولة مع غيرها من الدول. بل ان التنقيبات قد كشفت عن بعض النصوص المسمارية التي تحمل نصوصاً لمعاهدات آشورية دولية عقدت بين الدولة الآشورية وبين بعض الدول والأقاليم التابعة تشير إلى مدى ما وصلت إليه العقلية القانونية الآشورية في مجال القانون الدولي العام والخاص، ومما يزيد في غرابة هذا النقص الواضح في النصوص القانونية الآشورية إن بعض الملوك الآشوريين، وفي مقدمتهم الملك آشور بانيبال صاحب مكتبة نينوى الشهيرة. وكذلك كثير من الكتاب والمؤلفين المعنيين بالأمور الأدبية والدينية قد إهتموا إهتماماً كبيراً بجمع النصوص المسمارية ذات الأهمية فجمعوا النصوص المعاصرة وقاموا باستنساخ النصوص المسمارية التي يعود تأريخ كتابتها الأولى إلى ما يقرب من ألف سنة فأمر باستنساخ قانون حمورابي مثلاً، وقصة الخليقة وغيرها من النصوص المهمة، ومع كل ذلك لم يعثر من بين النصوص الكثيرة التي خلفها لنا هذا الملك في مكتبته ما يمثل القوانين الآشورية لا في النصوص التي أعيد استنساخها ولا في النصوص الأصلية.وفي تبرير ذلك يؤكد هذا الكاتب إن مرد عدم إهتمام الآشوريين بالقوانين وتدوينها أنهم إعتمدوا على القوانين السابقة التي كان الملوك العراقيون القدماء قد أصدروها ومنهم حمورابي مع ملاحظة قيامهم بإدخال تعديلات عليها، والأخذ بهذا التبرير قد يفسر طبيعة المواد القانونية المكتشفة والمعروفة بالقوانين الآشورية الوسيطة، وهي عبارة عن تفسير وتعديل لبعض القواعد والأحكام القانونية. مع ذلك, يمكن تصور جانبين لهذا الغياب الآشوري في مجال القانون: التصور الأول قائم على أساس ان الدولة الآشورية كانت عبارة عن إمبراطورية بنت دولة عسكرية اعتمدت الفتح, وبشكل خاص في أوج مجدها وسطوتها في العالم القديم, مما يعني وجود شكل من أشكال حالات الطوارئ الناجمة عن عسكرة الدولة.
التصور الثاني لا ينفصل عن التصور الأول إلا أنه ذو معنى إيجابي يخالف التصور الأول الذي يعكس ممارسة سلبية ولو بتصورات المرحلة الراهنة، ويقوم التصور الثاني على إن عدم الحاجة لإصدار تشريعات جديدة أو تدوين ما كان موجوداً من أعراف نظراً لوجود قوانين مشهورة ومطبقة في المجتمع الذي تشكلت منه الدولة الآشورية، فالإبقاء على هذه التشريعات من جانب الملوك الآشوريين إنما مثل وجهة نظر سليمة حققت هدف عدم تضخم التشريع ولو بشكله البدائي البسيط في مجتمع يعود من الناحية التأريخية إلى ما يقارب الثلاثة آلاف عام مضت، وبالتالي تحقق نوع من عدم شرعنة الفساد سواء كان هذا الأمر مقصوداً أم غير مقصود.
وفي ميدان ما أنتجته الحضارة الإغريقية يشير أرسطو إلى أهمية المساءلة في كتابه السياسة بقوله: من أجل حماية الخزانة من السلب عن طريق الاحتيال، ينبغي صرف الأموال العامة جهاراً أو تحت سمع وبصر المدينة بأكملها، كما ينبغي إيداع نسخ من الحسابات في أماكن الحفظ المختلفة. ويشير الفيلسوف الأغريقي ديموستينوس إلى فكرة الرقابة، حيث يعلن بفخر أنه خضع طيلة فترة عمله للرقابة المالية للدولة، في حين كان اسكنيز يقول: ليس لأي شخص يتقلد منصباً عاماً الحق في أن يستبعد من الخضوع للرقابة المالية الحكومية. من جانب آخر يشير أحد الكتاب الى: تحريم تلقي المبعوثين للهدايا أثناء قيامهم بمهماتهم الدبلوماسية. وقد حكمت مدينة أثينا على سفيرها تيماجوراس بالاعدام لأنه تلقى هدية أثناء قيامه بمهمته لدى الفرس, إذ اعتبرت ذلك بمثابة تلقي الرشوة.
ولا نستثني المجتمع اليهودي من الفساد فول ديورانت يشير الى إن حالة الفقر تنشأ نتيجة الغنى، والفقراء لا يعرفون فقرهم الى حين يبصرون الاغنياء بعيونهم كما أن حرب الطبقات لم يندلع لهيبها في إسرائيل إلا بعد أن رأى الناس بأعينهم ثروة سليمان الطائلة …… ويضيف هذا الكاتب: وجدت في أورشليم طبقة من العمال المتعطلين كانوا من عوامل الشقاق السياسي والفساد الاجتماعي في فلسطين كما كان أمثالهم في روما فيما بعد. وكانت الأحياء القذرة تزداد شيئاً فشيئاً كلما نمت ثروة الأفراد وزاد ترف الحاشية، وأصبح إستغلال الشعب والربا عادة مألوفة بين أصحاب الضياع الكبرى والتجار والمرابين الذين أحاطوا بالهيكل حتى قال عاموس إن المُلاّك باعوا البارَّ بالفضة والباثس لأجل نعلين.
ويظهر من النصوص المتقدمة جانب من البعد التأريخي لمشكلة الفساد وقضية الإصلاح بالشكل الذي يعكس قِدمها من الناحية الزمنية فهي نتيجة لوجود المجتمعات البشرية ودخول الإنسان في علاقات إجتماعية واقتصادية مختلفة الأبعاد مع إنسان آخر سواء كانت هذه العلاقات ذات بعد اقتصادي أو أسري أو قانوني أو سياسي أو ديني.
وفي الشريعة الإسلامية الغراء روي عن أبي حُميد رض قال إستعمل النبي ص رجلاً من بني أسد يقال له إبن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لي، فقام رسول الله ص على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جيئ به يوم القيامة يحمل على عنقه بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطه ثم قال: اللهم هل بلغت ؟ مرتين وقول الرسول ص في نهيه عن الرشوة أكل لحم أنبته السحت فالنار أولى به وقيل ما السحت ؟ قال ص: الرشوة في الحكم.وفي سياق الحديث عن الفساد السياسي ومنه الفساد التشريعي الذي أطلقنا عليه إصطلاح الشرعنة القوننة يشير العلامة إبن خلدون في مقدمته عن الجاه المفيد للمال فيقرر إن المال نتيجة من نتائج القبض على السلطة أو الجاه ويرفض العكس, فهو يرى إن هناك أحوالاً كثيرة يصعب التمييز فيها بين التجارة والإمارة حيث يكتسب البعض من خلال المنصب الإداري الرفيع مغانم مالية يكونون على أساسها ثروات سريعة ومفاجئة.
وهنا تبرز الشرعنة مرة أخرى إذ يقوم القابضون على السلطة بإصدار قوانين تكرس أوضاعاً إيجابية لهم يريدون أن يتمتعوا بها على المستوى الشخصي أو الفئوي دون مبررات معقولة، أو إن هذه السلوكيات تقود بالضرورة الى الاضرار بالمصلحة العامة ولا يخلو فكر المدارس الاسلامية من البحث في ظاهرة الفساد من وجهة نظر إجتماعية، فالإمام القاسم الرسي يطرح أفكاراً عن الثروات التي تجمع في مجتمعات يسودها الظلم والفساد والاستغلال, وهي بالنتيجة ثروات ليست طاهرة بصورة كاملة والتمتع بها لا يعد أمراً مشروعاً, ومرد ذلك إن حقوق المستضعفين المغتصبة بوسائل شتى قد تحولت الى قيود على حرية تصرف المغتصبين للأموال المذكورة.
ويطرح الإمام يحيى بن الحسين ذات المعنى بقوله إن حيازة المال لا يمكن أن تعني إطلاق الشرع لحرية التصرف فيه لحائزه إذا كان مغتصباً له، فحرية اصحاب المال الشرعيين تكون أوسع من حرية الحائز له دون إعتبار لمضي أزمان طويلة على هذا الاغتصاب والاستغلال. وقد يكون مرد هذا الرأي قول الرسول محمد ص لا يسقط حق أمرئ مسلم وإن قدم, إلا انه من جانب آخر يشير- الإمام يحيى بن الحسين- الى مسؤولية الانسان تجاه المجتمع الذي يعيش فيه وبشكل خاص مسؤوليته تجاه النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي حيث يؤكد على ان الفلاح والتاجر اللذين يدفعان الضرائب للسلطة الظالمة يساهمان في بقاء هذه السلطة ويتحملان المسؤولية جراء ذلك: فالمسؤولية هنا قد تعدت نطاق الحياة المباشرة للفرد دافع الضريبة، وإمتدت الى ميادين لا يعلم عنها هذا الفرد شيئاً، لأن هذه الميادين قد ترتب وجودها على الدعم المادي الذي قدمه للسلطة الجائرة حتى عاشت وتدعمت وإرتكبت هذه التصرفات وبالعودة الى نظرة الأمويين المنحرفة يلاحظ أنهم كرسوا فكرة القوننة أو الشرعنة لأسباب إقتصادية بعيدة عن روح الاسلام مما يعكس حقيقة مفادها إن ظاهرة القوننة أو الشرعنة للفساد هي ظاهرة مرتبطة بفكر الدولة السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي لواقعة مادية، فالتشريع أداة الدولة لشرعنة أو قوننة واقعة لكن بطريقة تقود الى الاضرار بالمصلحة العامة أو الأسس الجوهرية الروحية منها مما يعجل في إنهيارها ولا يمكن أن نرد ظهور الفساد بمظهره التشريعي في هذه الحالة الى تعاليم الدين أو مصادر القاعدة التشريعية، فالفساد الذي ينشأ في ظل دولة تستمد تشريعاتها من الدين مرده أمرين: الأول النظرة الخاطئة المقصودة أو غير المقصودة في بناء الأحكام أو إصدار الفتوى. والثاني تصرف السلطة الحاكمة عن قصد باتجاه الشرعنة أو القوننة دون إحترام لوجهة نظر الدين الحقيقية من الظاهرة التي يتم التعامل معها, وربما يكون المثال البارز على هذه الحالة موقف الدولة الاموية الرافض للاعتراف باسلام الموالي في مناطق الامبراطورية الفارسية التي فتحها المسلمون بحجة ان إسلامهم غير خالص لله، فظل الأمويون ولأسباب ذات طابع اقتصادي يأخذون الجزية من الفرس الذين أسلموا هناك على إعتبار إن في عقيدتهم قدراً من الشك, فهي دون المستوى المطلوب, فنشأت نتيجة ذلك حركة الجهمية نسبة الى الجهم بن صفوان, وعدت من أولى الفرق الاسلامية التي طرحت فكرة الجبر الخالص حيث تبناها الأمويون لأنها سايرت مصالحهم، إلا إن الجهم بن صفوان خاض معارك فكرية وسياسية وحربية ضدهم نظراً لكونه وأتباعه طالبوا بنوع من الارجاء في الحكم على عقائد الموالي الى خالقهم يوم القيامة، فهي فكرة لجأ الأمويون لها شرعنة لمصالحهم أي الطبقة الحاكمة التي كانت تدعو الجماهير الى إرجاء الحكم على عقائد الخلفاء الأمويين وعلى جدارتهم بالسلطة وإستحقاقهم لها بمعايير العقيدة الاسلامية وبالطريقة التي صورها الاسلام، وعدم مناقشة جور الحكام وظلمهم وفسقهم أو عدلهم وإيمانهم في الحياة وإنما إرجاء ذلك الى يوم الدين، في حين وجه الجهم بن صفوان فكرة الارجاء الى خدمة المستضعفين والفقراء من دافعي الضرائب. ويقدم السيد محمد باقر الصدر سطوراً تبنى عليها عدة نتائج في سياق موضوعنا, فالفكرة التي يقدمها تجعلنا نستلهم شكلاً من أشكال التحليل النفسي لظاهرة الفساد لدى الانسان المسلم, ومرد ذلك عدم القناعة بالحلول التي تقدمها الدولة للكثير من المشاكل لبعدها عن المعالجة الروحية بدرجة أو بأخرى, وهذه مسألة ترتبط بمدى وعي الانسان المسلم بل كل مسلم للفكرة المتقدمة فاذا لبت المعالجة متطلبات الجانب الروحي والجانب المادي ستتوفر القناعة في هذه الحالة بصورة كاملة وبهذا الشكل سنبتعد عن أي اطار فكري يشوب نفسية المسلم وتدفعه نحو ممارسات فاسدة في حين تكون معالجة الجانب المادي دون الجانب الروحي أو الجانب الروحي دون الجانب المادي مدعاة وسبباً لبروز الخلل في أية حلول لتمهد مثل هذه الأساليب المبتورة لظهور الفساد بمظاهره المتنوعة, وبالعودة للأفكار الثرية التي يطرحها السيد محمد باقر الصدر حيث يقول محدداً أسباب مشكلة الفساد في واقع عمل المجتمعات الاسلامية وطارحاً العلاج لها :وقد قامت الحرية بدور رئيسي في الاقتصاد الاوربي وأمكن لعملية التنمية أن تستفيد من الشعور الراسخ لدى الانسان الاوربي بالحرية والاستقلال والفردية في نجاح الاقتصاد الحر بوصفه وسيلة تتفق مع الميول الراسخة في نفوس الشعوب الأوربية وأفكارها وحتى حينما طرح الاقتصاد الأوربي منهجاً من فردية شخص إلى فردية طبـقية.