تصنيفنا للجماعات البشرية والفئوية وتصنيفنا للحيوانات والنباتات حسب اجناسها وفصائلها والاشياء حسب الوانها واشكالها وما الى ذلك ضرورة حيوية لتنظيم المعرفة البشرية والاستفادة منها بافضل مايكون. فالانسان بحاجة الى هذا الترتيب لفهم عالمه وادراك معانيه. لكن هذه الحاجة لتنظيم معرفتنا عن عالمنا يتبعها دائما, ولاسباب سوف اعرج على بعضها, تقييم هذا التصنيفات بشكل ايجابي اوسلبي: من جيد الى اجود او سئ الى اسوء وهي تقييمات تستند في الغالب على احكام ذاتية وليست موضوعية. التصنيف الاجتماعي او الفئوي, و الصور النمطية التي تكونها الجماعات البشرية (القبلية, المناطقية, الطائفية, الدينية, الاثنية , الطبقية, القومية الخ) عن نفسها وعن غيرها هي صيرورة اجتماعية وتاريخية ونتاج عوامل وأليات متشابكة مع بعضها وقد استغرقت عقودا او قرونا عديدة من الزمن قبل ان تتجسد وتتجذر في الوعي الجمعي وفي عمق الضمير الاجتماعي بالشكل والمحتوى التي هي عليه الان. واهم هذه الاليات هي التربية البيتية او مايطلق عليها بالتنشئة الاجتماعية. فالوالدين يلقنون اطفالهم القيم والمعايير الاجتماعية والثقافية والدينية التي تلقوها انفسهم من أبائهم وامهاتهم. ومن ضمن ما يتعلمه الاطفال اهمية الجماعة البشرية التي ينتمون اليها وبأن هذه الجماعة هي الارقى والافضل من جميع الجماعات الاخرى اجتماعيا ودينبا وثقافيا وبهذه الطريقة تتبلور الهوية الاجتماعية للافراد. وعملية التأثير بالفكر البشري "وبرمجته" بهذا الاتجاه لاتتوقف طبعا عند حدود البيت وانما تستمر وتستمد قوتها وديمومتها من خلال أليات مؤسساتية دينية وتعليمية واعلامية وسياسية في المجتمع. أضافة الى شبكة العلاقات الاجتماعية التي لها ايضا اهمية كبيرة بهذا الخصوص. وفي هذا السياق يتم اضفاء طابع مؤسسي على هذه القيم والمعايير لتصبح قواعد اخلاقية وقيمية ملزمة واحترامها واجب من قبل الافراد وبخلافه يتعرضون لشتى انواع النبذ والازدراء وقد يصل الامر الى العقوبات الجسدية. كما ويتم اضفاء الشرعية على وجود جماعة معينة من خلال تصور او خلق امتداد تأريخي مستقل بها ولها وغالبا ما يتم ربطها بمعتقدات مذهبية او دينية و بأساطير وأبطال ورموز وشعائر خاصة بها وتصورات عن وحدة المصير المشترك وما الى ذلك لتبرير وجودها المستقل و لتمييزها عن بقية الجماعات الاجتماعية الاخرى. التصنيف الاجتماعي هذا ليس له علاقة بالواقع الاجتماعي والتاريخي الحقيقي فهو أشبه بغسل الدماغ ولايسمح لافراد المجموعة الاجتماعية بأنكاره وتغافله خاصة في المجتمعات التقليدية حيث تكون الهوية الاجتماعية اهم واقوى بشكل صارخ من الهوية الفردية. الصورة النمطية المثالية هذه, والمغالاة بها عادة, التي توجدها الجماعة عن نفسها تصبح, كما ورد اعلاه, حقيقة مسلم بها ولامجال لمناقشتها. بيد ان المشكلة الاكثر ضررا هي ان هذه الصورة النمطية عن هذه الجماعة تصبح في نفس الوقت وسيلة لتقييم وتكوين صورا نمطية متدنية وبائسة عن الجماعات الاجتماعية الاخري بما فيها الخصال والقيم الدينية والاجتماعية والاخلاقية. ولذا تصبح خصالنا مثلا هي اننا الاكرم والاكثر شجاعة ومروءة والافضل دينا او طائفة وما الى ذلك اما خصالهم فهي البخل والجبن والنذالة والغدر والكفر الخ. العوامل النفسية المساعدة لنجاح ظاهرة التصنيف الاجتماعي هذه هي ان ألادعاء بأن مجموعة ما افضل من غيرها ينعكس على افرادها فيصبح مدعادة لسعادتهم ومبعث فخرهم بأنتمائهم هذا وشعورهم العالي بالاعتداد والاعتزاز بالنفس لاعتقادهم بأنهم فعلا كافراد لديهم نفس الصفات التي تتصف بها مجموعتهم. وقد اثبتت بعض البحوث السوسيولوجية بأن الافراد الاقل حضوة وتعليما في المجتمع هم من الشرائح الاكثر تمسكا وأيمانا من غيرهم بأنتمائهم الفئوي الضيق (الطائفي اوالقبلي مثلا) لانهم بحكم واقعهم الذي لايحسدون عليه اكثر حاجة من غيرهم لان يسرحوا بهذه الاوهام. ومن المفارقات الساخرة ان هذه الشرائح هي الاكثر تضررا من هذه الانتماءات عكس مايسمى بوجهاء القوم الذين يدعون بألانتماء الفئوي فقط لتقوية مراكزهم الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية. ومن الجدير بالذكر ان مقاومة عملية التصنيف الاجتماعي او الفئوي امر في غاية التعقيد ذلك ان عملية التنشئة الاجتماعية المشار اليها وبشكل مختصر أعلاه, عائليا ومجتمعيا, ذات تأثير ثلاثي الابعاد عقليا وعاطفيا وسلوكيا. البعد الاول معلوماتي (المعارف او المعلومات المتراكمة والمكتسبة عن المجموعة التي يرتبط بها الفرد في مختلف الميادين والتي تعتبر حقائق مقدسة), والبعد الثاني يتعلق بالجانب العاطفي والنفسي وله اهمية كبيرة بهوية الفرد وسعادته النفسية وقد اشير اليه اعلاه. اما البعد الثالث فيتعلق بتصرف او سلوك الافراد والجماعات والذي غالبا ما يطبعه التعصب الاعمى والذي يرمي الى حماية المجموعة البشرية والذود عن وجودها وقيمها ومعتقداتها (من تهديد حقيقي او مزعوم). هذه الابعاد الثلاثة متداخلة ولايمكن فصلها عن بعضها البعض فضلا عن ان القوى الاجتماعية و الدينية ذات العلاقة والمصلحة بالموضوع مباشرة تعمل على تعزيز هذه الظاهرة و تقويتها, الامر الذي يجعل من اي جهد لتقويمها مهمة في غاية الصعوبة. أضف الى ذلك ان النفس البشرية عموما مجبولة على الارتكان والاطمئنان الى ما هو مألوف ومعروف, ولذا تميل غالبا الى نبذ اي معارف أو معلومات جديدة او مختلفة عن نفسها او عن غيرها من الافراد و الجماعات خلافا لما الفته واعتادت عليه. الشق الثاني من موضوع النص هذا يتعلق باحد العوامل التي تجعل الافراد يميلون ألى التسامح والانفتاح وتقبل الاخر. الفرضية الاكثر منطقية هنا هي باختصار كلما اتسعت دائرة هويتك (الرئيسية) التي تؤمن بها, وكلما ارتفع مستواها وازدادت شموليتها كلما ازداد تسامحك وتقبلك لمن لايشاركك هوياتك الفرعية ولكنه يشترك معك في هويتك العصرية الاشمل. و المعادلة المعاكسة لها هي كلما ضاقت وصغرت مساحة هويتك (الرئيسية) قل تسامحك واشتدت عصبيتك. وهذا امر منطقي لانك اذا اعتبرت نفسك على سبيل المثال عراقيا او عربيا في المقام الاول قبل ان تعرّف نفسك بمذهبك او قبيلتك فانك سوف تعامل وتعتبر كل من هو عراقي او عربي ندا مساو لك في الحقوق والواجبات وشريكك في الوطن واخ لك في العروبة بغض النظر عن ديانته ومذهبه وقبيلته. وقد يقول احدهم بأن ليس من الضروري ان تتضارب الهويات الفرعية (القبلية, الطائفية او المناطقية) مع الهويات الاشمل (الوطنية او القومية), اقول نعم, ولكن بشرط, لاهوادة فيه, وهو ان تعتبر هذه الهويات الفرعية غير اساسية و اقل اهمية وضرورة من الهويتين الوطنية والقومية.
|