"عبد الله" !!

 

هو بحر الثقافة العراقية على مدى نصف قرن أو يزيد , والذي ما التقيته منذ أكثر من ربع قرن شديد.

وكأنه قد ولد من رحم المعرفة والكلمة والكتاب , فمنذ نعومة أظفاره وهو في مطاردة ومباراة مع الكلمة , التي تملكته قبل أن يتعلم القراءة والكتابة , وما أن أمضى بعضا من مراحل الإبتدائية حتى انطلق نحو إمتطاء ظهر السطور , والإمساك بقلمه الذي لا يعرف الإنفصال عنه أبدا.

ومضى يكتب ويكتب ولا يتعب ولا يكل أو يمل من العطاء.

ومنذ أن كان طالبا في المتوسطة , أخذ إسمه يتلألأ على صفحات المطبوعات العراقية والعربية , وتواصل في نهر الثقافة والإبداع , وهو يكتم طاقات إبداعية هائلة لا أظنه قد سكبها في وعاءٍ يحافظ عليها ويصونها ذخيرة للأجيال.

وقد عاصرته منذ صباي , أسمع عنه وأراه , وأنظر إليه بإعجاب ودهشة , وكأن للكلمة تأثير مشترك علينا , أو أنها تمتلكنا , وما تمكن من البوح بكل ما فيه , للظروف التي تشابكت والإضطرابات التي عصفت , والحياة التي تعقدت , لكنه إنطلق متوجسا , مسكونا بالحذر والشك والتحسب والحيطة من المخاطر , والمداهمات الفكرية والنفسية وغيرها من أساليب الضغط والترويض.

وبقي متمسكا بقلمه , وقيمه وأخلاقه وثوابته وصدقه مع الكلمة والكتاب.

وأصبحت مكتبة مدينتنا موطنه الدائم , حتى صار إسمه مقرونا بها , لكثرة تواجده فيها على مر الأيام.

وكانت مكتبته الخاصة تسحرني , فهي كل ما يملك , فتشغله وتمتعه , وتلهيه وتغنيه عن الحياة وما فيها.

وفي مرحلة المتوسطة والإعدادية كنت من قرائها , حيث كانت تجذبني موضاعاتها وتغريني بقراءتها , فتعرفت من خلالها على رموز الثقافة العربية والعالمية , وقد قرأت مجلة العربي منذ بواكير أعدادها , وسلسلة كتابي وغيرها من الموسوعات المعرفية والأدبية , والمجلات ومصادر المعرفة الأخرى في ذلك الوقت.

ودرجت أتابعه , وأستمتع بأحاديثه وما يدور في خلده من الأفكار المضيئة , والتطلعات الإنسانية السامية النبيلة الصافية , التواقة إلى إشاعة أنوار الفكرة في العقول.

ومن خلاله تعرّفت على جهابذة المعرفة والإبداع العراقي , وأصغيت إليهم وتعلمت منهم , وتأثرت بما كانوا يعرفون , وأنست برؤاهم وتحليلاتهم وإنعكاسات عقولهم على نهر الأيام , بما تحمله من أحداث وتغيرات.

وكانت غرفته عبارة عن نادي ثقافي متواصل مع رموز المعرفة والإبداع في العراق.

ومن عجائبه أنه يؤرشف الكتب والأوراق في دماغه , ولديه ذاكرة فوتوغرافية نادرة.

فتجد على مكتبه أكداسا من المقالات والدراسات والكتابات الأخرى , وعندما يأتيه صاحبها , ويسأله أن يعطيه المقالة أو الدراسة , فأنه يلتقطها من بين الأوراق وبحركة واحدة فقط!

ومن عجائبه أيضا , أنه يأنس العيش بين الكتب , فلا يوجد في بيته مكان إلا وقد تنضدت الكتب فوقه . وذات يوم ما حاولت إختباره , فقررت أن أأخذ كتابا من أحد الأكداس المنضدة بإستقامة عجيبة تتجاوز قامته الممشوقة , وكم كانت دهشتي وحيرتي , عندما واجهني بعد بضعة أيام وهو يقول: أين الكتاب الفلاني للمؤلف الفلاني , وكان في هذا المكان , وهو يشير إلى ذلك الكدس وفي عين الموضع الذي أخذته منه!!

كان محيرا وغريب الأطوار أحيانا , وقد رافقته في أيام توجساته وشكوكه ويقظته الإحترازية المتحسبة لكل شيئ من حوله , وقد تنامت عنده هذه الحالة عندما تعرض لحادث سيارة وهو يعبر الشارع أمام بيته , وكأنه تيقن في ذلك الزمن الصعب بأنه المستهدف وسيكون الضحية لا محالة , وأن قلمه سيُكسر , وينتهي دوره في الحياة.

وكنت أقرأ في عيونه وقسمات وجهه وحركاته , أعراض الشكوك ومرارة الحذر والتوجس والإحتراز , ولا أعرف كيف أقترب منه وأهوّن عليه , لأن تفاعلاته ذات مسوغات تعزز هذا السلوك.

وحالما وجدتني في العراق , أخذت أبحث عنه!

فهاتفته وقلت: أريد أن أراك , هل يمكنني أن أزورك في البيت؟

قال: لنلتقي في مكان ما!

وأضاف: الكتب في كل مكان ومن الصعب إستضافتك في البيت!

وذهبت إليه , وأدركت أنه لا يزال على عادته القديمة , يمشي على قدميه , ويستقل الحافلات , وعندما هاتفته كان في إحداها متوجها إلى بيته عند المساء.

ووجدته في إحدى القاعات , جالسا على طاولة مع أحد الأساتذة , وقد غاص في الحديث الجميل.

وبعد أن حيّاني وضمني بالأحضان. وكان مسحوقا بسنابك السنين ومحتارا بكتبه , وإلى أين سيكون مصيرها ومنتهاها.

قلت : يا أستاذي , قد أتعبتك السنون!

إذ رأيته أشيبا , بدينا وقد إنحنى ظهره قليلا , لكنه لم يتغير , فكلامه كما عهدته , وعندما يكلمك , تدرك أنه يختزن ذاته , وينطق بلسان آخر , فقد كنت أحاول أن أعرفه كما هو لا كما يبدو , وعجزت عن ذلك رغم متابعتي له عن قرب , فهو حالة نادرة وفريدة ذات قدرات إستشرافية لا تُضاهى.

وكم وجدته صادقا فيما يراه.

تأملته ونظرته بعيون الذكريات والتفاعلات التي كانت بيننا,

وسألته: مَن هو عبدالله؟

فقال: أنا!

لم أكن أتصور أنه كان يكتب عن نفسه , وإنما حسبته في حينها يحاول التعبير عن الواقع المرير الذي يعصف بالحياة , وكانت كل حلقة من أيام عبدالله , تزيدني قلقا عليه.

 وافترقنا , وها أنا أجالسه واستمتع بحديثه الموسوعي الثري بالذكريات , والشواهد والتفاعلات الثقافية المتوهجة.

قلت: أنت أستاذي وملهمي وقدوتي وعليك أن لا تتوقف عن الكتابة!

قال: إن الكلمة والحياة حالة واحدة , ولايمكنني أن أتصور الحياة بلا كتابة!

قلت: أنت تتحمل مسؤولية وطنية وثقافية وإنسانية , وعليك أن تكتب مسيرتك الذاتية ولا تصمت!

قال: سأكتب!

قلت: سأكتب عن لقائنا إذا وافقتني!

قال مبتسما: يمكنك أن تكتب!

وما أدهشني فيه , أنه لا يزال يمتلك حيوية الشباب وتطلعاته , وكأنه لا يرى أن العمر قد تقدم , وأن الوقت الذي يمتلكه قد لا يكفي لقول بعض ما يريد الإفصاح عنه.

ودّعته , وأنا أشعر بالحزن والمرارة , فلا أظنه سيكتب , ولا أرى عنده رغبة في حمل راية الكلمة إلى أبعد مما وصل , فقد علّمته الأيام بأن الكلمة لا تدفع الواقع إلى حيث التقدم والرقاء , بل تركنه صامدا متجمدا في خنادق التحدي والعناء.

وكان عبدالله عنوان التحدي والقوة والإباء والإصرار على صناعة الغد الأفضل , لكنه يرى نفسه وكأنه يدور بذات المكان , ويتطلع إلى مستقبل قد كتب عنه وتمناه , ويدرك تماما بأنه لن يراه , وإنما حمّل أحفاده رسالة التفاعل معه بأنوار المعرفة ومشاعل الكلمة.

وأنا أودعه , تساءلت عن دوره وتأثيره لو كان في مجتمع غير مجتمعنا , وبلاد غير بلادنا؟

وأدركت أنه سيكون مشغولا في التفاعل والتواصل مع الجامعات والندوات الثقافية , وستتوافد الدعوات عليه من المحافل الثقافية ,  للإستماع إليه والتعلم منه والإطلاع على تجربته النادرة الطويلة المثقلة بالذكريات والعطاء.

وأرجو أن يكتب عبدالله , لأنه أصدق مَن سيكتب , وهو الأوفى والأكثر إيمانا بالكلمة والحياة .

تحية وفاء ومحبة لعبدالله وأملي أن أراه وأستمتع بأحاديثه لساعات وساعات!!

ودوّت صرخة أليمة في أعماقي تقول: كيف أغفلتك الثقافة والصحافة والحياة , يا عبدالله؟!!