" الربيع العربي".. نبوءة روبيرت فيسك 1997

 

ابان تشييع جثمان الراحل الملك الحسين عام 1997 ، التقيت الاعلامي البريطاني  الشهير روبيرت فيسك،  وقدمت نفسي اعلاميا متابعا لما يكتب ، وسألته عن الشرق الأوسط وما لم يكتبه عنه، فسرح طويلا ، وقال أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على حرائق شتى!!

عندها تلبسني الشيطان الاعلامي  ، وظننت نفسي قادرا على انتزاع المزيد من التفاصيل حول حرائق الشرق الأوسط ، وأعترف أنني استخدمت أقصى ما لدى من طاقة للضغظ عليه واجباره على البوح بما أريد ، لكنه كان حذرا جدا ، ولم ينبس ببنت شفة ، ووصل به الأمر الى وضع سبابتيه في أذنيه وهرب مني مختفيا في الزحام.

لم تذهب كلماته في الهواء ، بل تعمقت لدي ، وغصت في التحليل ، فهو صحافي انجليزي مخضرم ، ويرتبط مع صناع القرار في الوطن العربي بعلاقات حميمة ، ويعرف  عن المنطقة وما يدور فيها أكثر منا نحن الاعلاميين العرب ، كون أبواب قصور صناع القرار العرب مفتوحة له ، ولأمثاله من الاعلاميين والاعلاميات الأجانب وتحديدا الإسرائيليين  الذين يجندهم الموساد ، وعلى على مصراعيها ، ناهيك عن الشيكات وغرف النوم ، ولزوم ما يلزم لنيل رضا الاعلام الغربي ورجالاته ونسائه ، كون الاعلام المحلي مضمون ومكفول ولا خوف منه.

دبجت خبرا يتضمن  تصريح فيسك الخطير ، وكنت أظن أنه سيحتل الجهة اليمني من الصفحة الأولى لأهميته ويكون مانشيتا، لكني فوجئت بأن سلة المهلات كانت هي المكان الأنسب لمثل هكذا خبر ، وجدنا أنفسنا منذ خمس سنوات  نعيش أجواءه ، وأسفت على حال الاعلام العربي ( المخصي) الذي  لا يجرؤ على نشر هكذا خبر يتعلق بمستقبل الأمة .

أواخر العام 2010 ، تحققت  نبوءة فيسك ، وكانت الشرارة من تونس الخضراء ، حيث قام التونسي الشاب محمد البوعزيزي بحرق نفسه ، احتجاجا على امتهان كرامته من قبل  شرطية في مخفر بلدته عندما صفعته على وجهه ، لاحتجاجه على منعه من البيع جائلا.

لم يكن حزبيا ، ولا حركيا ، بل كان انسانا أراد حفظ نفسه وأهله من ذل الجوع ، لكن النظام الذي كان يديره بن علي ، لم يدر بالا لمثل هذا الشاب الذي كان يمثل نهجا في تونس ، فجرى  ما جرى ولا داعي للتفاصيل.

بعد هروب بن على ، امتدت النيران الى المحروسة مصر فليبيا واليمن فسوريا كساحات  حسم ، امتدت فيها ألسنة  اللهب التى تحدث عنها فيسك الى  رؤوس النظامين المصري والليبي وأيضا الى رأس النظام في اليمن ، وما يزال النظام السوري مهددا، فيما نرى التسخين يطال دول الخليج والأردن ، والجزائر ، وهذا يعني أن نبوءة فيسك صحيحة ولا مجال للشك فيها ، خاصة وأن الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير لا فرق بدأ يزكم الأنوف مدعما بخرائط الدم ، والذي سينجز المحراث الأمريكي  مهامه في المنطقة الممتدة ما بين غزة والباكستان  مرورا بطبيعة الحال ،بكافة الدول العربية وايران وتركيا والباكستان.

حسب مخطط الشرق الأوسط الذي أريد له النفاذ بعد غزو واحتلال العراق ربيع 2003 من قبل القوات الأمريكية،حيث كان الشعار سوريا ثانيا ، لكنه توقف في العراق بسبب انطلاق المقاومة العراقية غير المتوقعة.

وانيط باسرائيل صيف العام 2006 تنفيذه على اثر الهجوم على لبنان واستهدف حزب الله ، لكنها فشلت ، وعند ذاك تحول الشعار من " الفوضى الخلاقة " التي كان يناط بأمريكا واسرائيل القيام بها ، الى شعار " العمى الخلاق" أو " الكييوس" الذي يعني أن يعيث العرب بأوطانهم حرقا وتدميرا ، فكان ما كان ، لكن الجامعة العربية تقدمت بطلب الى مجلس الأمن للتخلص من القذافي ، وبالفعل انيط بحلف الناتو هذه المهمة وجرى قتل القذافي ، والخلاص منه لاحقا لكن حرائق تقسيم ليبيا ما تزال تزجر بحطب الخلافات الداخلية العرقية والخطط الأجنبية.

جرى حرف مسار السفينة الى ميناء القراصنة ، واستبدلت حمولتها من أهداف التغيير الى أهداف التقسيم والنهب والسلب وهذا ما حصل ، فبدلا من انجاز التغيير الشامل انتهى المطاف بالخلاص من  رأس النظام في مصر، لكن جسد النظام ما يزال جاثما على أرض وشعب مصر ممثلا بالإنقلابيين يتزعمهم السيسي  ، وها هي الحرائق تتوالى والانحرافات تتعمق ، وكأننا يا" بدر لا رحنا ولا جينا" اذ أن القوى الاسلامية التى تصدرت  الموقف ، تقدم التنازلات لأمريكا واسرائيل ليجبرونا على التساؤل: لماذا أيدنا الثورة ضد مبارك اذا ، أليس لأنه رهن المحروسة مصر ومقدراتها الى أمريكا واسرائيل؟

أما في سوريا ، فما تزال الحرائق مشتعلة ويغطي دخانها كافة أرجاء المنطقة ، رغم مرور أكثر من أربع سنوات على بدء الحراك الذي تعمد بالدم؟.

لقد أحسن الاعلامي البريطاني  روبيرت التعبير عندما قال عام 1997 أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على حرائق شتى ، ولم يقل أن هذه المنطقة ستجتاحها ثورات من أجل التغيير، وهذا  يعني أن ما يجري في منطقتنا ليس ثورات داخلية ، بل حرائق تغذى من الخارج ، ولا يفهم من ذلك أني ادافع عن الأنظمة العربية .