في البداية يمكن القول أن خطوة قبول منظمة اليونسكو اعتبار الأهوار والتراث الحضاري في جنوب الوطن جزءا من التراث العالمي، هي خطوة مهمة لحماية الدور الفريد لنظام بيئي من جهة، ولمشهد عراقي مهم وفعّال في ميدان التنمية الحضارية المستدامة في بلادنا من جهة أخرى . كما أن القرار الأممي يمكن اعتباره التقاءً مع العالم بخروج العراق من إحدى جوانب ومظاهر عزلته العالمية ، حيث يضم جنوب العراق بعض اوائل المراكز الحضرية في العالم. حقائق ودلالات اخترقت (قضية الأهوار) سياسات كثيرة وتأليفات عديدة واعتبارات غزيرة ، لا بد من تحديد حركتها وتحولاتها وخطوطها بعجالة في هذه المقالة ، كان قد اهملها ، سابقاً، او تغافل عنها مثقفون وفنانون وباحثون أو أنها كانت فوق طاقتهم وطاقة استيعابهم واقع حياة الاهوار. ربما كانت جماعات أو حواشي المنتفعين من ابقاء الاهوار على حالها هم السدود او الموانع الرافضة للبحث في شؤون حياة البؤساء بعالمهم الحقيقي ، الواقعي. بالضبط يمكن التأكيد على حقيقة أن الدولة العراقية ومؤسساتها المعنية ما زالت ، منذ تأسيسها عام 1921 ، غير مهتمة بأي بُعدٍ من أبعاد الجسم الاجتماعي والاقتصادي والانساني لقضية الأهوار وسكانها . كما ظلت الدولة منذ عام 2003 ، حتى الآن، تعتبر العلاقة بها ومعها قضية جزيئية لا تستحق غير النظر إليها من زاوية ضيقة ، من دون ادخالها وادخال انسانها في مناهج وصيغ ومواقع التطوير. لذلك ظلت قضية الأهوار مجرد لافتة من لافتات الدعاية الانتخابية يكتبون على جدرانها ادّعاءات وأوهام لخداع الإنسان الساكن فيها ، العائش في حالة التخلف مع حيواناته المنتجة مادته الغذائية. كما ظل الاعلام العراقي في غالبه ينظر إلى القضية نفسها من زاوية مسلسلات وبرامج تلفزيونية، مسلية و ممتعة، خاصة في ما يتعلق بإظهار سذاجة إنسانها ، كوميدياً، في الغالب، متجاهلين القدرة الفريدة الفائقة لهذا الانسان على الإنتاج الاقتصادي والعطاء الانساني الخلاّق. قفزات الحكومة تبادلَ بعض رجال الدولة والبرلمان والأحزاب وعدد من تجمعات قريبة من الحكومة، مختلف انواع الخطب والرسائل لتهنئة الحكومة العراقية بـما سمي بـ(إنجاز) دخول الأهوار إلى لائحة التراث العالمي. السؤال هنا : هل كان هذا الانجاز فعلاً من أفعال الحكومة العراقية وانجازاً من انجازاتها، أم انه مجرد لفظ من ألفاظ الدعاية الموهومة باختزال عائدية المنجز لجهودها، محوّلة مفهوم الواجب الوظيفي الملقى على عاتقها الى منجز حضاري – قانوني ..؟ القول الحق ،هنا، أن لا علاقة للحكومة العراقية ، لا الحالية ولا السابقة، بهذا (الانجاز) إلاّ شكلياً وهامشياً وجزئيا . لم تكن الحكومة تملك مشروعاً خاصاً بها لتطوير الواقع البشع لحياة الناس والحيوانات الأليفة الساكنة أو المتحركة غصباً في بيئة الحياة فيها قاسية جداً . بل كانت اليونسكو نفسها قد عملت منذ عام 2009 بشراكة وتعاون تام ورئيس مع (برنامج الأمم المتحدة للبيئة) بتمويل من الحكومة الإيطالية على تنفيذ مشروع بيئوي خاص لدعم الحكومة العراقية في مجال تحسين (الإدارة البيئية والثقافية) في الأهوار. ربطت اليونسكو رغبتها الوظيفية الحضارية بحس وثقافة العصر القائمين على ضرورة واهمية عدم تجاهل بؤس الحياة والعيش في هذا الجزء من العالم المعاصر فقامت بتكليف الدولة العراقية بمهمة إعداد ملف لـ(ترشيح) هذا الموقع لدخول قائمة التراث العالمي. بإمكاني القول أن التهاني المتبادلة ليست سوى هرب الدولة العراقية الى أمام لستر تقصيرها الواضح منذ عام 2003 ، حتى الآن، عن أي اهتمام فردي - من قبل وزير أو مدير أو قائممقام أو محافظ او برلماني - ولا اهتمام جمعي من قبل برلمانيين أو باحثين إداريين في وزارة الري والزراعة والصحة والتعليم لمنح الأهوار عملاً أو جهداً تنسيقياً، بالمعنى الجغرافي للأهوار ، بالمعنى الانساني لسكانها وبالمعنى البيئي لمياهها وحيواناتها. لم تستطع الدولة العراقية خلال 13 عاما أن تنسق برنامجا لأي بعد من أبعاد تتعلق بالجانب التاريخي والانساني لهذه القضية . لكن رجالها يستخلصون، الآن، فكرة تبادل التهاني ، كما لو كانوا قد حققوا انجازا حقيقيا . من الضروري التذكير، هنا، أن أي مسؤول في الحكومة والبرلمان لم ير بعينه ،حتى الآن، أي ثقب اسود من ثقوب منطقة الاهوار البائسة لأنه لم يقم بزيارتها ولو مرة واحدة في حياته لمعرفة مشاكل الوطن والمواطن ومعاناتهما بصورة جوهرية. المفروض والمفترض أن تضع الدولة، الآن، طريقة جديدة للتعامل مع الأهوار وإنسانها، يطغي عليها الطابع التاريخي والثقافي والتنظيمي والإداري والإنساني كي يلمس المواطن العراقي انجازها بالدليل والحق . واجبات ودور الدولة ما يُطلب من المؤسسات العراقية المعنية بالأهوار و من المؤسسات العالمية في مقدمتها اليونسكو قيام أسس التعاون المشترك للحفاظ على منابع الأهوار المائية وتطويرها باستخدام التكنولوجيا والعلوم . كذلك الحفاظ على ما تبقى من مدن (أور والوركاء وأريدو) وصيانتها لأن الأهوار والمدن المذكورة ، معاً، هي (مهد حضارة بلاد ما بين النهرين). الأهوار هي نوع خاص من أراضٍ طبيعية (رطبة) محاطة بأراض صحراوية (جافة) يجعلها دائما مصدر الدراسة الاكاديمية في الجامعات العالمية ،كما أنها تعتبر مصدر إلهام بالغ الاهمية للثقافة العالمية والعراقية، حيث كانت مصدر إلهام الفنون والكتابة والآداب والموسيقى والشعر والمسرح والعمارة. شهدت هذه المنطقة ظهور الكتابة والهندسة المعمارية الهائلة، بالإضافة إلى ظهور مجتمعات متطورة في جنوب ما بين النهرين، وهي المنطقة التي يطلق عليها اسم (مهد الحضارة الإنسانية) باللغات العالمية كافة ، كما تعتبر الأهوار مصدر إلهام للحضارة السومرية، التي تركت للإنسانية ميراثاً هائلاً من الكتابات المسمارية، في مقدمتها ملحمة جلجامش. قرار اليونسكو يمتاز بالروعة والكبرياء لأنه منح العراق مكانة عالمية مبهرة يستحقها منذ زمان بعيد ، لكنه قرار سيظل من ناحية اخرى متميزاً بالبساطة التامة إذا لم توله الدولة العراقية ومؤسساتها دراسات واهتمامات ومتابعات أنثروبولوجية والعناية الكافية بوضع المناهج والقواعد والوصفات لكي تكون منطقة الأهوار بالذات نموذجا وقدوة لحياة سكانها. واقع الإنسان في الأهوار سأحصر مداخلتي في هذه المقالة بهذا الجانب من قرار اليونسكو تاركا حضارة المدن الى الآثاريين العراقيين المختصين. المفترض بعد صدور قرار اليونسكو أن تقوم الحكومة العراقية باختراق الأفق المظلم للأهوار لتتمكن من إزالة عتمة حياة سكانها وحيواناتها للبرهنة على التزاماتها ومسؤولياتها الناتجة عن القرار وتنفيذ الخطط المطلوبة من اليونسكو بنمط سريع من الحركة. المفترض والمطلوب أن تتحرك المؤسسات المسؤولة بوزارة الزراعة والري من دون أي ذريعة كي يكون عمل الدولة العراقية بنفس مستوى عمل اليونسكو لإحياء الحياة ،حقاً وفعلاً، في الأهوار الوسطى والجنوبية كافة، كي يستحقوا حقا وفعلا التهاني والتبريكات على هذا الانجاز. الرسم المجرد للحياة تعتبر الأهوار التي تقع في جنوب العراق (أرضاً رطبةً) نادرةً في (محيط صحراوي جاف) نادر أيضاً، حيث الثروة النفطية الهائلة. لكن تظل ميزة الأهوار العراقية جميعها أنها تضم نظاماً بيئياً للمياه العذبة، توفر موئلاً للحياة البرية فيها العديد من انواع الطيور والأسماك، بالرغم من وجود الثروة النفطية في بعض أجزاء الأهوار ، كان المهندس الشيوعي الراحل غازي شريف أول من اكتشفها حين رأس أول فرقة للتنقيب الزلزالي بوزارة النفط. كنت منذ أيام طفولتي وفتوتي شغوفا بمتابعة انماط وخصائص الحياة في منطقة الأهوار في محافظات البصرة والعمارة والناصرية وقد قمتُ بزيارة أغلبها زيارات ميدانية عديدة في البصرة والناصرية والعمارة اخرها عام 1971 بصحبة الراحل زهير الدجيلي ، اكتشفت فيها أن حالها غير مستقر مصاب بالعطش شبيه بحال الصحارى العراقية التي زرت اغلبها ، غرباً وجنوباً، آخرها عام 1977 بصحبة الصديق المخرج العراقي عبد الهادي الراوي، المقيم حالياً في هولندا، حيث اكتشفنا أن حالة صحراء الدليم مصابة بالعطش، أيضاً. تابعت منذ حوالي 65 عاماً جميع اندفاعات وتغييرات وتصدعات تلك الأنماط والخصائص المؤثرة داخل المجتمع الفريد ، المتميز، في مناطق الاهوار، خاصة بعد سماعي قولا مباشرا من القائد الشيوعي سلام عادل: ((اهتموا بالأهوار واهلها أيها الشيوعيون..)) . كان هذا القول الموهوب دافعاً أساسياً لشغفي بالأهوار والتعرف على التواءات وصعوبات الحياة فيها ، بسبب أن جميع الحكومات العراقية المتعاقبة اهملت تماماً، طيلة قرن من الزمان ، القيام بأي اجراءات وخطط تجعل من الأهوار بنية اقتصادية – اجتماعية – إنسانية ، مما ابقى بيئة الأهوار وسكانها في حالة من العشوائية والاهمال التام. أصول مياه الأهوار كانت الأهوار حتى سبعينيات القرن الماضي تغطي مساحة تقارب 20 الف كيلومتر مربّع عند ملتقى نهري دجلة والفرات. تغيّر موقع الاهوار الجغرافي على مدى آلاف السنين بين الألفية الرابعة والثالثة قبل الميلاد إلى الشمال الغربي من موقعها الأصلي، مما ساهم في خلق ظروف بيئية مناسبة لازدهار بعض أوائل المراكز الحضرية في العالم مثل مدن (أور، الوركاء وأريدو.( الاهوار كانت تسمى (البطائح) وهي منخفضة قليلا عن الأنهار . تبدأ الاهوار من ملتقى دجلة والفرات في القرنة ثم تتصاعد لتصل إلى أعالي مدينة سوق الشيوخ في مجرى الفرات وأعالي ناحية المجر وقلعة صالح في مجرى دجلة ولعل مساحتها الكلية حوالي عشرة آلاف كيلومتر أي أنها تزيد بضعفي مساحة دولتين أوربيتين هما كوسوفو ولوكسمبرج. أكبر الاهوار هو هور (الحمّار) يتكون من مصدرين أساسيين لمياهه. المصدر الأول والأكبر هو نهر الفرات والمصدر الأصغر هو نهر دجلة . لذلك فأن سكنة الاهوار ينطبق عليهم صحيحاً القول بأنهم سكان النهرين . .فروع نهر الفرات اكثر من عشرين فرعا مثل السفحة والكرمة وام نخلة في كرمة بني سعيد حتى تصل إلى ناحية الطار في مدخل الهور . أما فرع نهر دجلة فهو نهر الغراف الآتي من الكوت في الحي وقلعة سكر والرفاعي والشطرة وينتهي بناحية الفهود التابعة لقضاء الجبايش . هور الحمار خزان هائل من المعروف أن مياه الهور ليست راكدة ،كما هو حال المياه في البحيرات . المساحة التقريبية لهور الحمار 2500 كيلومتر مربع تحيط به أراضٍ صحراوية . هذا الهور ليس فيه غير الماء، أي أنه مكون اساسي من خزانات المياه في جنوب العراق فهو يمتد بمساحة واسعة من سوق الشيوخ إلى الشعيبة جنوباً. لكن الملاحظ أن الزرع فيه قليل حيث الجانب الغربي منه يستثمر بطرق بدائية في زراعة الحنطة والشعير بينما يستثمر الجانب الشمالي منه بطريقة بدائية ايضا بزراعة النخيل والحنطة. في بعض في أراضيه المنخفضة يُزرع الرز . في وسط الهور يمتد لسان ترابي بطول عشرين كيلومتر وبعرض أربعة كيلومترات تسكنه قبائل تزرع النخيل والشلب .
الجاموس والثروة الحيوانية
تعيش قبائل عديدة أخرى على صيد السمك والطيور وتصنيع القصب والبردي وتربية الحيوانات المائية كالجاموس لإنتاج الحليب والزبد والألبان. يقوم بعض سكان الأهوار باختصاص (تربية الجاموس) المرتبط باختصاص آخر هو (قطع البردي) حيث يمر بمرحلتين من النضوج. الأولى مرحلة (العنكر) وهي مادة الغذاء الرئيسة للجواميس. المرحلة الثانية حين تتحول إلى قصب. الناس في الأهوار متحركون متنقلون . يتركون الأرض إلى أماكن اخرى حسب الحاجة . لذلك فالناس هنا هم شريحة اجتماعية ترتبط بالماء وليس بالأرض . يسكنون وقتياً في أيشانات ( تلال داخل المياه ) بيوتهم تسمى الدبون وهي من القصب المشدود بإحكام على سطح المياه . يمكن تعريف الهور بأنه منخفض من أرض يتجمع فيه الفائض من مياه الأنهار والترع والمبازل مكونة بحيرات مختلفة الأعماق. تتصل فيما بينها بقنوات تسمى الكواهين . ينتقل فيها سكان الاهوار من بحيرة إلى اخرى ومن قرية إلى اخرى. كما انها تربط القرى بالمدن لتبادل المنتجات الغذائية والاستهلاكية اليومية كالحليب والاجبان والقيمر، إضافة إلى القصب والبردي، حيث تستخدم في إنشاء البيوت منذ فجر التاريخ العراقي حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 إذ وضع الزعيم عبد الكريم قاسم إرادة جديدة بمنهج عمراني جديد ألغى بهما مساكن الصرائف من المدن العراقية، الممتدة من الهارثة في البصرة حتى منطقة (الشاكرية) في الكرخ ، التي هي الآن المنطقة الخضراء نفسها. كما انتشرت مساكن الصرائف خلف السدة في الرصافة حتى حوّلها رئيس وزراء ثورة تموز ،فوراً، إلى مساكن واطئة الكلفة مبنية من الطابوق مزودة بالماء والكهرباء والمدارس والمستوصفات سميت المنطقة الجديدة مدينة الثورة . الفئات الانتاجية في الاهوار
ليس بوسعي القول أن سكان الاهوار أو غالبيتهم العظمى منقسمون طبقيا إلى اقلية بورجوازية واكثرية كادحة، كما هو الحال في أي مجتمع رأسمالي. . ما زال الوضع الاجتماعي بحاجة إلى دراسة للتعرف على القوى المتشكلة من العناصر الانتاجية الداخلية وعلاقتها بالسوق الفردية والجماعية الحرة. كما تحتاج الدراسة إلى تحديد العلاقة بين انتاج سكان الاهوار في داخله مع طبيعة الاسواق الرأسمالية المحدود في خارجه، لسبب واحد وحيد هو أن الدائرة الانتاجية متقطعة بين الهور والسوق في احقاب تاريخية مختلفة، اختلفت فيها مواقف الحكومات المتعاقبة ازاء سكان الاهوار لكن بالإمكان تحديد نقاط التشكل الانتاجي الذاتي داخل الاهوار ضمن تعاقبية انتاجية لأغلبية سكانها كما يلي: (1) المزارعون .. يزرعون النخيل والحنطة والشلب . (2) مربو الحيوانات المائية. (3) صيادو اسماك وطيور . (4) العاملون في صناعة البردي والقصب والمشاحيف. (5) العاملون في نقل الانتاج من الهور إلى السوق بسيارات البيكاب. هؤلاء جميعاً لا يقل عددهم عن نصف مليون إنسان . الميزة الاساسية لدى الفرد من سكان الأهوار هي ميزة مختلفة تماما عن الفلاح في كل مكان بالعراق. الفلاح مرتبط بالارض ، سواء كان يملكها او لا يملكها بينما مواطن الاهوار مرتبط بالمياه وهو لا يملكها بكل الحالات . من جانب آخر فأن الاهوار العراقية تمتلك صفة العلاقة العالمية لأنها منطقة عالمية للطيور المهاجرة من مختلف انحاء العالم خاصة من روسيا . سكان الاهوار من اصول عربية منتمية إلى تميم وبني مالك وقيس وأسد وغيرهم . أخطأ المستشرق البريطاني ألفريد فسجر في كتابه (عرب الأهوار) حين قام بتنسيبهم إلى أصول غير عربية . استغل نظام صدام حسين هذه الفكرة الخاطئة فصدر على أثرها مقالات خمس بصفحات جريدة الثورة البعثية ، خلال بداية التسعينات الماضية، أساءت كثيراً إلى أصول سكان الأهوار وقبائله العربية المنحدرة من سومر . حول تجفيف الأهوار كذلك استغل صدام حسين بعض الكتابات الاخرى في خطوته المعروفة (تجفيف الاهوار) مدّعياً أن عملية التجفيف هي عملية زراعية بحتة . كلام مغلوط ومخالف لأبسط النظريات الزراعية الاقتصادية لا تقره أي دراسة زراعية جادة . لو نأخذ ،مثلاً، مشروعاً بريطانياً قديماً أعدته مجموعة خبراء بريطانيين في الري قُدّم إلى مجلس الأعمار عام 1952 لم ينص على أي قاعدة من قواعد التجفيف الكامل ولا حتى على صيغة عامة من صيغ التجفيف ، بل نص على بعض عناصر الاصلاح الزراعي والاروائي ترقى إلى مستوى خطة محددة في عمليات الري والبزل أي انها عملية لاستصلاح الأراضي . حتى هذه الفكرة رفضها طه الهاشمي الذي كان رئيسا لمجلس الأعمار . بعد ذلك بزمن طويل قامت مجموعة من خبراء الري والزراعة في الاتحاد السوفييتي بتقديم مشروع اروائي – زراعي عام 1969 لم ينص على التجفيف أيضا بل على خطة اروائية كانت تفاصيلها اوسع من المشروع البريطاني . غير أن الدافع البعثي للتجفيف هو الجانب العسكري - الأمني بقصد الانتقام من المعارضين ، المسلحين وغير المسلحين، لحماية السلطة الدكتاتورية . فالأهوار ،منذ العهد التركي، كانت ملاذاً للمعارضين. نتذكر ،هنا، كيف استخدم المحتلون الأتراك المدرعة النهرية (مرمريس) لدكّ معاقل المعارضين لها في مدينة القرنة وأهوارها. تتردد في مدينتي القرنة والجبايش قولا مفاده أن الأهوار (موطن الثوار) . اشيع أن الزعيم المصري الثائر أحمد عرابي هو من أحد أحفاد سكان الاهوار ويقال انه من مواليد ناحية المدينْة بمدينة القرنة . كما واجهت جميع الحكومات السابقة نشاطات ثورية في الأهوار منها ثورة (غضبان الخيون) حيث قامت الطائرات البريطانية بقصف الاهوار ، الجبايش تحديداً . كما واجهت سلطة حزب البعث محاولة المناضل الراحل أمين الخيون في عام 1968 القيام بحركة في الاهوار لكنه فشل. كذلك حاول تنظيم القيادة المركزية القيام بحركة لكنها فشلت . كما ثار الإسلاميون والجماهير في مناطق الأهوار كافة خلال انتفاضة الشعب عام 1991 .
علامات نادرة
في منطقة الاهوار تفاصيل حياتية نادرة لا مثيل لها في أية بقعة مائية في العراق او الشرق الأوسط ، كما أظن . يقدم لنا التاريخ امثلة كثيرة ، منها: 1. إن نبوخذ نصر الملك البابلي حاول وضع خطة لاستصلاح الأراضي في الاهوار . 2. حاول ملوك ساسانيون استصلاح أهوار وسط العراق وجنوبه. . 3. في العهدين الأموي والعباسي قامت محاولات ايضا. 4. مجلس الأعمار في زمان العهد الملكي اوجد عدة خطط لتنظيم الري في الأهوار. . 5. صفات فريدة للأهوار
أول صفة يمكن ملاحظتها ان مياه الأهوار الوسطية والجنوبية هي مياه متحركة وليست راكدة مما يجعلها وغرينها متجددين . هناك صفة ثانية هي ارتباط الهور بالصحراء. إذ تحيط بهور الحمار، مثلاً، منطقة صحراوية شاسعة تتحرك فيها رياح قوية في كل الفصول مما يجعل الهور مانعاً طبيعياً ضد تصحر لسان ترابي ممتد داخل الهور طوله أكثر من 20 كيلومتر يمكن ان يتوسع وان تكون الاستفادة منه متعددة في الاغراض الزراعية . الصفة الثالثة للأهوار انها محاطة بمناطق زراعية مما يجعلها مبزلاً مهماً ومنطقة سقي في آن واحد. منذ نصف قرن كان سكان الأهوار يحلمون بإنصاف حالهم وتحسين شروط معيشتهم وتحسين شروط الزراعة واصلاح الاراضي . ظاهرة العيش في الأهوار مختلفة كليا عن ظاهرة العيش في المدن والارياف العراقية جميعها. في الأهوار نجد خطوط ومسارات العمل اليومي شاملا جميع افراد العائلة الواحدة بصورة مشتركة حيث يشتغل جميع افراد العائلة، الرجل والمرأة والاطفال، بمجموعة عمل واحدة لإنتاج عمل متكامل ومتجانس مما ينبغي على الدولة ان تنقذهم من الصعاب المتعددة. إن قراءة صحيحة لقرار اليونسكو يفرض على الحكومة العراقية قراءة متأنية للتكوين الجغرافي والاجتماعي للأهوار، كيّ يشكل عند مؤسسات الدولة ومسؤوليها مفتاحاً مهماً، لمعرفة الكثير من الوقائع والدوافع المحيطة بأهوار جنوب العراق وهي لا تخلو من تناقضات اجتماعية وسياسية واقتصادية في العراق المعاصر لأنها موطن الفقر الميكانيكي والبؤس الاجتماعي بلا منازع.
قرار اليونسكو أمام احتمالين:
1. أما الانكسار وصيرورته مجرد اضبارة على رفٍ من رفوف دواليب الدولة. 2. وإما أن يكون عملاً وطنياً كبيراً تتدفق منه ثروة انتاجية وثقافية ، مائية وبشرية، تتحول إلى شحنة ايجابية ثنائية لتطوير الزراعة الوطنية كلها. أي الاحتمالين يمكن أن ينتصر في ملف الأهوار بالمستقبل..؟ الجواب مرتبط بتأويل القرار تأويلاً صحيحاً وتطبيقه تطبيقاً منسقاً ،مرتباً ، مخططاً، ليكون تحديداً تاريخياً جديداً في الاصلاح الزراعي المنتظر.
|