في أحضان العلم ( أفكار وُلدت ميتة )

 

يمر الفكر بأزمة خانقة من شأنها أن تهد أركانه وتطوي صفحاته إلى وادي النسيان فيما لو كتب لها أن تستمر على منوالها في رمي الصخور وسط الطريق الى المعرفة ، ولم يعد الأمر خافيا دور ( الجهل ) في بناء هذه الهجمة الشرسة يساعده تلك الدعوات التي ترمي إلى تسطيح الوعي ، وصراع الفكر مع خصمه اللدود ( الجهل ) ليس وليد الساعة ، إنما هو قديم قدم الإنسان نفسه في محاولة إثبات وجوده والخروج من شرنقة العبودية إلى ضياء الحرية .

فليس غريبًا أن يتحين ( الجهل ) الفرصة المناسبة تلو الأخرى ليقوِّض من خلالها ( حركة الفكر ) بالنهوض إلى واقع جديد ويحاصره في صومعته ليجرده من عناصر الحياة ، لكن الذي يدعوك إلى الغرابة و الاستغراب أن يحارب الفكر باسم الفكر والعلم باسم العلم ، فتظلم الحقيقة باسم البحث عن الحقيقة و الدفاع عنها .

فهناك بعض ممن يدعي الانتماء إلى ساحة العلم و العلماء يطرحون رأيًا لم يتناه إلى سمعي ما هو أغرب منه ، ولكي تقف على حدود معرفته ما عليك إلا طرح فكرة ما ولاسيما إن اتسمت بالجدة وطٌبعت بالحداثة إلا وتجد حرّاس الفكر الغائبين عن بوابته خلف النصوص يقفون بالمرصاد لها تحت ذريعة حماية الفكر الأصيل من السرقة .

والأدهى من ذاك أن تتم محاربة الفكر تحت مسمى صون العقيدة من الشبهات الوافدة و الأفكار الدخيلة بحسب زعمهم ، ولذلك يرى هؤلاء ومن طُبع على شاكلتهم أن ما يطرحه المفكرون اليوم من آراء وأفكار تقوم على منهجية التعمق في روايات أهل البيت و الابتعاد عن السطحية ما هو إلا ضرب من الابتداع المذموم البعيد عن الواقع الذي أراده سادة التشريع الإلهي -حتى لو كان هذا الطرح مستندًا إلى الروايات الصحيحة – وقد توسولوا في سبيل الوصول إليه عبر ربط المقدمات المنسجمة و المناسبة وفق قواعد عقلية محكمة يبقى مرفوضًا عندهم .

فتجدهم يشمرون عن سواعدهم الفذة ليرموا كل هذه المحاولات بأنها إما ضرب ٌ من الترف الفكري الذي لايسمن و لايغني من الثراء المعرفي شيئا ، أو أنه سيشوه المعالم الدلالية التي أرادها أئمة أهل البيت ؛ فالأولى عدم الترويج لهذه الأفكار والوقوف على النصوص بما هي دون قراءة توضيحية أو استيعابية أو استكشافية لمضامينها الدلالية ، فلسان حال هؤلاء أنه : لماذا نسمح لهذه الأفكار بالرواج والشيوع ولم نعطِ نفس النسبة من الذيوع و الإعلام للنصوص الأصلية للروايات ؟ فهي أولى بهذا الانتشار من هذه القراءات ، وبقاء منهجيتكم الإيضاحية و الاستكشافية للنصوص ومع مرور الزمن سيؤدي إلى تلاشي هذه الروايات و النصوص الحديثية .

إلا أن القبول و الأخذ بطرحهم هذا ما هو إلا بمثابة قرار من القاضي و ( تحت مظلة الشرع ) لتصدر محكمته حكمها ( بوأد الفكر )لارتكابه جريمة ممارسة التفكير العلني .

وأرى أن السكوت عن هذا الطرح من الخطورة ما يستدعي أن يكتب عنه كل المفكرين و العلماء مؤصلين وموضحين ومدافعين ، لأنه يؤسس لغلق باب الاجتهاد العلمي و يبعد الناس عن فكر أهل البيت في حقيقته العلمية ذات الأبعاد الإنسانية .

ولهؤلاء نقول : ورد في كلام أهل البيت عليهم السلام (( قال رسول الله (ص): ان حديث آل محمد صعب مستصعب )) (1)والوقوف بعين العقل على هذا الكلام يفسح المجال كثيرا لطرح أسئلةٍ من قبيل لماذا لم يكن حديثهم سهلاً ؟ ومن له القدرة على فك شفرة وألغاز هذه الصعوبة فيه ؟ الذي يهمني في المقام أن صعوبة أحاديثهم ( عليهم السلام ) يخفي وراءه الكنوز و الجواهر الدفينة التي تنتظر من يغوص لإجلها في بحار العلم و المعرفة وصولاً إلى إنفاع الناس بها على طريق الهداية ، وهذا الحديث يتضمن دعوةً لكل من يمتلك القدرة الرصينة على ذلك ، وليطمئن أصحاب نظرية ( الحرص على التراث ) أن من لايمتلك السفن المشرعة و السبل الناجعة لن يجد سبيلا للغوص في بحار آل محمد وسيغدو صريعًا تقذفه أمواجها المتلاطمة ، إذ إن أي طرح لاينسجم مع ما قرروه سيغدو مكشوفا واضحا متهافتا ، لأن التراث الحديثي لهم من السعة بمكان وفيه من التأصيل ما فيه ، ومع وجود قاعدة العرض على القرآن الكريم لن يصمد طويلا أي رأي يخلف أصوله ، لأن الثقلين ( الكتاب و العترة ) لن يفترقا بحسب حديث الثقلين المعروف(2) .

وكذلك ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله : ((من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن الله عزوجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس)) (3) ، والإصغاء هو السماع بإنصات وفهم وتدبر فيما يرد عليه من كلام ، ولايُراد بالناطقية ما يصدر من كلام فحسب بقدر ما يعني كل ما يصدر من مركز العقل من أفكار و آراء قولا أو كتابة ، وهذا الحديث يؤصل لحركة الفكر و حريته بما ينسجم مع ما تطرحه الشريعة ، إذ ليس هناك محذور في أي فكرة مالم تتعارض مع الطرح الشرعي ومن ثم ستكون متفرعة طوليا عنها مستندة إليها غير متقاطعة مع دلالتها .

أما دعوى الوقوف عند النصوص وعدم تجاوزها إلى غيرها فمع ما فيها من تحجيم لدور العقل فهي توقعنا في محذور خطر نبهوا أهل البيت إلى تداعياته ومآله ؛ قال الصادق ( عليه السلام ) : ((ما الشاتم لنا عرضًا و الناصب لنا حربًا أشد مؤونةً من المذيع علينا حديثنا عند من لا يتحمله )) (3) فالناس ليسوا على درجة واحدة من الوعي أو مستوى محدد من الفهم و الإدراك لما يرد عليهم ؛ فمنهم من تؤهله إمكانياته المعرفية بما يتمتع لديه من رصيد فكري أن يعي حديث أهل البيت ومنهم من ليس له المقدرة على ذلك ، ومع طرح كل ما يقع في جعبة الراوي من أحاديث وروايات دون إيضاح أو شرح أو تمهيد أو تفسير لها فمن الممكن هنا أن تنقدح في ذهن من يتلقاه شبهًا أو إشكالات مصدرها بسطة الفهم وتواضعه ، ومن جهة أخرى فإن راوي الأحاديث والتزامه هذه المنهجية يحرم المستمع من إمكانية توظيف هذه الأحاديث في مناسبات فكرية مشابهة فضلا على أن الفكر سيبقى مجمدا غير قادر على استيعاب مشاكل العصر الحضارية الأمر الذي سيجعل هذه الروايات وبدون شرح لها وبيان دلالاتها لا تفي بكل مستلزمات الإجابة .
من هنا فإن هذه الدعوى هي دعوى دخيلة على فكر أهل البيت و لاتنسجم أو تتوافق مع ما أصلوا له من الدعوة و التشجيع إلى ممارسة الإبداع الفكري إلى أقصى ما يكون عليه الإبداع بشرط أن لايتعارض مع ما ذكروه في أحاديث أخرى وما أصل له القرآن الكريم وإنما يكون في طوله ومتواشج معه ومفضي إليه ودال عليه .

(1) بحار الأنوار : العلامة المجلسي : 2/189 .
(2) جاء في مسند أحمد بن حنبل : (وعند احمد في مسنده: اني أوشك ان أدعى فأجيب، وانى تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزوجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي اهل بيتى، وان اللطيف الخبير أخبروني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) مسند احمد 3 / 17، وينظر ايضا :الصواعق المحرقة ص 147 عن المسند. - الطبقات الكبرى 2 / 194. - صحيح مسلم 7 / 122 – 123- مصابيح السنة 278. - السنن الكبرى 2 / 148.
(3) بحار الأنوار : 26/ 239 .
(4) الاختصاص : محمد بن النعمان العكبرى: 253