تناقضات الشخصية الإزدواجية بين علمي النفس والإجتماع |
تُعد الاضطرابات النفسية هي التي تؤثر سلباً على الوظائف السلوكية ، الانفعالية ، أو الوظائف العقلية مما يجعلنا نطلق عليها تسمية (المرض النفسي ) أو ( الأضطرابات النفسية). ومن هذه الأضطرابات النفسية هي (ازدواج الشخصية) والتي هي حالة مرضية نفسية تؤثر في سلوك وشخصية الفرد ، ولكن ما نلاحظه اليوم إن هذه الحالة من الأضطراب النفسي اصبح كإنما سمة من سمات الشخصية الطبيعية حيث لم يعد حالة إضطراب نفسي متميز المظاهر والابعاد بل اصبح شيئاً طبيعيا يمارسه الفرد في حياته اليومية بشكل طبيعي اي بمعنى اخر اننا نلاحظ انه حتى الشخص السليم نفسياً او كما نطلق عليه علمياً في تخصصنا (السَّوي ) ، نلاحظ احياناً ان هذا السَّوي يمارس وعن وعي تام او من غير وعي ازدواج الشخصية!. فإزدواج الشخصية يعني تناقض الفرد مع ذاته وهي حالة نادرة جداً في الطب النفسي ويمكن ألا تمر على كثير من الأطباء النفسيين وربما يكون سبب شهرتها مع ندرتها هو تناول الأفلام السينمائية وبعض المسلسلات لهذه الحالة سواء كانت أفلاما أجنبية أو عربية . إن ازدواج الشخصية ليس وهماً وانما اضطراب نفسي حقيقي حيث يظهر الشخص بأكثر من شخصية وهو احد الاضطرابات الانشقاقية Dissociative Disorders كان يسمى اضطراب تعدد الشخصية Multiple Personality Disorder في التصنيف الثالث DSM-III-R واصبح الآن يسمى اضطراب الهوية الانشقاقي Dissociative Identity Disorder حسب التصنيف الرابع DSM-IV . هذا يعني أن مفهوم ” ازدواج الشخصية ” – وهو مفهوم نفسي وليس اجتماعي – لم يعد متداولاً في الطب النفسي وأنه استبدل بمفهوم ” اضطراب الهوية الانشطاري ” يملك المصاب به هويتين أو شخصيتين – وقد يصل العدد الى العشرات !- لكل واحدة أسلوبها الخاص بها في السلوك والادراك والتفكير والتاريخ الشخصي والعلاقة بالآخرين . يحدث الانتقال من شخصية لأخرى عند وجود ضغط نفسي اجتماعي شديد ويتم الانتقال فجأة خلال ثواني الى دقائق .. وقد تناقض كل شخصية الاخرى كأن تتحول الآنسة الخجول فجأة الى فتاة جريئة أو نرى اي شخص يطلب شيئاً ما وعندما يتحقق طلبه يحتج على تحقيق مراده ! ونرى ان هناك الكثير من الناس الذين يعيشون حياة طبيعية ويمارسون ادوارهم في الحياة وهم بشخصيتين متناقضتين تماماً . وما كان يحدث من تناقض بين السلوك والافكار لدى الكثير من الذين نراهم ونسمعهم قد اصبح الآن تغييراً وتناقضاً واضحاً في شخصيتهم وليس بين افكارهم وسلوكهم فقط ، فهم اليوم بشكل يتكلمون ويتصرفون ويصرحون وبعد فترة زمنية بسيطة ولا نقول طويلة نجدهم بشكل اخر ، يتصرفون بطريقة متناقضة تماماً لما قالوه او فعلوه قبل قليل .كما شَخَصَ العلامة علي الوردي – رحمه الله- هذا منذ اكثر من خمسين عاماً وان كان هناك من يقول انه تناقض بين الفكر والسلوك آنذاك فنقول انه الان اصبح ازدواجاً في الشخصية.وان شخصيّة الإنسان تتركب من ثلاثة عناصر رئيسيّة وهي : المظهر والجوهر والإستجابة (التصرف). فعنصر المظهر يعن بشكل الإنسان ومميزاته العامة الأخرى كالمميزات الماديّة والسلطويّة. أما عنصر الجوهر فينشأ من عاملين أساسيين وهما الإدراك ” العقل” والإحساس أو ما نسميه بالعاطفة أو ” النفس″. هذان العاملان يتأثران في نشأتهما بفعلين رئيسيين وهما فعل الوراثة ” الجينات” وفعل المحيط الخارجي الذي يتلخص بالبرمجة الفكريّة الحاصلة من بواعث التربية والثقافة والمجتمع والمعتقدات والتقاليد والعلم والخبرة الشخصيّة وغيرها. أما العنصر الثالث في مركب الشخصيّة فهو عنصر الإستجابة أو التصرف وهو عبارة عن المحصلة النهائية في توافق العقل مع النفس تترجم بتصرفات المرء وأفعاله وأعماله. أي أن كلّ تصرف يصدر عن الإنسان هو عبارة عن قرار نهائي إشترك في صنعه إدراك المرء وإحساسه.وهكذا فان موقع إزدواج الشخصيّة في مركب شخصيّة الإنسان في منطقة الجوهر، أي منطقة الإدراك والإحساس لأنهما العنصران الحقيقيان في تركيب الشخصيّة. وعلى هذا الأساس أستطيع تصنيف أنواع إزدواج الشخصيّة طبقا لمكان الخلل أو أساس نشوء التصرف الى الأقسام التالية: * إزدواج الشخصيّة عقليّ المنشأ : وهو إزدواج في التصرف ينشأ نتيجة لإزدواج في الإدراك أو في العقلية. هذا التصرّف المتناقض يصدر عن شخص معيّن نتيجة لوجود مفهومين متناقضين كحالة تكيفيّة لظرفين متباينين تقتضيهما الحالة الإجتماعيّة. الأمثلة على ذلك كثيرة منها : تعايش الفرد في مجتمعين مختلفين في السلوك والعادات والثقافة، كمجتمع الحضر ومجتمع البادية، حيث قد تنشأ عند نفس الشخص مفاهيم متباينة طبقا للمكان الذي يتواجد فيه، يتصرف على أساسها بتصرفين متناقضين. فيسلك بعقليّة أهل البادية حينما يكون في البادية ويسلك بعقليّة أهل الحضر حينما يكون في المدينة. هذا الإنتقال من شخصيّة الى أخرى يحصل من دون جهد أو تكلّف وكأن المسألة تسير بشكل ميكانيكي وتلقائي التصرف اللاشعوري. ولا يمكن أن نعتبر هذا النوع من الإزدواج مرضا إجتماعيّا أو خللا في جوهر الشخصيّة، بل على العكس من ذلك، فهو تصرّف إيجابي وصحي يجاري ضرورة الحالة الإجتماعية التي يتعايش معها الفرد ويشير الى مدى المطاطيّة في طبيعة الشخصيّة وخصوصيّة تكيّفها طبقا للظرف والحالة. لا يشعر المرء الذي يتصرف بهذا السلوك المزدوج بتأنيب ضمير أو بأحاسيس سلبية نتيجة لهذه الممارسة، بل على العكس حينما نطلب من الشخص ذو المفهوم المزدوج أن يسلك بعلقية أهل البادية في المدينة أو بعقلية أهل المدينة في البادية فإن هذا قد يسبب له إحراجا ومضايقة لأنه خارج نطاق مفهومه الخاص بضرورة المرحلة. امثلة كثيرة والأمثلة كثيرة عن إزدواجيّة التصرف نتيجة لإزدواجيّة المفهوم، فمن الأمثلة الشائعة الأخرى التي نراها اليوم هو تصرفات بعض المغتربين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية ويندمجون فيها وتتكون لديهم مفاهيم جديدة. فهم يتصرفون بالسلوك الغربي حينما يكونوا هناك، بينما ينتهجون سلوك البلد الأم حينما يزورون أوطانهم. لا أقصد هنا من يعيش في الغرب ولا يندمج في مجتمعاته، فهؤلاء يبقون محافظين على مفاهيمهم السابقة وتصرفاتهم تبقى كما هي سواء كانوا في بلدان الغرب أو في بلدانهم, فمن لم يتكون لديه مفهوم جديد لا يتصرف بتصرف جديد. *إزدواج الشخصيّة نفسيّ المنشأ : هو إزدواج في التصرّف ينشأ في منطقة الإحساس في مركب الشخصيّة نتيجة لتناقضات أو إختلافات إحساسيّة. التناقض في التصرف هنا ينطلق من تناقض الأحاسيس المتضادّة إتجاه هدف معين واحد، مثل المحبة والكراهية أو الرقة والعنف، أو بين الأحاسيس المتباينة المنطلقة نحو نفس الهدف، كالغيرة والمحبة أو الخوف والكراهية. حالات تناقض التصرف بسبب تناقض الأحاسيس أمر غير نادر والجميع شهد أو شاهد أو سمع عن حالات كهذه، فكم من مرّة يتساءل المرء مع نفسه عن تصرفات شخص ما: هل هذا الشخص يحبني أم يكرهني؟، وهذا التساؤل ينطلق بسبب التصرفات المتناقضة الصادرة عن ذلك الشخص التي تشير بأنه يتصرف بشكل متناقض وبسبب شعور متناقض مثل (الحب والكراهية). هذه الظاهرة ترجع في أسبابها، في الغالب الى أمور تتعلق بوضع الشخص النفسي وحالته النفسيّة التي تتناقض فيها الأحاسيس. تناقض التصرف كما أن بعض تصرفات المرء قد تشير الى محبته لذات ما بسبب الخوف منها ثم ما يلبث أن يناقض ذلك بتصرفات تبيّن الكراهية والحقد لنفس الذات حينما يكون في مأمن منها أي أن تناقض التصرف هنا يحصل بسبب إختلاف الأحاسيس( الخوف والكراهية) . في مرات عديدة يأتي الحبيب بباقة ورد الى حبيبته تعبيراً عن الود والمحبة وما يلبث بعد برهة حتى ينقلب هذا الود الى نزاع وتخاصم ينبعان عن عوامل الغيرة، وهو مثال آخر عن تناقض التصرف بسبب إختلاف الأحاسيس(الحب والغيرة). الأمثلة كثيرة على تناقض الأحاسيس أو إختلافها التي يتبعها تناقض في التصرف. *إزدواج الشخصيّة التناقضي أو “تناقض الإدراك مع الإحساس”: هنا يكون التصرف المتناقض ناشىء عن تناقض بين إدراك المرء وإحساسه، فمفاهيمه ومعرفته وإدراكه تحتم عليه سلوكيات محددة يستجيب لها ويتصرف على أساسها، لكن أحاسيسه تدفعه الى تصرفات تناقض القيم والمفاهيم التي يمليها الإدراك فيتصرف طبقا لذلك بمكيالين مختلفين يناقض أحدهما الآخر. هذا يفسر السلوك المتناقض لدى من يصوم في النهار ويحتسي الخمر بالليل أو من يصلي ويسرق أو من يمارس الطقوس الدينية في المسجد أو الكنيسة ويقترف مؤاخذات قد تصل الى حد الجريمة. أي أن الموازنة الإجتماعية بين المحضور والممكن تختل عند هؤلاء لسبب أو لآخر مما تجعل المرء غير قادر على كبح جمام أحاسيسه الغريزية أو الفسلجيّة، فيقوم بتلبية أو إشباع أو تفريغ هذه الأحاسيس بالصورة التي تخالف متطلبات الإدراك، وهذا ما يؤدي الى تناقض في التصرف الإجتماعي. خلافاً لحالة إزدواج الإدراك فأن التناقض بين الإدراك والأحساس قد يؤدي الى حالة تأنيب الضمير أو ربما يمتد صراع النفس مع النفس الى درجة الإصابة بأمراض نفسية أو عصبية. هنا مرة أخرى يجب أن نقول بأن تناقض الإدراك مع الإحساس لا يمكن إعتباره إزدواجاً في الشخصيّة مالم يتمخض عن تصرفين متناقضين أحدهما بوازع الإدراك والآخر بوازع الإحساس. الكثير منا يحصل عنده تناقض بين إدراكه وإحساسه في مواقف معينة، لكنه في النتيجة يتصرف بتصرف واحد تبعا لإدراكه أو تبعا لإحساسه وهذه حالة طبيعية وليست إزدواجاً. كما أن إزدواج الشخصيّة يشترط إزدواج الجوهر وإزدواج الإستجابة (التصرف) في آن واحد. وهناك اثر يتركه ازدواج الشخصية لدى الفرد على الادارة باعتبار ان الفرد هو من يمارس العملية الادارية باشكالها المختلفة وهو من يقوم بتقديم خدماته الى غيره عن طريق وظيفته التي يمارسها .حيث ان سلوك الفرد وبيئته الاجتماعية التي عاش ويعيش فيها ونفسيته وتكوين شخصيته تؤثر على طبيعة القيام بمهامه وتقديم الخدمات . اضافة الى الظروف البيئية الحالية ايضا تترك اثرها الفعال على الادارة عن طريق سلوكيات افرادها القائمين بها وحكم تلك الظروف التي قد تفرض على بعض الافراد بعض السلوكيات التي يجب ان تظهر على ذلك الفرد باعتبارها سلوكيات غير جيدة وسلبية تترك اثرها بالتالي على الادارة بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام ومن خلال ذلك تتأكد لنا طبيعة العلاقة الموجودة بين ادارة الفرد والمجتمع . عرض اجتماعي لقد كان للأوبئة والامراض التي تعرض لها العراق حصة في ان تساهم في انتشار هذا المرض الاجتماعي ) ازدواج الشخصية ) حيث كانت القيم السائدة في فترات سابقة هي قيم الشقاوة والسَّلب والنَهِب والمغالبة وعندما كانت الاوبئة تأتي بين فترة واخرى كانت تزرع او تترك بذور الضعف والمسكنة وبين هذه القيم وتلك كانت الازدواجية تقوى في نفس الفرد العراقي حيث انها واحدة من الظروف المهمة التي ساعدت على تكوينها في شخصية الفرد العراقي اضافة الى ما المد البدوي من اثر في ان يغذي المدن بالقيم البدوية ويولد صراع بين القيمتين داخل الفرد . والمواعظ والارشادات ساهمت بشكل ليس بالقليل على ان تفرز هذه الظاهرة أي تكوين شخصيتنا فالبيئة التي تتربى بها وطبيعة التعامل مع افرادها تفرض علينا سلوكاً معيناً ويأتي هؤلاء الوعاظ والمرشدين بمواعظ تقف موقف الضد عن الاولى حتى ان بعض هؤلاء الوعاظ والمرشدين هم اكثرناس حاجة الى من يَعِضَهم .وهنا توصية ودعوة الى كل من نصب نفسه اماماً وناصحاً لغيره ان يبدأ بإصلاح نفسه قبل اصلاح غيره وان لا يتخذوا من وراء هذا الى تحقيق اهداف شخصية ويتخذون من المثل العليا والحق ستاراً لهم لتحقيق رغباتهم الدنيئة والبعيدة كل البعد عن ما يتنادون به من افكار ونصائح ومُثل عُليا.وختاماً نسال الله أن لايجعلنا من اولئك الناصحين والمرشدين الذين يقولون ما لا يفعلون وينصحون غيرهم وهم لا يُنصحون . |