التعليم الأهلي.. تجارة الوهم |
في عام 1932 اندلعت ازمة كبيرة في القاهرة، ففي شتاء تلك السنة قررت الحكومة المصرية منح بعض الساسة شهادة الدكتوراه الفخرية، واختارت كلية الاداب لتحقيق هذه الغاية، الا انها جوبهت بالرفض القاطع من عميدها انذاك طه حسين، وكان مسوغه في حينها الحفاظ على مكانة الدرجة العلمية، وازاء هذا الموقف المبدئي الشجاع دفع عميد الادب العربي الثمن، حيث اعفي من منصبه، واحيل الى التقاعد. هكذا يدافع حماة المعرفة عن الاوطان عندما تستباح قلاع العلم بتدخلات سافرة، فمهما غلت التضحيات لابد من وقفة للتاريخ، يقرع فيها ناقوس الخطر، بالموقف والكلمة والرأي، ولاسيما عندما يتعلق الموضوع بالرصانة العلمية، والارتقاء بمعايير الجودة، فالامم اليوم تتسابق بمدى التقدم المعرفي، ومكانة التعليم العالي، وشهرة جامعاتها على مستوى العالم. واصل الحكاية ما يجري اليوم من فوضى عارمة في الجامعات الخاصة التي سمحت بها وزارة التعليم العالي عندما اطلقت لها العنان عام 2011 ، لتغدو عبارة عن مشاريع تجارية لا تتوفر فيها ابسط مقومات التعليم او البحث العلمي، من قاعات دراسية كافية، ومختبرات حديثة، ومستلزمات متعددة، فالكثير منها منازل سكنية، او فنادق مهجورة مستاجرة، يقع بعضها في اماكن نائية، او مناطق صناعية مكتظة، تفتقر الى اشياء كثيرة بما فيها الشروط الصحية. ولكي تتدارك وزارة التعليم ما ارتكبته من ذنب وخطيئة، تسعى حاليا الى تطبيق معايير الجودة المطلوبة على الكليات والجامعات الاهلية، بعد ان فسحت المجال لتاسيسها دون اي قيد او شرط، ولو طبقت هذه المعايير اليوم حقا، سوف لم تبق سوى بضع جامعات او كليات، فمعظمها لا ترتقي بناياتها الى المدارس الثانوية، وبعضها ربما لايصلح حتى لرياض الاطفال. هذه الكليات تستقبل سنويا في الدراسات الصباحية والمسائية اعدادا هائلة تفوق طاقتها الاستيعابية، ولا تواجه مشكلة في الواقع، فالطلبة على مقاعدها لا يتجاوزون اصابع اليدين اثناء العام الدراسي، وتستثمر جميع ارجاء المكان في الامتحانات النهائية، حيث يتوافد عليها المسجلون في قوائمها من كل حدب وصوب للنجاح والتخرج. اما الملاك التدريسي فعبارة عن اسماء وهمية تستعين بها هذه الكليات لغرض الحصول على موافقة التاسيس، ثم تلجأ الى حملة شهادة الماجستير من الخريجين الجدد، او المحاضرين الخارجيين، واذا علمنا ان جامعة بغداد لا تسمح للمدرس المساعد بالقاء المحاضرات حفاظا على مقاييس الجودة العالمية الا في الاختصاصات النادرة، ندرك مدى الفجوة الكبيرة بين التعليم الاهلي والحكومي. معظم الجامعات الخاصة اصبحت تجارة تبيع الوهم لطالب فشل في الامتحان الوزاري، والدرجة معيار مهم ، فتمنحه شهادات كانت في احلامه، فهي تفوق بكثير مستواه العلمي والفكري، كما تقدم وصفات الخيال لعوائل كانت ترى في ابنائها مستقبلا واعدا، فتمني نفسها بان التعليم الاهلي هو الملاذ، بعد ان ضاقت بها السبل ، وتبددت احلامها، وذهبت ادراج الرياح. الوجه الاخر للقضية اقبال موظفي الدولة على الدراسات المسائية في التعليم الاهلي بغية الحصول على الشهادة لغرض تحسين الراتب الشهري، فيختارون اختصاصات سهلة، لا تخدم دوائرهم، ويغدو الامر بعد التخرج اجراءات روتينية، دون اي اهمية للحاجة الفعلية، وبلا مراعاة للهيكل الوظيفي، او التخطيط القريب او البعيد .. ان وجد. لقد اطلق مجلس النواب رصاصة التخلف على التعليم العالي في العراق، وذلك من خلال شرعنة الفوضى العارمة بالجامعات الخاصة تحت شعارات براقة مفادها (الاسهام في احداث تغييرات كمية ونوعية في الحركة العلمية والثقافية والتربوية في المجتمع العراقي ونشر المعرفة وتطويرها والقيام بالبحث العلمي وتشجيعه وتطوير المنهج العلمي وتنمية الشعور بالانتماء الوطني وروح المسؤولية ، والالتزام بالخط الوطني المستند الى وحدة الشعب والوطن) واسباب موجبة تثير السخرية من قبيل (تعزيزاً للمكانة العلمية للجامعات والكليات والمعاهد الاهلية بما يؤمن تحقيق اهدافها عن طريق منحها الاستقلالية والمرونة العلمية للتطور والإبداع بما يجعلها نمطاً خاصاً للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق). احترام العالم للشهادات العراقية في تراجع مستمر ، وقد بلغ الى نقطة حرجة تتطلب موقفا علنيا لايقاف ما يجري من انتهاك لجميع المعايير العلمية المتعارف عليها، فكم طه حسين نحن بامس الحاجة اليه اليوم ، اما اذا اردنا ان نعرف السبب بخراب التعليم الاهلي، فعلينا ان نبحث عن اصحابها والمستثمرين فيها، بل حتى في اسماء خريجيها ..سنجدهم عناوين بارزة في عراقنا الجديد. |