عاهة العصا!!

 

 

"العصا لمن عصى"

العصيان في وعينا الجمعي هو المخالفة, وعدم الإذعان للرأي الآخر. وهو خلاف الطاعة ونقول عصيانا ومعصية.

وقد تأكد في أعماقنا أن الحل الأمثل للعصيان هو بالقوة التي تشير إليها العصا وتعبر عنها إرادة صاحبها , الذي يريد من الآخر أن يذعن.

وفي ذات الوقت فأن الآخر يريده أن يذعن لما يراه ويعتقده, فيصبح الأمر إن العصا للعصا.

وبهذا يتحقق مفهوم الصراع الدامي في حياتنا , ويتأكد مشروع الدمار الذاتي , والانشغال عن الحياة ببعضنا.

وهذا يدفع بنا قرونا إلى الوراء.

والعصا حالة فعالة تتوطن لاوعينا وتفعل دورها في رسم معالم سلوكنا.

فمنذ المدرسة والطفولة, لم نعهد مَن يصغي إلينا ويتفهم مشاكلنا, بل وجدنا من يهب بوجهنا غاضبا وممسكا بعصاه ليضربنا, لأننا لم نفعل هذا أو فعلنا ذاك.

ولا يمكن لأحدنا أن يقول بأنه لم يذق طعم العصا في مدرسته , أو طعم (الراشدي) (وهو الصفع على الخد بالكف وبقوة حتى تنطبع الأصابع على وجهك وتنبعث النيران من عيونك).

وفي هذه السلوكيات زرع للألم وتحقيق للنظرة السلبية والتفاعل الضار في الحياة.

فنحن نتلقى العقوبة من دون مسوغات ومبررات كافية, وهذا يدفع بنا إلى التعبير عن ذلك في حياتنا مع الأيام.

فما رأيت معلما في حياتي جالَسَ التلميذ وأصغى لشكواه ولماذا لم يقم بواجبه , بل ان الحل الأسهل هو العقوبة , والإهانة أمام التلاميذ , وزرع المشاعر السلبية في لاوعي التلميذ.

 وهذا ما يحصل في البيت أيضا وفي الحارة وعلى جميع المستويات.

ولهذا ترى نظامنا السياسي والإداري , وكل التفاعلات الأخرى ما هي إلا مبنية على مفهوم العصا لمن عصى أو العصا للعصا.

وأذكر مرةً وددت ان أتحدث مع مدير مدرستنا عن مشكلة واجهتني , فوجدته لا يريد أن يستمع إلى ما يجيش في خاطري, وأدركت بعد أعوام أنه لا يملك تلك المهارة اللازمة لتربية الأجيال , سوى أن يحمل العصا ويتبختر في ساحة مدرستنا.

إن التعامل مع الحياة بأسلوبٍ كهذا يصنع وجودا متناقضا ما بين الإرادة والعقل , ويدفع بسيادة الانفعالات , على منطق التفاعل ومنهج الأسباب اللازمة للوصول إلى حالة الفعل.

وبسبب هذا فأننا وعلى مدى القرن العشرين ترانا في صراع سلطوي وتفاعلات مقيتة ذات آثارٍ ضارة ومدمرة.

فقد تسيّد هذا المنهج البدائي القبلي على سلوكنا السياسي , ولازال فعالا ومؤثرا في مسيرة الأحداث والتحولات القائمة.

ولا يمكن لمن تضخّم في أعماقه هذا النهج التفاعلي , أن يتخلص من تأثيراته وينتقل إلى حالة جديدة من الوعي والتصرف , رغم أنه قد عاش في عوالم أخرى , لكنه قد عزل هذه العلة وصرفها عن أيامه , وعندما توفرت لها الظروف المؤاتية أخرجها بقوة شديدة وعبّر عنها أسوأ تعبير.

من هنا فأن الفاعل فينا هو مبدأ القوة الطاغية وعدم القدرة على التعامل العاقل مع بعضنا, لأن في عرفنا , ذلك إستهلاك للوقت ومضيعة للجهود, ومن الواجب علينا أن نتناطح لكي نحقق ما نريده.

وليس غريبا علينا أن نتقاتل , خصوصا عندما يتعلق الأمر بالسياسة والحكم, لأن في ذلك إظهار واضح لمعالم ما فينا من المشاعر الإستبدادية والعواطف الطغيانية.

فالطغيان, ظاهرة كامنة فينا ومنذ طفولتنا , وإلى اليوم الذي نسلخ جلد بعضنا البعض , لا لسبب معقول , بل لإختلاف في الرأي أو وجهة النظر وما شاكلها.

ومن يتربى على هذا المبدأ , فأنه لن ينال من الحياة إلا الأذى ولن يصنع إلا الأضرار.

ولهذا فأننا في نشاطات تدميرية لبعضنا البعض , إستنادا إلى ما فينا من نوازع ونوايا سلبية محكومة بهذه العاهة التربوية التي طحنت الأجيال تلو الأجيال.

وهي تنحاز دوما للبطش وسفك الدماء وتثمير الأحزان والويلات , والتعامل بمبدأ محق الآخر وتدمير كل ما يرتبط به ويتعلق بحياته من مؤثرات ومتروكات.

وفي هذه العاهة يكمن الظلم المؤلم والقمع الكريه , الذي يصنع من البشر وجودا منافقا ومزدوجا في التعامل مع المستجدات.

وقد ساهمت عاهة العصا في بناء مجتمعات النفاق , التي أنتجت أقبح ما يمكن للبشر أن يقوم به من سلوك تجاه نفسه وأبناء ملته.

وما جرى في واقعنا العراقي كان تعبيرا تفصيليا عن مفرداتها , ولا يمكننا الخروج من مأزق العصا , إلا بمراجعة أسباب سلوكنا والعودة إلى العقل , الذي يناهض هذه الإندفاعية الظالمة والرغبة المتوحشة لإمتلاك الآخر , وتدمير أركان وجوده تحت أنواع المسميات والشعارات البائسة.

بينما المجتمعات المعاصرة مجتمعات بحث علمي ودراسة موضوعية,  للظواهر والسلوكيات البشرية من أول مراحل المدرسة وما قبلها وإلى آخرها. ففي كل مدرسة هناك مرشدين نفسانيين وإجتماعيين , كما أن المعلمين والمدرسين قد درسوا الكثير عن السلوك البشري , وتطورت عندهم قدرات الملاحظة والفهم له, وأصبح تعاملهم مع التلميذ وفقا لمناهج البحث العلمي ونتائجه الصحيحة , التي يتم على ضوئها بناء المجتمعات,  وتأهيل أجيالها للقيام بالمهام المناطة بهم.

فما عاد للقوة دور في التعليم وتهذيب السلوك البشري , وإنما هوالعقل والقواعد العلمية للسلوك السليم , الذي يخدم الفرد ويحقق مصلحة مجتمعه.

وما بقي للعصا دور في الحياة, وأصبحت القوة جريمة يحاسب عليها القانون في المجتمعات المتطورة, لأنها تناهض العقل وتلغي المعنى السامي للمدرسة والتعليم.

كما أن التربية تستند على مفاهيم متقدمة لغرس المعاني الوطنية والأخلاق الإيجابية في نفوس التلاميذ , من أجل إعدادهم إعدادا موفقا وصحيحا ومتفقا مع النهج الوطني للأمة والشعب.

ولا يمكن باي حال من الأحوال , أن تتحول المدارس إلى مصدر للعقوبة وتنمية العقد والشدائد في أعماق التلاميذ , كما يحصل في معظم مدارسنا ومنذ اجيال.

فالتعليم عندنا مقرون بالعصا, والمعلم كان يحمل العصا, وبرغم زوال هذه الظاهرة في معظم المدارس,  لكن أسلوب العصا لازال متفشيا ومؤذيا ومؤثرا في إعداد أدوات الدمار والخراب الوطني في بلداننا.

إن الإهتمام بأساليب التعليم من أهم الخطوات التي تقودنا إلى التقدم.

 فنحن نركز على المناهج وننسى الأساليب , التي هي لا تقل أهمية عنها بل قد تتفوق عليها.

فالتعليم في جميع أنحاء الأرض مبني على النهج الوطني الذي يخدم الشعب والأمة , ولا يبنى على غير ذلك , فلا يمكن للمدارس أن تكون دينية أو طائفية أو عنصرية , فالتلميذ في معظم الدول المتقدمة قد يطرد من المدرسة إذا أظهر أية ميول طائفية أو عنصرية في سلوكه أو قوله.

فعن أي مستقبل نتحدث ونحن نحشر الأجيال الصاعدة في أنفاق الظلام ونغذيهم بالبهتان , ونمنع عنهم ومعالم التفكير العلمي وأصوله, التي غيرت الدنيا ودفعت بها خطوات حثيثة إلى التقدم الفائق العطاء.

وتبقى العصا لمن عصا , قوة غاشمة تتوطن أعماقنا برغم غيابها من مدارسنا , لكن مذهبها لازال قائما ,  لأننا لم نطور أساليب التعليم ولم ندخل العنصر النفسي والتربية النفسية في حياتنا المدرسية والإجتماعية.

وستظل مجتمعاتنا تئن من هذا الحيف التربوي الذي يمزق مسيرة الأجيل , ويبطل دورها الخلاق في الحياة , ويستنزفها في مواضيع لا تنفعها ولا ترفد الحياة بما هو جدير بالتطور والبقاء.

وقد يتساءل البعض عن مغزى  الموضوع في هذا الوقت , والحقيقة الغائبة عنا, أن الجيل الذي يتحكم بشؤون بلادنا هو من جيل العصا لمن عصا, وقد توفرت له كل مسوغات التعبير عن ذلك المنهج المقيت, وتلك أحد أسباب ويلاتنا المعاصرة!

ومهما توهمنا بالديمقراطية , فأن العصا عقيدتنا , ومنهاج سلوكنا وآليات تفكيرنا , وعاشت الكراسي صاحبة ألف عصا وعصا لمن عصى!!