العدد الثالث اليهود في ظل السيطرة العثمانية على العراق .
تذكر مجلة بغداد في مجلدها الخامس العدد الثالث لسنة 1976 عن رحلة فنشنسو إلى العراق في القرن السابع عشر  سنة 1656م عندما تنقل بين مدن العراق وصف التركيبة السكانية المتنوعة للعراق فقال: فيها الأتراك والفرس والعرب والغرباء واليهود والأرمن والصابئة والنصارى من مختلف الطوائف المسيحية، ويمارس هؤلاء كلهم شعائرهم الدينية بكل حرية.
وذكر ريمون أندريه في كتابه  المدن العربية الكبرى في العصر العثماني قول الرحالة الدينماركي (نيبور) عندما زار العراق سنة 1765م فقال: إن الأقلية اليهودية في عموم العراق كانت أقوى من باقي الأقليات الأخرى، فضلاً عن مشاركتهم للأمراء والمماليك في النفوذ والسلطة بسبب سيطرتهم على التجارة وأسواق المال.
   لقد خضع العراق للسيطرة العثمانية في الحادي والثلاثين من كانون الأول عام 1534م, وتمكن السلطان العثماني سليمان الأول (القانوني) للفترة من(1520-1566 م) من ذلك.
وبعد استرجاع بغداد في العام 1637م على يد السلطان العثماني مراد الرابع , وقد سادت العراق مرحلة من الاستقرار النسبي انعكست بشكل إيجابي على حياة يهود العراق حيث تحركوا من اجل اعادة تقوية حياتهم الاجتماعية بنواحيها المختلفة .
 وفي نهاية القرن الثامن عشر ، تقلدوا الوظائف المهمة ، منهم المصرفيون والمستشارون لولاة ولايتي بغداد والبصرة.
وقام الباب العالي بتعين الحاخام باشي رئيس الحاخامين كزعيم روحي وديني حتى اصبح لهم زعيم (الحاخام باشي) في الأستانة يمثل جميع اليهود في الدولة العثمانية أمام الحكومة.
وفي عهد المماليك الذين حكموا مده من الزمن بحوالي ثمانين عاماً (1750-1831) , لم يتأثر الوضع المستقر ليهود العراق.
وبعد تدخل السلطات العثمانية المركزية مره اخرى في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر أصدر السلطـان عبـد المجيـد (1839-1861) في عـام 1839م خـط شريف كولخانه ,و تبع هذا المرسـوم (مرسـوم خـط شريـف همايون) في عام 1856م , فالأول يقضي بضمانات احترام حياة الأفراد وأملاكهم , والثاني أقر معاملة رعايا الدولة العثمانية معاملة متساوية بغض النظـر عـن دياناتهم ومذاهبهم ,مما اثر على تحسن اوضاعهم اكثر من قبل حيث منحوا حرية وتساوي في الحقوق ,وحتى الخدمة العسكرية كانوا يدفعون عنها بدل عسكر الى جانب الالتحاق بالوظائف المدنية والعسكرية والمساواة في حق الشهادة.
و لعب اليهود دور الوسيط بين حكام العراق ووكلاء شركة الهند الشرقية البريطانية ، وتبوأ بعضهم مناصب سياسية وإدارية مهمة .
 وفي عهد الوالي مدحت باشا (1869-1872م) كانت من ضمن اصلاحاته في العراق الدعوة الى إشراك الأهالي في أدارة أمور البلاد مع الموظفين الأتراك، ولهذا الغرض أنشأت المجالس البلدية في كل ولاية وسنجق وقضاء وناحية، مؤكداً على اشتراك أبناء الأقليات في تلك المجالس.
وهذا الامر دفع أبناء الأقلية اليهودية للمطالبة بتمثيلهم في المجالس البلدية، وبالتالي حصولهم على تمثيل رسمي في مجلس النواب (المبعوثان) العثماني عند إعلان الدستور في عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1876م,ففي عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) جاء التأكيد على الحرية والمساواة لمواطني الدولة العثمانية كافة أمام القانون ، وتأسيس مجلس عام يتألف من مجلسين : المبعوثان (النواب) والأعيان (الشيوخ), مما ادى الى ان يكون ممثل لهم فيه يدعى مناحيم دانيال عن يهود بغداد.
واصبح للطائفة اليهودية عدة مجموعة كسلطات خاصة لهم ,فكانت السلطة الموازية لسلطة الحاخام سلطة الناسي, وهي مسؤولة عن النشاط المالي للطائفة ,فيسمى (صراف باشي),ويتم اختياره من أحد أفراد أرفع الأسر مكانة. وتتبادل السلطتين من اجل السيطرة على شؤون الطائفة مع الدولة العثمانية .
وبعد سلطة الزعيمين الحاخام و الناسي هناك ثلاثة مجالس , فالأول المجلس الجسماني وهو مختص بالأمور المدنية للطائفة .
والثاني المجلس الروحاني وهو يهتم بالأمور الدينية الخاصة باليهود .
والثالث المجلس العمومي المؤلف من (60) عضواً يمثلون بغداد ومن (20-40) للمدن الأخرى ، مهمته تحديد انتخاب رئيس الطائفة مرة كل أربع سنوات.
وكانوا اليهود همزة الوصل بين بغداد وباقي أجزاء الدولة العثمانية من الناحية المالية , فتولوا نقل الأموال من بغداد إلى الأستانة ، لأن الحكومة العثمانية كان من مصلحتها إن يتولى أمر الشؤون المالية وسك النقود يهود.
وفي سنة 1870م تحرك بعض جماعات يهود العراق نحو الجنوب العراقي ( البصرة والحلة ) بسبب الاستقرار و انتشار الأمن وازدهار التجارة , مما ادى الى ازياد أعداد اليهود في تلك المدينتين بعد السنة المذكورة وبشكل كبير .
وبعد انقلاب جمعية الاتحاد والترقي في الثالث والعشرين مـن تموز عام 1908 م , و أعلـن الدستور الجديد الذي نص على المرسومين اعلاه , فعلى أثره أنتخب ساسون حسقيل لمجلس المبعوثان الذي عقد في اسطنبول بعد إعـلان الدستـور ، وتجـدد انتخابـه في دورات المجلس جميعها حتى الحرب العالمية الأولى (1914-1918), وكانت فائدة اليهود لم تقتصر على التمثيل السياسي لطائفتهم فحسب , بل اصبحت كل التجارة المحلية والخارجية  في العراق بأيديهم , لا ينافسهم في ذلك أي من الطوائف الأخرى ,فكانت لهم سيطرة شبه مطلقة على السوق المحلية في العراق، وأصبحت لهم علاقات تجارية واسعة مع الدول الأجنبية لدرجة إن تجارتهم امتدت لتصل إلى انكلترا والهند والشرق الأقصى، كما تركزت عمليات البيع والشراء للبضائع الانكليزية في أيديهم فقط.
وبدأت أعداد اليهود تزداد بشكل ملحوظ أبان الحرب العالمية الأولى، قادمة من إيران ومن بعض الدول المجاورة للعمل في ظل واقع اقتصادي يسيطر عليه المال اليهودي.
ولعل هذه السيطرة و الاستقرار التي تمتعت به تلك الطائفة هو الذي جعلها دوما تعد نفسها جزءاً متمماً للشعب العراقي , فيقول وليد خدوري حين يشير إلى ان يهود العراق كانوا : ((… يشكلون جزءاً لا يتجزأ من المجتمع ، وكانت ممارساتهم الثقافية والاجتماعية هي ممارسات السكان في مجموعهم , كانت طائفة معربة تماماً , فقد كان اليهود يتحدثون بالعربية فيما بينهم ، ويستخدمون العربية في شعائرهم الدينية , وكانت حياتهم الاجتماعية هي حياة العرب )) .
وفي بداية القرن التاسع عشر عام 1883 أسست الطائفة اليهودية مدرسة تلمود توراة وهي أول المؤسسات التعليمية التي غلب عليها الطابع الديني ، وهي تشبه في عملها (الكتاتيب (المله)) التي انتشرت في العراق , والتي كانت مدعومة من جمعية الأليانس الإسرائيلية العالمية , فأسست مدرسة الأليانس في بغداد عام 1865 ، وعهدت رئاستها الى (المسيو ماكس) وشاركه في مهمته هذه أسحق لوريون الساعاتي , فأزداد الدعم لها من مقر جمعية باريس والجمعية الإنكليزية اليهودية في لندن واللجنة اليهودية في بغداد.
وبما اننا ذكرنا مقر جمعية الأليانس الإسرائيلية في باريس , لابد ان ننوه بأن هذه الجمعية كانت لديه ملف يحمل اسم (النشاط الصهيوني في العراق1899) يضم بين طياته مجموعة حوادث بضمنها رسالة كتبها أهرون المعلم.
وهذا يشير الى ان بدايات النشاط الصهيوني في العراق كان أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، بمبادرة فردية محدودة تبناها اليهودي (أهرون ساسون بن الياهو ناحوم الملقب (بالمعلم) وهو يهودي عراقي ولد في بغداد عام 1873 ، صهيوني نشط عمله في العراق ، وهو المعلم الأول الذي درس حسب أسلوب العبرية بالعربية ، وكان شاعراً ، نشر في عام 1919 كتابه بالعبرية (قصائد الأحباء)، هاجر الى فلسطين عام 1935 ، وتوفى فيها عام 1962 .
ولذلك بادر بعض يهود العراق من المؤمنين بالحركة الصهيونية الى انشأ اول مطبعة في العراق سنة 1863م ,فكانت صحيفة (هادوبير - الناطق) أول صحيفة  تصدر في بغداد باللغة العبرية ,فهكذا امتلكت الطائفة أول مطبعة ، تصدر أساساً مطبوعات دينية وأخرى مترجمة للعربية لبعض مؤلفات الحاخام (بنيامين بن توديلا).
وباسم قراءة المطبوعات التي تصل من بولندا وروسيا الى يهود العراق  , والقادمين بها هم من يهود أوربا , مما ادى الى زيادة الاحتكاك بين الطائفة , فمن جانب الصهيونية تنفذ مخططاتها , لاسيما ان الحركة الصهيونية العالمية اهتمت بيهود العراق بعد انطلاقها في مؤتمر بازل ، فقد حاول هرتزل بحجة الحصول على أرض صلبة يقف عليها ، كسب الموافقة العثمانية لمنحه امتيازاً رسمياً لاستعمار صهيوني في العراق ، فقدم ثلاثة طلبات بهذا الخصوص خلال عام واحد.
ولكن باءت محاولته بالفشل إزاء موقف السلطان العثماني عبد الحميد الثاني المعارض للأهداف الصهيونية ، والذي لم يستجب للإغراءات المالية الكبيرة التي قدمها هرتزل.
واما الجانب الاخر بعد فشل محاولات هرتزل قررت الحركة التحرك بأسلوب سري  اخر في ارسال جماعات يهودية بحجة تبادل الثقافة من خلال المطبوعات , فاليهود القادمين من بولندا وروسيا الحاملين لتلك المطبوعات اخترعوا حجة زيارة ذويهم واقاربهم  من الطائفة في العراق ,فاستقروا عندهم .
و ان عدد اليهود كان في تزايد مستمر ، فقد قدر عددهم في بغداد عام 1794  بـ (2500) نسمة ليصل الى (50) ألف نسمة عام 1908 , فتوزعوا بشكل متفاوت بين مدينة وأخرى ، فقد ضمت بغداد القسم الأكبر منهم ، فالموصل ثم البصرة ، الى جانب المدن الأخرى التي تواجد فيها أعداد قليلة.
وقد استفادت الحركة الصهيونية بتنفيذ مخططاتها من خلال التعليم وثقافة المطبوعات المتبادلة ,فوضعوا قاعدة مستقبلية للحركة حيث التعليم المتطور في  مدارس (الأليانس) في بغداد اعطى دور متميز للشباب اليهودي لتنفيذ افكار الصهيونية الى جانب وصول الصحف الصهيونية التي تصل من أوربا الى العراق والتي تحمل بين طياتها الأفكار الصهيونية.
وهنا وضعت الحركة الصهيونية موطأ قدم  من خلال قاعدة مستقبلية لنشر أفكارها بين يهود العراق .
وبهذا استفاد اليهود من السيطرة العثمانية على العراق حيث اصحبوا يتمتعون بحقوق المواطنة العراقية الكاملة التي لم ينالوها في العهود السابقة  . وايضا  اهتمت الحركة الصهيونية باليهود المتواجدين في العراق ,باستغلال تواجدهم المستقر بالدعم المادي والتعليمي والثقافي والديني مع ارسال اخرين لزيادة اعدادهم من اجل نشر افكار الحركة والاستيطان في البلد .