أعلن الرئيس باراك أوباما قبل أسبوعين بأن الولايات المتحدة ستخفّض قواتها في أفغانستان من 9.800 الى 8.400 عسكري, مغيّرا ً بذلك خطته الآصليّة لتخفيض العدد الى 5.500. ويستند قراره هذا الى أنّ الآحوال على الارض ليست مبشّرة بالخير كما كان يتوقعها وابقاء عدد ٍ أكبر من القوات امر مهمّ كما يعتقد بقوله:”انه من مصلحة أمننا القومي…أن نعطي شركاءنا الافغان أفضل الفرص للنجاح”. غير أن الرئيس لم يوضّح, على أية حال, ماذا يعني النجاح بالفعل. فاذا كان يعني بأن أفغانستان ستصبح في نهاية المطاف ديمقراطية مستقرة وفاعلة, فهو مخطىء في الاساس.
وبالفعل, فحتّى لو ركزت الولايات المتحدة ثلاثة أضعاف القوات الرابضة حاليا ً لمدة 15 عاما ً أخرى أو ما يزيد عن ذلك, فان الولايات المتحدة بالنظر الى الصراعات المتعددة والقسوة ونفاق اللاعبين المشاركين وتاريخ البلد الطويل لن تستطيع انقاذ أفغانستان من المستنقع المتواجدة فيه. وملاحظات الرئيس الختامية بهذا الشأن توحي بشدّة بأن الوجود العسكري الامريكي في أفغانستان مفتوح أساسا ً بقوله:” ….بالنظر للتحديّات الهائلة التي يواجهونها, فان الشعب الافغاني بحاجة لشراكة العالم بقيادة الولايات المتحدة الامريكية لسنوات عديدة قادمة”.
تذكرنا الوقائع على الارض بحرب فيتنام – كونها صراع مطوّل لا حاجة له وبدون أمل أو رؤية للنصر – باستثناء أن الحرب في أفغانستان معقّدة حتى أكثر وتصبح بازدياد مطرد صعبة المراس. ولفهم ما ينبغي أن تكون عليه الاستراتيجيّة الامريكيّة لانهاء حرب ٍ طالت أكثر من أية حرب أخرى في تاريخ الولايات المتحدة, يجدر بنا أن نأخذ ما يلي بعين الاعتبار:
أولاً: أفعانستان بلد غير ساحلي مغلق جغرافيّا ً بتضاريس جبلية ووعرة ومفعمة بالآف الكهوف التي يمتدّ طول البعض منها أميال ومعروفة فقط للسكان الاصليين. ومن الناحية التاريخيّة, لم تستطع أية قوّة في العالم غزو أو قهر أفغانستان والابقاء على هذا الغزو من عصر الاسكندر الكبير, شاملا ً المغول والامبراطورية البريطانية وروسيا السوفيتيّة.
ومن الناحية الديموغرافية, تعدّ البلد 32 مليون نسمة, 99 بالمائة منهم مسلمون يتألفون من قبائل وجماعات قائمة على قرابة الدم في مجتمع ٍ متعدد اللغات والاعراق. والبلد على هذا النحو منقسم سياسيّا ً ويفتقر للتماسك الاجتماعي والسياسي.
ثانيا ً, بالنظر الى تاريخ واصرار حركة طالبان, فان أمر اخضاعهم كان دائما ً فشلا ً ذريعا ً. وبالرغم من أنّ الولايات المتحدة تدرك تماما ً بأن العديد من مقاتلي حركة طالبان يعملون من ملاجىء امنة داخل باكستان ومناطق أخرى من الصعب الوصول اليها, فان الولايات المتحدة ما زالت غير راغبة في مواجهة باكستان, الامر الذي لا يعطي أي حافز لحركة طالبان لكي تتفاوض بجديّة.
وما زال هذا الوضع قائما ً بدون تغيير, فان مفاوضات “المس واذهب” منذ ال 14 عاما ً الماضية لن تؤدي الى شيء. تماما مثل الفيتكونغ (الثوار الفيتناميين), تشعر حركة طالبان بشدة بأنها ستستنزف في نهاية المطاف أية حكومة في كابول, وستستمرّ في نضالها وتقدم كلّ التضحيات اللازمة حتّى تنهك قوى الولايات المتحدة وتسيطر في نهاية المطاف.
ثالثا ً, تمتد حدود أفغانستان مع باكستان – ما يُعرف “بخط دوراند” – عبر كامل الحدود الجنوبية والشرقية ما بين البلدين وهذه المنطقة الحدودية مرسومة بشكل ٍ سيّء وغير محميّة. انها تفصل قبائل البشتون المقيمة في المنطقة الواقعة ما بين أفغانستان وباكستان عن بعضها البعض وكانت دائما ً مصدرا ً للتوتّر المتصاعد ما بين البلدين, الامر الذي يفسّر مخاوف الباكستان الفريدة من نوعها وتصميمها على حماية مصالحها الوطنية ويكون لها كلمة حول النظام السياسي الحالي والمستقبلي لافغانستان.
هناك أدلّة ملموسة كشف عنها الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الرئيسية في أفغانستان, رحمة الله نبيل, مفادها بأن باكستان تدعم بالكامل حركة طالبان الافغانيّة للوصول الى هدف مزدوج: أولهما لابقاء نفوذها في أفغانستان, وثانيهما لمنع الهند من اقامة وجود ٍ لها في البلد (أفغانستان), وبالتالي احباط أي جهد قد تقوم به نيودلهي لتطويقها.
قال كريس أليكساندر, وزير كندا السابق للمواطنة والهجرة وسفير سابق لآفغانستان, يوما ً وبشكل ٍ قاطع:”يجب على كندا وحلفائها تشكيل جبهة موحّدة ضدّ باكستان لانها راعية للارهاب الذي يهدّد أمن العالم”. ومع هذا, كانت ادارة أوباما وما زالت غير راغبة في مواجهة الباكستان لان الولايات المتحدة تنظر للبلد على أنه حليف في الحرب على الارهاب ويعمل الجيش الباكستاني لضمان المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في جنوب ووسط اسيا.
رابعا ً, ان الوجود المتنامي لتنظيم الدولة الاسلاميّة (داعش) وعودة عناصر قوية للقاعدة يتراوح عددها ما بين 1.000 و 3.000 مقاتل قد أصبح واضحا ً وبشكل متزايد في المنطقة الجبليّة على طول الحدود الباكستانيّة. هجومهم في الآونة الاخيرة ضدّ الاقليّة “هزارا” قتل 80 شخصا ً بحجة أنّ بعض أعضاء هذه الجالية قدّموا بعض الدّعم لنظام الاسد في سوريا. وقد عبّر عن ذلك بشجاعة الناطق باسم الجيش الامريكي, العميد تشارلز كليفلاند, بقوله:” هذا هو قلقنا..انها هذه الهجمات العنيفة ! انها فعّالة لانه ليس من الصعب الوصول اليها”.
يمكن التوقّع بأن تصبح هجمات تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) أكثر تواترا ً في حدوثها, وبالاخصّ لان التنظيم في تراجع مستمرّ في العراق وسوريا, هذا في حين أنه يواصل زعزعته لاستقرار أفغانستان ويعقّد جهود الحرب, بصرف النظر عن مدى استمرار الدعم العسكري الامريكي.
خامسا ً, ان ادخال الديمقراطية لافغانستان في غير أوانها لا يتفق مع الثقافة القبليّة وسيطرة الاسلام المتشدّد على البلد. وبالرغم من أنّ الدستور الجديد يقرّ بالمساواة ما بين الجنسين وبالسياسات التشاركيّة وببعض الحقوق المدنية والسياسية, غير أنّ الدستور أيضا ً أضفى طابع المؤسسات على القومية القبليّة والتسلسل الهرمي العرقي.
بالنظر الى ما تقدّم, قد يتساءل المرء لماذا تشعر الولايات المتحدة – تحت ادارة الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما – بأنه بامكانها الذهاب لايّ بلد ٍ مسلم, مثل العراق, ليبيا, وأفغانستان ..وغيرها, تدمّرها وثمّ تفرض عليها قيم سياسيّة لا تريد قبولها ؟
ان الوضع الاجتماعي والسياسي لافغانستان يجعلها عرضة ً للحروب العرقية والاهلية وانهيار مؤسسات الدولة. بامكان الغرب في أحسن الاحوال تقديم فقط نموذجاً للديمقراطية وليس من شأنه التوغّل الى حدّ بعيد لترويج ثقافته السياسيّة التي تعتبر غريبة على مواطني البلد ..ويقوم بذلك في ظلّ شهر السلاح, لا أكثر ولا أقلّ.
يجب على متلازمة فيتنام أن تنتهي في أفغانستان. انها تذكرني بمقامر على جهاز قمار, وصاحبنا هذا يصبّ باستمرار القطع النقديّة في الجهاز علّه يحصل على أرقام الفوز بالجائزة الكبرى التي لا يحصل عليها أبدا ً , وأخيرا ً يترك جهاز القمار ساخطا ً ومفلسا ً. أجل, لا بوش ولا أوباما تعلّم الدروس المريرة من فيتنام, وكلاهما صبّ ويصبّ المال والموارد الوفيرة في مشروع فاشل …بدون نهاية تلوح في الافق.
فبعد أن قامت الولايات المتحدة رسميّا ً بانفاق ما يزيد عن 650 مليار دولار في حربها ضدّ حركة طالبان والقاعدة, هذا اضافة الى 150 مليار دولار ساهمت بها دول أخرى حليفة, تبقى أفغانستان فوضى عارمة. فالرشاوي والمحسوبيّة متفشية كالوباء, ومئات الملايين من الدولارات قد انتُزعت من المساعدات المخصصة للشعب والبلد لجيوب مسؤولين فاسدين بالكاد يستهجنها أحد.
وكما هي الامور في الوقت الحاضر, ليس لدى مجموعة الاربع دول (المكونة من أفغانستان, الصين, الباكستان والهند) أية خطط لاستئناف المفاوضات مع حركة طالبان التي رفضت المشاركة في أية مفاوضات منذ شهر يناير (كانون الثاني) من العام الجاري. فطالبان ترفض أساسا ً الاطار السياسي الذي ينبغي أن يحكم أفغانستان في المستقبل.
يجب على الادارة الامريكية القادمة أن تغيّر المسار وتضع استراتيجيّة خروج تحفظ لها بعض ماء الوجه. وترتكز أية اتفاقية من المفروض أن تقبل بها جميع الاطراف المتنازعة على ثلاثة ركائز أو أعمدة هي:
من المسلّم به أولا ً أن تكون حركة طالبان جزء لا يتجزأ من أية حكومة مستقبليّة ما دامت تلتزم بحقوق الانسان الاساسية, وبالاخصّ فيما يتعلّق بالمرأة, ومنع القاعدة ومجموعات متطرفة أخرى (شاملة داعش) من استخدام أفغانستان كمنصة انطلاق لهجمات ارهابية ضدّ الولايات المتحدة أو أي من حلفائها.
يجب أن يعتمد الجدل المعنوي ضد حركة طالبان على المبادىء والتعاليم الدينيّة التي يعتنقونها والتي قد تمكنهم من تغيير طرقهم بدون خسارة ماء الوجه. على سبيل المثال, ليس هناك في القران الكريم ما يسمح للتمييز ضد المرأة – لا بل العكس, نجد فيه دفاعا ً عن المساواة بين الجنسين بقوله تعالى:” فاستجاب لهم ربّهم أني لا أضيّع عمل عامل ٍ منكم من ذكر ٍ أم أنثى, بعضكم من بعض” (سورة ال عمران, اية 195). كما وليس هناك أية دلائل في القران الكريم لا تسمح للنساء بتلقي العلم.
وعلى الباكستان أيضا ً, للاسباب المذكورة أعلاه, أن تكون جزءا ً ورزمة من أيّ حلّ يحفظ مصالح أمنها القومي ويمنع الهند من التدخّل في الشؤون الافغانيّة. ويجب على اسلام أباد أيضا ً أن تتعهد بغربلة البلاد من المجموعات الاسلامية المتطرفة, وبالاخصّ القاعدة. ومن كلّ شيء نعلمه, تستطيع الباكستان وحركة طالبان أن تتفقا على مثل هذه الصيغة السياسيّة. وعلى الولايات المتحدة سحب قواتها من البلد خلال فترة بضعة سنوات تاركة ً وراءها حامية لحالات الطوارىء لا يتعدى أفرادها بضعة مئات من العسكر مع وجود أممي لمراقبة وضمان التقيّد بتنفيذ الاتفاقيّة.
بعد 15 عاما ً من القتال وانفاق مئات المليارات وقتل عشرات الآلاف على كلا الجانبين لا تعتبر أفغانستان اليوم أفضل مما كانت عليه بعد انهيار حكم حركة طالبان مباشرة. ولذا يجب على الادارة الامريكية القادمة أن تتعهّد بانهاء ورطة أفغانستان لانه ان لم يكن هناك اتفاقية يتمّ التفاوض حولها مع حركة طالبان لن يكون هناك نصر ضدّ حركة طالبان كما كان الحال في هزيمة أمريكا النكراء في فيتنام.