مدخل =========== لكي تقيم اداء اية مؤسسة لابد من توافر عاملين رئيسيين لايستقيم التقييم بدونهما , العامل الاول : ان تحاجج المؤسسة بما التزمت به من واجبات محددة واضحة , والثاني ان تتوافر للمؤسسة المستلزمات التي تنفذ بها واجبها سواء كانت مادية او تقنية او بشرية , ولكن العامل الاول هو الاهم والاخطر والاساس, لان من المنطقي ان مامن مؤسسة تلزم نفسها بواجبات لاتتوافر فيها مستلزمات النجاح . وفي مقالنا هذا سنتناول تقييم اداء المؤسسة الاستخبارية ============ معايير التقييم ============ يقييم الاداء والجهد الاستخباري وفق معايير متنوعة ومختلفة , ففي القرن العشرين كان تقييم نجاحات وادوار الاجهزة الاستخبارية يقاس على مدى نجاحها في استمرار الانظمة الحاكمة ,فمادام النظام والسلطة باقيان وحاكمان فان الاستخبارات ناجحة , وتحصل على درجه الفشل بزوال وسقوط الانظمة, فمثلا kGB جهاز الاستخبارات في الاتحاد السوفيتي كان يعتبر اكبر واضخم الاجهزه الاستخبارية عالميا لكنه اعتبر فاشلاً حين اخفق في ديمومة النظام السوفيتي , وكذا الامر مع جهاز السافاك في ايران وهو الاكبر في الشرق الاوسط حيث كان مرعباً , لكن بانهيار الحكم الملكي في ايران اعتبر جهازا فاشلاً لعدم تمكنه من حفظ النظام الحاكم , وهو معيار لازال سائداً الا انه لم يعد المعيار الوحيد بحكم اختلاف التحديات الامنية . ففي نهايات القرن العشرين وبداية 21 ادخلت مفاهيم جديدة بتغير النظام العالمي ولم يعد الامن السياسي الغاية الأوحد لجهد الاستخبارات , فاصبحت القومية والطائفية والعرقية والتجزئة والانفصال من اهم المخاطر الاجتماعية والامنية واصبحت هي التهديدات ولها مخالب واغلبها داخلية وضمن اقليم وشعوب الدول وإن كانت للكثير منها رعاية مخابراتية اجنبية, لذا استلزم ذلك اعاده تقييم المخاطر والتهديدات ومن ثم تغيرت معايير النجاح والفشل طبقاً لتغير بوصلة الجهد الاستخباري من التجسس على الدول المعادية والعدو الخارجي الى التهديدات الانفصالية ومفاهيم العولمة والحرية التي ظهرت بداياتها بحرب يوغسلافيا في اوربا وحرب افغانستان وحروب كثيره داخلية في اغلب دول افريقيا بين قوميتين او دينين او عشيرتين او مذهبين. ======================= صعوبة تقييم اداء الاستخبارات في العراق ======================= منذ ان تخلص العراق من النظام الصدامي برزت الطائفية والعرقية والقبائلية والمذهبية التي كانت متخفية بين المجتمع بسبب قهر وعنف النظام وانهارت المواطنة بشكل سريع. واربك العنصر الاستخباري الذي كان يكافح الاسلامي كمجرم وعميل واذا بالاخير يقود ويحكم البلد لذا انهارت المنظومة الاستخباريه شكلا وقالباً, كما ان النظام السياسي الجديد كان شديد الضبابية ولم يهتم بوضع ضوابط وقوانين واليات وتعاريف جديده للجهد الاستخباري , فانشأت الاجهزه الاستخبارية الجديدة مع غياب للتصور عن اتجاهات المخاطر. ولم يشمل الامر العراق فقط , فقد تفاعلت الاجهزة الاستخبارية مع المتغيرات الدولية وتغير الاعداء , فيقول احد جنرالات الجيش الامريكي : توجد غرفة محصنة في مقر وزارة الدفاع الامريكية مغلفة بالزجاح لمنع اية عملية تنصت ومحمية بأحدث اجهزة التشويش , ولعقود من الزمن كانت اهم اجتماعات القيادة العسكرية الامريكية تعقد فيها وغالبا مايكون الحديث ضد العدو الاول الاتحاد السوفيتي , ولكن لاول مره شهدنا دخول جنرالات روس الى هذه الغرفة والاجتماع بهم منتصف التسعينات!!!!!!. وهو امر لمسناه في العراق , فقد كنا نهدد بالشكوى من سوريا الى الامم المتحدة بتهمة دعم الارهاب وتدخلت تركيا للعب دور الوسيط بين الطرفين , بعد سنتين رأينا كيف تطالب تركيا باسقاط الحكومة السورية فيما عمل العراق ولازال على دعم النظام السوري. وكذا بالنسبة للقوى الداخلية , فقد كان الكرد والشيعة هم العدو الاول للاجهزة الاستخبارية حتى سقوط نظام صدام , وتغير الامر فاصبحت المنطقة الغربية هي الخاصرة الرخوة والحاضنة الخطرة التي على الاجهزة الاستخبارية العمل عليها . وزاد هذا الارباك بسبب استراتيجيات المحتل التي كانت تختلف تماما عن متطلبات الحكومة العراقية في رسم العلاقات الدولية وكذا هروب الكثير من الكوادر الاستخباريه المتخصصة خارج البلد بسبب ارتباطها بجرائم النظام , ودخول عدد كبير من الكوادر الجديدة الحزبية الى المنظومة الاستخبارية والى المستوى القيادي بلا تخصص وزاد الامر سوءاً بغياب الوعي في اهمية دور الاستخبارات لدى الحكومات المتلاحقة بالاضافة الى الاصطفاف الطائفي والمذهبي والفشل في بناء منظومة قضائية قوية ومستقلة. واربكت تهديدات الارهابيين لمركز الدولة بغداد (بدعم من دول الجوار)مما جعل الحكومة تنحو الى حالة الدفاع المستمر والاكثار من الجهد الامني على حساب الجهد الاستخباري , فاصبح تشكيل فرقة عسكرية مدججة بالسلاح اهم من بناء جهاز استخباري سري غير مرئي. لقد ساهمت هذه العوامل مع غيرها في فقدان البوصلة الاستخبارية وتشوه بناء المؤسسة المعلوماتية , فترهلت الاجهزه اداريا وكبرت وتعددت دون اهداف وبلا اداره علمية للمجتمع الاستخباري ولاتخصص وبلاتطوير القابليات والمهارات والمحاسبة والتدقيق والصرامة .وساهم الفساد السياسي والاداري والمالي في بيع وشراء المناصب والاهواء الشخصية وابعاد المنافسين حزبيا وجلب الفاشلين الى الاجهزة الاستخبارية . فنتج عن كل ذلك عدم تحديد الواجبات وولدت الاجهزة مشوهة بلا تعاريف او واجبات او تشريعات, فتراجع الاداء , وبالتالي اصبح من الصعب تقييم اداء تلك الاجهزة لعدم وضوح واجباتها ومسؤولياتها .
================
غياب التقييم والتقويم ================ ان من اهم واجبات القيادة وادارة المجتمع الاستخباري هو تقييم الاداء الاستخباري الذي ينتج من الجهد الاستخباري على ان يسبقه تحديد واجبات الجهاز الاستخباري واهدافه . فقبل التقييم لابد للمؤسسة الاستخبارية ان تكون لها اهداف واضحة وان ترسم الخطط اللازمة لتقنين وتركيز الجهد على الاهداف حسب الاولويات التي ترسمها القيادة , وتضع خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة ضمن برنامج ومراحل وتوقيتات وآليات وميزانيات محددة لتنتج ماهو مطلوب من معلومات. عندها فقط يمكن ممارسة عملية التقييم ومراقبة الجهد والاداء وتشخيص الخطوط البيانية للوصول للاهداف ومعالجة العقد والمعرقلات وتذليل المصاعب وتحسين الاداء بشكل علمي وعملي واختيار الطرق الافضل والاساليب الاحسن للوصول للاهداف. وللاسف فان اغلب الجهد الحالي لاجهزتنا الاستخبارية هو جهد انفعالي وآني وغير دقيق وعشوائي ودون تخطيط , مما يصعب معه تحديد المسؤولية والتقييم . وحتى داخل المؤسسة الاستخبارية وضمن حدود الجهاز الاستخباري , فإنه لا يوجد تقييم للاداء , فلاتوجد معيارية لمن ينتج معلومات ومن لا ينتج , ومن يمكن تطويره , واي مصدر من المصادر يتم نقله من مكان الى اخر, كما لاتوجد خارطة تحدد لنا في اي مكان نعاني من نقص في المعلومات , واي مكان لدينا فائض معلومات , ولايوجد تقييم لمدى نجاحات وفشل ضباط الارتباط كما لاتوجد تقييمات دقيقة لمصادر المعلومات من قبل ضباط التحليل . ================ معيار المخرجات الامنية ================ ان التقييم الفاعل للاجهزة الاستخبارية هو الطريق الامثل لتقويم تلك الاجهزة , وهو مانأمل ان يتم الالتفات اليه سريعاً من خلال تحديد المهام الدقيقة للاجهزة . وبالرغم من صعوبة تقييم الاداء الاستخباري لاجهزتنا في ظل الصعوبات التي اوردناها والتي تتلخص بغياب تحديد الاهداف والخطط , الا ان علينا ان لانقف عاجزين امام تلك العقبة الصعبة . ونعتقد ان المعيار الوحيد الممكن للتقييم حاليا هو من خلال المخرجات الامنية لأن الامن شي ملموس وواقعي وملحوظ عكس الاستخبارات التي لا تُلاحظ. ولتوضيح معيار المخرجات الامنية نقول : يقاس الامن على ثلاث مستويات هي الامن الوقائي والامن الاحترازي والامن المعلوماتي ولتبيان الفارق بين المستويات الثلاث نضرب مثلاً بسيطاً : الامن الوقائي يعني اننا ننصب سيطره ونفتش كل العجلات بحثاً عن ارهابيين محتملين.. وعندما نكون بمستوى الامن الاحترازي يعني ان لدينا مقدار من المعلومات عن ان الارهابيين يستقلون عربة مرسيدس , فيقتصر تفتيشنا على نوع معين من السيارات ,ونسمح بمرور العجلات الاخرى , وعند وصولنا الى مستوى الامن المعلوماتي فهذا يعني ان لدينا معلومات عن عجلة مارسيدس بيضاء بالرقم الفلاني فيها 4 ارهابيين يحملون اسلحة كذا ويصلون للمنطقة الفلانية قادمون من الاتجاه كذا بين الساعة كذا الى كذا .. هنا يتراجع الجهد الامني بشكل كبير وتتم تسهيل حركة المواطن بسلاسه ولم نرهق السيطره بتفتيش كل العجلات , وقد لا نحتاج الى سيطرة بعدها لاننا نستطيع بكمين واحد ان نمسك العجلة . فالامن الوقائي يكون فيه استخدام مفرط للقوة وللعسكرة بشكل اعمى من خلال السيطرات الثابتة في كل مكان والتفتيش والمداهمات في كل مكان وكل وقت , وهو انعكاس لنقص المعلومات التي تجعل القوات الامنية تفتش في كل اتجاه لانها لاتعرف اين ومتى تبحث , فاذا كنا نستخم هذا المستوى من الامن فهو يعني بالضرورة الى ان معلوماتنا الاستخبارية متدنية للغاية وان المؤسسة الاستخبارية فاشلة بهذا المعيار. اما مستوى الامن الاحترازي وهو المستوى الثاني من الامن , ففيه يكون هنالك تحديد جزئي للخطر من حيث المكان والزمان اي اننا نحدد اماكن خطره ونحترز منها , ونقوم بعمليات تفتيش ومراقبة ونقلص اعتمادنا على الجهد الامني الكبير, ونعتمد قوات نخبة تطارد الارهاب ونخفف من امننا الوقائي ونبحث عن الارهابي في محيط تواجده , مايعني هنا ان هنالك معلومات ما غير متكاملة ولكنها تحدد المكان والزمان للعدو ولو بشكل مشوش . اي اننا ننتقل من حماية ومراقبة كل مكان الى حماية اماكن محددة كالحدود الغربية وسوق السلاح والحواضن , ونغلق منطقة او مناطق محددة , بمعنى اننا نعرف مساحات عمل الارهاب او العدو , وهو مؤشر على ان هنالك جهد استخباري بشكل محدود وضعيف . اما المستوى الثالث اي الامن المعلوماتي , فهو امن لاتتم ممارسته بلا معلومات استخبارية , فإن رايناه مستخدم من خلال مؤشرات عدم وجود عسكرة للمجتمع مع نجاحات في احباط الاعمال الارهابية والاجرامية والتجسسية , فهذا يعني ان العمل يجري وفق معلومات استخبارية دقيقة اي ان العمل الاستخباري هنا ناجح . فوجود عشرة مصادر مهمين في داعش تابعون لنا تفيدنا اكثر من 100الف مقاتل في الجبهة وتقلل حاجتنا للحشود وتكون ضرباتنا موثرة وموجعة على العدو بالوقت والمكان المناسب من هنا نستطيع ان نستفيد من معيار المستوى الامني لتقييم الاداء الاستخباري , فاستتباب الامن المصاحب لتخفيف الاجراءات الامنية في الشارع , يعطي مؤشراً على ان هنالك جهد استخباري كبير ودقيق يشل مخططات الارهابيين ويحبطها . ان هذا المعيار البسيط يتيح للمواطن غير المتخصص ان يستنتج ان الوضع الاستخباري لدينا مزرٍ للغاية بدلالة اعتمادنا على الامن الوقائي العشوائي الاعمى , وهو امر واضح من خلال التخبط في الاعتقالات , وعسكرة الشارع , وزحام السيطرات , والعمليات الارهابية المستمرة داخل المدن برغم كل الاجراءات الامنية التي تعمل مغمضة العينين . ========== خلاصة ========== لاتقويم لاية مؤسسة بلا تقييم لعملها , ولاتقييم لاية مؤسسة مادامت عاجزة عن تحديد اهدافها , ومالم تكن لديها خطة واضحة , وقد اثبتنا بالمعايير ان الفشل حليف مؤسساتنا الاستخبارية لانها تعمل بعشوائية وبطريقة تجعلها بعيدة عن التقييم والتقويم والمحاسبة وهو امر في غاية الخطورة .
|