التطرف واقع وأسباب

 

التطرف والغلو موجودان على هذه الأرض ، منذ بدء الخليقة وتحديدا خلق الإنسان  ،  لأن الإنسان  هو المخلوق الوحيد الذي يدرك معنى الظلم  والتحولات والمستجدات  على الأرض ، رغم ان الحيوان هو الآخر ينفعل حين يحس بالظلم  ، فيرفس الحمار  ، ويثور الجمل وينتقم ممن يضربه ولو بعد أربعين عام ، ومع ذلك  أستطيع القول أن التطرف   منوط بالإنسان فقط ، وهو من  يدخل فيه  ويطوره كيف يشاء بحسب طريقة تفكيره .

وهناك نوع آخر  أشد تاثيرا من التطرف وهو الغلو في التصرفات  وردة الفعل  وحتى في العبادات ، لذلك نرى أن هناك بعض المتدينين  قد فهموا الدين بصورة مغلوطة  لجهلهم وعدم وجود من يفقههم في أصول دينهم ، وهذا ما أضفى على العبادات  لونا بعيدا عن الواقعية ، لأن ديننا الإسلامي الحنيف هو دين الوسطية .

هناك أيضا ظاهرة أخرى  من ضمن عائلة الشذود الفكري ،  بأشكاله الناجمة عن قصور التفكير والإدراك العقلي ، وهي ظاهرة التشدد ، وهي في معناها العام لا تختلف عن التطرف والعلو كثيرا  ، لكنها  تؤدي إلى أفعال غير  مقبولة  ، وتمحق كل ما هو إيجابي في المجتمع ، وما نراه من  تطرف  وغلو وتشدد ، إنما هو نتاج فكر غبي مستورد ، ولا أعني بالمستورد ما ياتينا من الخارج ، بل هو ذلك الفعل الناتج عن قصور تفكيرنا .

ومع كل ما تقدم هناك تطرف وتغول وتشدد ، جراء فعل خارجي ، وأعني هنا بالخارج  ما هو خارج إطار الإنسان ذاته ، بمعنى أن السبب في ذلك هو تأثيرات وممارسات   تنعكس سلبا على تفكير الفرد ، وتجبره على  سلوك درب غير قويم  دون النظر إلى عواقب الأمور ، ومن هنا تبدأ حلقات الخلل تتسع شيئا فشيئا في المجتمع ، ويحدث التصادم  بين الأطراف ذات الشأن  ، ويدفع المجتمع الثمن ، لأن  المتطرفين والمغالين والمتشددين هم من أبنائه ، ولم يهبطوا عليه  من دنيا أخرى.

كثيرة هي أسباب التطرف والغلو والتشدد ، وأهمها  الجوع والفقر والظلم والتهميش والإقصاء 

والتجهيل ، وقال الخليفة علي بن أبي طالب  كرم الله وجهه : لو كان الفقر رجلا لقتلته ! وقالوا أن الظلم مرتعه وخيم! وقال تعالى في محكم كتابه العزيز : وأطعمهم من جوع  وآمنهم من خوف ! ولا ننسى مقولة مبعوث فارس إلى الخليفة الفاروق عمر  رضي الله عنه ، عندما رآه  نائما في صحن الحرم: عدلت فأمنت فنمت!

الغريب في الأمر أن كل هذه  المظاهر الدخيلة علينا  موجودة في مجتمعاتنا الإسلامية  ، وأن هناك أيضا من  يضخ  روح التطرف فينا من خلال الإيعاز لصناع القرار أو من في حكمهم  بالتضييق على مجتمعاتهم  وحرمانهم من أبسط حقوقهم ، وإظهار أكبر قدر من الضغط  على  المجتمع ، وعدم إجراء أي إصلاحات تذكر  ، رغم أن الغرب المتخلف الجاهل في عصوره الوسطى ، قد نهض من تحت ركام التخلف والجهل  ، وإنطلق ناهضا  ، ووصل مرحلة  تتيح له تسجيل مواقف مشرفة من حيث معاملة  أهله  ، حتى أن العربي وغيره ممن  يهاجرون إلى الغرب يشعرون بالكرامة  هناك.

من يشعر بالتهميش والظلم والإقصاء والإبعاد ، يصل إلى نتيجة مفادها أنه مطعون في كرامته  ، ومن  يصل إلى هذا الشعور  ، يصاب بعمى في القلب والعقل معا ، وينحى  منحنى  مختلفا  لا أحد يضمن نتائجه ، وها نحن  ندخل مسرعين في هذا النفق .

يعد الإحتلال  وإنتهاك حقوق الإنسان عوامل  قوية  للتطرف والتشدد والغلو ، لأن في ذلك شعورا بالمهانة والعجز والتقصير  ، وخاصة إذا  كان الإحتلال الذي نتحدث عنه هو الإحتلال الإحلالي الإسرائيلي لفلسطين ، وشراكة واضحة مهينة من قبل الإقليم مع هذا الإحتلال  ، إلى درجة أن البعض ينسق معه أمنيا  ، ويمثل إحتلالا من نوع آخر لشعبه.

   وإستنادا إلى كل ما تقدم ، وإن كنا  نرغب حقا في تطهير مجتمعاتنا  من التطرف والغلو والتشدد ، فإننا مطالبون  بصياغة عقد إجتماعي جديد بين الدولة  والمجتمع ، لنصل معا إلى ضمان هيبة الدولة وحقوق المجتمع ، لأنه لا دولة بدون مجتمع ولا مجتمعا بدون دولة ، ولنا في  مقدمة إبن خلدون  ، وما ورد في كتاب الله وسنة نبيه  ووصايا الأنبياء الآخرين خير دليل  ، لخلق مجتمع مدني وليس مجتمعا  دينيا ، فالرسول  صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة دينية في المدينة المنورة   ، بل أرسى أسس دولة مدنية  تحفظ حقوق  حتى غير المسلمين.

التطرف والغلو والتشدد آفة  كريهة ، وهي بذرة غير صالحة ، ولا تنتج إلا الخراب والدمار ، وأعني بذلك أن تشدد الدول في مواقفها  وغلوها وتطرفها في معاملة  أفراد المجتمع الذين ليسوا على هواها ، إنما يساوي تطرف وغلو وتشدد البعض الجاهل أو صاحب طريقة التفكير الملتوية وكلا الطرفين مدان ، ولو أن النظام السوري إستجاب لرغبات شعبه منذ أحداث مدرسة درعا ، لما وصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم.

هناك تطرف وغلو وتشدد  أخطر مما تحدثنا عنه ، وهو ما يمارسة  أصحاب النفوذ الذين يشعرون بالظلم   في مستواهم ، والأثرياء الذين  يمولون  التطرف  لأسباب عديدة ، وهذه الفئة غالبا ما تكون غير مرئية لكن تاثيرها قوي .

الفقراء والشباب هم الفئات الكثر  إنغماسا في التطرف والغلو والتشدد  ، مسلحين بحرمانهم  وما  يعانون في مجتمعهم من ظلم وتهميش  وإقصاء وحرمان بسبب سياسات الدولة ، التي يفترض فيها  أن تعامل كافة أفراد المجتمع معاملة  تليق بالمواطن ، لا أن تنظر إليهم كرعايا مهمتهم التسحيج والتسحيج فقط ، وأخطر ما في الموضوع أن  شيوخ التطرف والغلو والتشدد ، يخترقون عقول أبنائنا من الشباب بسؤالهم :هل تقبلون  العيش بذل ؟ وهل تقبلون  ضياع الأقصى ؟ ويؤكدون لهم  أن تحركهم الرافض للواقع  سينعكس عليهم إيجابا في الآخرة  ، لأن  سبعين حورية  تنتظر الشهيد في الجنة.

هنا يفعل إبليس فعلته ، إذ أن الشاب العربي  المكبوت جنسيا  لعجزه عن الزواج ، بسب قلة ذات اليد وإرتفاع المهور وتكاليف الزواج ، يعيش اللحظة المتخيلة  ويحث الخطى العقلية   لولوج باب الجنة  والتمتع  بالحوريات السبعين ،   بعد أن يبحث عن الموضوع في الإنترنت ويتأكد من ذلك.

ما أود الوصول إليه أننا في حال أردنا  وأعني بذلك الدول ، فإننا  نستطيع كبح جماح التطرف والغلو والتشدد ، من خلال  الحكم بما أمر الله ، وتحقيق المواطنة الحقة ، ومنح مجتمعاتنا  صفة الإنسانية   وخلع عنها  صفات العبيد ، عندها لن تجد دولة منهكة مهددة ، ولا مجتمعا آيلا للإنهيار.