أبن خلدون في مقدمته ( إذا فَسَدَ المعّلم والقاضي في أمة ٍ ما ، فأعلم إنها أمة زائلة )
في الكثير من دول العالم هنالك اهتمام خاص بالمنتمين لشريحتين متخصصتين أساسيتين من شرائح المجتمع ، المنتمي الأول هو الذي يكون ضمن سلك التربية والتعليم سواءا ً كان معلما ً ، مدرسا ً أو حتى استاذا ً جامعيا ً ليكون منهم مرّبيا ً للأجيال والذي كاد أن يكون رسولا ً بعد الوقوف له بالتبجيل والاحترام ... أما المنتمي الآخر للشريحة الأخرى والذي تَعَلَمَ الأساس في المراحل الدراسية تحت إشراف المعلم مرورا ً بالمدرس وصولا ً للأستاذ الجامعي ، نعم إنه ( القاضي ) بدرجاته والمفروض أن ينطق بالحُكم دائما ً بين الناس وبالعدل وفق المبادئ التي تعَلَمَها أثناء دراسته في كلية الحقوق ومعهد القضاة أيضا ً ... هاتين الشخصيتين لهما مكانة مرموقة بين المجتمعات ، لا سيما في الدول الديمقراطية وتحديدا ً الأوربية ، تقديرا ً لسلكي التعليم والقضاء خوفا ً من الانزواء والاغراء ، ليسلك طريقا ً آخر ، يخالف الرسالة التي يحملها وهي الأمانة في التعليم والعدالة في القضاء ، حيث خلاف الأمانة والعدالة قلَّما تحصل في مثل هذه الدول الديمقراطية والتي تراعي حقوق الانسان وفق الإعلان العالمي لهذه لحقوق ...
لكن ! في البلدان النامية ومنها الشرق أوسطية ، لا سيما الدكتاتورية فحدّث ولا حرج ، حيث في الكثير منها تَحكُمها ( قوانين القوة ) لا ( قوة القوانين ) والأخيرة تمنع التجاوزات في كُل الأحوال ، هذا ناهيك عن دخول البعض من هذه البلدان في أتون حروب متعددة ، حيث تم فيها خَلط كُل الأوراق ، لتَحل الفوضى بدلا ً عن النظام والتنظيم ، لتفقد الدولة مؤسساتها ، كي تسيطر فئة أو فئات متمثلة بأحزاب أو كُتل سياسية تهتم بمصالحها أكثر الأحيان وتفضلها على مصلحة الوطن ، بالتأكيد مثل هذه البلدان ستكون مصيرها نحو الهاوية ... حصل هذا والأكثر منه في العراق على سبيل المثال تحت سيطرة أو حُكم الحكومات المتعاقبة والتي حَكَمَت بالحديد والنار على مر ّ التاريخ العراقي ، الأنكى من ذلك وبعد سقوط بغداد واحتلال العراق من قبل الأمريكان عام 2003 ، برزت في الميدان السياسي العديد من الاحزاب التي تأسست على أسس دينية أو مذهبية أو حتى قومية وذات ايديولوجيات خاصة ، والأجندات الخارجية تتحكم بهم وفق المصالح الدولية وحتى الإقليمية ... هؤلاء وبعد الدخول في العملية السياسية فرضوا نظام المحاصصة المقيتة ، لتفقد الدولة نظامها المؤسساتي ، يكون العودة إليه ( نظام المؤسسات ) صعبا ً للغاية أستغرق وقد يستغرق وقتا ً طويلا ً ... هذا النظام وأقصد المحاصصة الحزبية أو الكُتلوية أثرت وتؤثر وستؤثر بشكل أو بآخر على العراق ككيان دولة بالمعنى الصحيح لنظام الدُول وحتى الحكومات . للأسف طبعا ً أهم سلكين ( التعليم والقضاء ) كان المفروض أن يكونا بعيدا ً عن المحاصصة والحزبايه تي ، واللذان للأسف كانتا خاضعتين بعد انتهاء حُكم بريمر ولحد الآن تحت تأثير وتدخل الكُتل السياسية ...
بعد مرور ما يقارب عقد ونيف من الزمن على الحُكم المحاصصاتي في العراق ، شملت المحاصصة ( وفق مبدأ التوافق المُصطنع ) كافة مرافق الدولة والحكومات وبشكل تدريجي ومن أعلى المستويات ، بدءا ً من الرئاسات الثلاث ، مرورا ً بالوزارات ، وصولا ً إلى المديريات والدوائر والهيئات غير مرتبطة بالوزارات ، هنا نقصد شخص رؤساء الدوائر وصولا ً إلى الوزراء ، هؤلاء بالتأكيد عملوا ويعملون من أجل المصالح الحزبية والكتلوية ، لا بل في بعض الأحيان يتم حسم الوزارات وخلال فترة معالي الوزير وعلى الأكثر أربع سنوات بأن الوزارة أصبحت تابعة أو مملوكة لهذا الحزب أو تلك الكتلة ... شملت المحاصصة أيضا ً فرص تبديل رؤساء الجامعات وعمداء الكُليات والمعاهد في عموم العراق ، ليكون لِكُل حزب مرشحين لمثل هذه المناصب حتى لو لم يكونوا بالكفاءة العلمية وبالتوافق كما قلنا في كافة المحافظات ، كُل حزب ٍ حسب نفوذه في هذه المحافظة أو تلك ، هذا ما تم ويتم تدمير المؤسسات العلمية في البلد بالتدخل السياسي ، هذا ناهيك وفي الكثير من المناطق وصلت المحاصصة إلى مستوى مدراء المدارس الابتدائية وفق نفوذ الجهة المسيطرة أو القوية والتي تفرض مرشحيها ...
لكن ! حسب رأي المتواضع والذي لا يقبل الشك ، بأن هنالك إجماع شعبي على عدم تدخل الكُتل والاحزاب السياسية في سلك القضاء ، رغم ذلك وربما تحديا ً لكل الموانع ، دَخَلَت الأيادي الخفية في التأثير على القضاء العراقي والمفروض أن يبقى مستقلا ً وبعيدا ً عن كُل التدخلات ، مما كان لها تأثير واضح على دور القضاء واتخاذ الكثير من القرارات من قبلهم تفوح منها رائحة التوجيه غير المتوقع ، ليتم أحيانا ً كثيرا ً تغير مسار القضاء نحو الانزواء والرضوخ للأوامر وفق إملاءات رؤساء الكُتل السياسية ... هذا يجب أن لا ننسى انضواء البعض الكثير من القضاة أصلا ً ومن ذوي المستويات والمقامات العالية تحت لواء الأحزاب والكُتل السياسية ، منها قُضاة كانوا لهم دور ٌ ريادي في المحاكم العراقية منها المحكمة الجنائية الخاصة بمحاكمة أزلام النظام السابق ، سواءا ً كانوا بوظيفة المُدعي العام أو حتى قضاة التحقيق والمُحاكمة ، لا تزال البعض منهم أعضاء في مجلس النواب العراقي ولدورات متتالية وربما في وظائف تنفيذية أخرى تم ترشيحهم من قبل الأحزاب ، هؤلاء معروفين على مستوى القضاء العراقي ولهم بصمات واضحة قبل الولوج في معركة السياسة في العراق ، هؤلاء أيضا ً يدافعون الآن دفاعا ً مستميتا ً عن سياسة هذا الحزب أو ذاك وهذه الكُتلة أو تلك ، رغم ما تتخلله السياسة في العراق من مغالطات وأخطاء في حق الوطن المغلوب على أمره وذات مصالح حزبية أو كتلوية ، هذا ما يؤسف عليه كُل العراقيين الوطنيين المهمومين على الوطن من الضياع ...
h.nermo@gmail.com