مباحث في الاستخبارات (19) الخدمة السرية



مدخل 
===========
منذ ان عرف الانسان التجسس والاستخبارت وهو يفهمها بشكلها السري اي ارسال شخص الى جانب العدو ليأتي بالاخبار والمعلومات ,ولا تزال الاستخبارات في اساسها الحقيقي مبنية ومرتكزة على المصادر السرية برغم الآفاق التي فتحتها التكنلوجيا في مجال استحصال المعلومات العلنية والسرية بفضل اجهزة التنصت والاقمار التجسسية وسواها .
كانت الاستخبارات في الازمان القديمة تتم عبر الرحالة والتجار بالتعرف على جغرافيا الارض ووضع الناس ودولة العدو , ومع بداية القرن العشرين وتوافر الصحافة والتلغراف والاتصالات اصبحت بعض المعلومات يتم تداولها في العلن , ولكن في الحرب العالمية الاولى كان الاعتماد الاكبر باقيا على المصادر السرية بشكل كبير.
ومع الحرب العالمية الثانية توفرت بعض الامكانيات في استراق السمع لاجهزة اتصال العدو , وكان الحصول على دفتر الشيفرة الخاص بالاتصالات في مواضع العدو يعد انجازا كبيراً لمحللي الشيفرة ومن ثم جاء دور البريد ليكون وسيلة لإيصال المعلومات وهدفاً لعيون الاستخبارات بمراقبة المراسلات ومتابعة المشكوك منها.
فكلما تقدمت التكنلوجيا زادت الامكانيات في تسهيل عمل الاستخبارات فنياً وعلنياً ,وتقدمت معها النسبة المئوية لمستويات الرصد العلني والمراقبة الفنية حتى وصلت الى مابين 75% الى 85% فَوفّرا الكثير من الجهد والمخاطر واصبحا مغذٍّيان يوميٍّان على مدار الساعة ورافدان اساسيان للعمل الاستخباري.
وبالرغم من تعدد مصادر شبكتي الجمع العلني والفني. من كتب وصحف وانترنيت وقنوات واذاعات واستبيانات ودراسات وابحاث وحوارات ورادارات وكاميرات والتنصت و التشويش و الاقمار الصناعية ولكن بقى العنصر البشري هو الاهم والابرز بين مصادر المعلومات.
وصارعدم وجود مصادر بشرية مزروعة في جانب العدو من قبل الجهاز الاستخباري يعني ان ذلك الجهاز اعمى ومشلول وغير قادر على استكمال معلوماته.
============
ال5% الأخطر
============
لقد اعتمدت الاستخبارات الحديثة على ستة انواع من الاذرع لجمع المعلومات هي كما قلنا في مقال سابق:
1- المصادر السرية .
2- المصادر العلنية ( الرصد).
3- المصادر الفنية ( المراقبة).
4- المخبرون ( شبكة التواصل مع الناس ) .
5-التبادل او التعاون مع اجهزة الدول الصديقة.
6-التغذية العكسية او المستحصل من التحقيق مع المعتقل.
وتختلف نسب استحصال المعلومات من الشبكات اعلاه حسب الدول ولكن الاعم الاغلب يعطي مايلي: 
( السرية 5% .. العلنية 50% ..الفنية 20% ..التواصل 10% .. التبادل 5% .. التغذية العكسية 10% ).
وتختلف هذه النسب حسب امكانيات الاجهزة الاستخبارية والحكومة وتعاون المواطن والثقة بالنظام السياسي واستقرار البلد وقدرات العدو والمساحة الجماهيرية التي ينتشر فيها العدو وتأثيرات المعتقد والحواضن والثقافة العامة.
فاذا كان للجهاز قدرات جيدة في مجال الرصد يمكن ان يحقق نسبة اعلى في مجال المصادر العلنية , واذا كانت البيئة متعاونه وكان المواطن يثق بالنظام السياسي ويشعر بالمسؤولية فيمكن تحقيق نسبة اعلى في مجال التواصل, واذا وفرت الحكومة الامكانيات الفنيه الحديثة يصبح انتاج المراقبة الفنية اعلى , واذا كانت الحكومة متعاونة مع دول الجوار ولديها علاقات ومصالح مشتركة , فان تبادل المعلومات يصبح اكبر, واذا كانت اجهزة المكافحة قوية ذات محققين اكفاء فيمكن ان تكون نسبة التغذية العكسية اكبر وكلما زاد نجاحنا في الامساك بعناصر العدوا فستتوافر من اعترافاتهم ثروة معلوماتية كبيرة.
وبرغم كل ذلك تبقى المصادر السرية هي محك الجهاز الاستخباري ومركز ثقله ومعيار قدراته الحقيقية والجهاز البارع والمحترف هو الجهاز صاحب المصادر السريه الاكثر والافضل
قد يتعذر على الاستخبارات الارتقاء بالمصادر الخمسة الاخرى بسبب عوامل خارجة عن ارادتها, لكن لاعذر مع المصادر السرية لانها هي الاستخبارات الحقيقية وأصل عملها.
صحيح ان النسبة التي توضع للمعلومات السرية هي بحدود 5% لكنها المعلومات الحيوية وروح المعلومات , فقد نرى صورة البغدادي وسيرته وخطبه واقواله ويمكن ان نتعرف على تاريخه السابق لكنه لا يستخدم التنكلوجيا ليتم رصده وكذلك باقي قادة داعش لذا لابد من مصدر قريب لنعرف عنهم اكثر .
فعندما تعجز الاستخبارات من زرع مصدر قريب من قادة داعش تذهب الى شبكة التواصل وتضع صورهم وجوائز لمن يدلي عنهم بمعلومات في الاعلام وهذا يؤشر انها عجزت عن تجنيد مصدر قريب من ذالك المجرم وهو ليس عيباً ولكنه في ذات الوقت لا يخلي مسؤولية الاستخبارات من تقصيرها في الخرق والنفوذ الى الغرف المغلقة (ونشير هنا الى ان بن لادن والزرقاوي وابوعمر البغدادي قتلوا من خلال شبكة المراقبة الفنية واختراق ارقام هواتف وهذا يبين ان اكبر اجهزةاستخبارات العالم قدعجزت عن تجنيد مصدر لدى زعامه القاعده وداعش).
ومن المقبول منطقيا ان لا تستطيع الدول الكبرى خرق وزرع شخص قريب من بن لادن وذهابها الى خيار المراقبة الفنية ورصد الاتصالات و لكن ليس منطقيا ان تكون الباكستان واجهزتها بلا مصدر مقرب من بن لادن انذاك, وبنفس الحال في داعش وداعش في العراق فليس مقبولا ان لاتكون لاجهزتنا الاستخبارية خروقات واضحة وجهد سري على المستوى الرأسي والقيادي في داعش مع كل مئات الملايين التي صرفت على المصالحة والعشائر والصحوات والمحاصصة.ان وجود التنظيم على ارض العراق واعتباره العراق ارضا له وعاصمة له في الموصل يتطلب بذل اقصى الجهود لتنفيذ خطة خرق كبير في التنظيم وعلى كل مستوياته وبخلاف ذلك نبقى نقاتل داعش بالسيطرات وبعسكرة المجتمع.
فبرغم انشغال داعش بمسك الارض والحرب والجبهة لكنها تستمر في ضرب اماكن بعيدة عن تواجدها مثل السماوه والبصرة بمعنى ان جهدها السري مستمر وحتى تفجيراتها المستمره في بغداد , فمابالك اذا خسرت الارض وتفرغت للعمل السري .
ان اكبر اجهزه فك الشيفره تعجز عن حل وتفسير مكالمة بين صديقين لديهم لغة مشتركة فيما بينهما ولكن بالاستمرار في الاستماع لمكالماتهم يمكن الوصول الى نتائج.
ففي جبهات القتال يتم تعاون وثيق بين ضابط الرصد ومجموعة التنصت , فعندما تسمع مجموعة التنصت رقما مثلا 170 في نداء العدو حينها يراقب الراصد المتغيرات فعندما يشاهد وصول عجلة تنقل الماء يكون الاستنتاج بأن 170 تعني الماء وهكذا بعد ايام من المراقبة والتنصت يتم فهم الشيفرة والرموز والارقام التي يستخدمها العدو .
ولذا تسعى اجهزة الامن العسكري الى تغيير الشفيرة كل فترة زمنية وبذالك تعود الاجهزة الاستخبارية الى حالة التنصت والرصد لبذل جهد مكرر اخر لكشف الشفرة , ولكن كل هذا الجهد يصبح غير ضروري اذا كان لدينا مصدر يستنسخ الشفيرة ويرسلها , وهذه هي اهمية المصدر السري في عمل الاستخبارات.
=============
فرصة ذهبية ضائعة
=============
لقد كانت لدينا فرصة ذهبية سهلة لتجنيد العملاء فرطت بها اجهزتنا الاستخبارية من خلال الاف المعتقلين والمقبوض عليهم في السجون والذين تُركوا فريسة مؤسسة فاسدة استخدمتهم للبيع والشراء والتلاعب بالملفات والاعترافات ولو كانت لدينا اجهزة محترفة لاستطاعت تجنيد الكثير منهم.
فلابد من اعاده التقييم واصلاح المؤسسة الاستخبارية التي تتحمل مسؤولية الكثير من دماء الابرياء بسبب ضياع الجهد الاستخباري وتجنيد المصادر ومعرفة خطوات العدو ومقراته واوكاره وحواضنه وقياداته وتمويله وتنفيذه.
===========
اسئلة حائرة
===========
كان الواجب اننا وبعد مضي سنين ان نخرق التنظيم ونعرف اسراره وتمويله وداعميه ومن يناصره في الخفاء ومن يتخابر معه من رجالات السياسة ومن يقدم له الخدمة واي ضابط يزودهم بالمعلومات وكيف يصل لهم الامداد واين زعيمهم ومتى يهاجمون وماهي خططهم وكيف سيردون وكيف تصل لهم الرواتب ومن اين وكيف يسافرون الى تركيا ومن اين يوفرون المشتقات النفطية وماهو حجم تهريب النفط واية شركة تتعامل معهم ومن يتبرع لهم بالاموال واين شبكاتهم السرية وكيف يزودون الخلاليا بالمال ومن هم ابرز جواسيسهم عندنا و ماهي نسبة الاجانب والعرب في قيادات التنظيم وماهو دور عناصر البعث ومستوى التنسيق بين داعش والبعث و نسبة الضباط و كيف يدير البغدادي هذا التنظيم , وماهي منظومة القيادة و منظومة الاتصالات و المنظومة اللوجستية و منظومة الاستخبارات لديهم و كيف يتخذ القرار و كيف يتم التنسيق و الدول الداعمة و الصناعة العسكرية و منظومة الاداره و اداره الشبكات السرية و مصادر التنظيم التي تزوده بالمعلومات ومعلومات عن الخليفة و من يلتقيه و كيف يتم ايصال الاوامر و القدره القتالية و مستويات القيادة وولاة المناطق و الطبابة و خسائر التنظيم و بماذا وكيف يفكر و ماهي استراتيجية التنظيم وكيف سيدافع عن الموصل وماهي نقاط الضعف والقوة و كم هو عدد الاجانب واسمائهم وجنسياتهم و من هم اخطر وابرز قادة داعش وصورهم ,,و مئات من الاسئلة التي لا يمكن ان تعرفها الا من خلال عناصر تعمل مع التنظيم وبمستوى القيادة وهذا هو الجهد السري الحقيقي 
ولو كانت لدينا اجوبة ومعلومات لدعمنا العالم مرغما ومحرجا لاننا نعطي دول العالم حينها اسماء حملة جنسياتهم وادوارهم في قتل الشعب العراقي .
لقد اثبت العراق (بعد انهيار المؤسسة الامنية)انه قادر على البناء والمطاولة وادامة زخم المعركة واثبت العراقي شجاعة في الجبهات من خلال الحشد الجماهيري المتمثل بالحشد الشعبي وايضا باقي القوات المسلحه ولكن عجز الاستخبارات بات اكثر وضوحا من ذي قبل وبات التفوق والخرق الاستخباري الداعشي لاجهزتنا هو التفسير المنطقي لضرباتهم الارهابية.
===========
انتاج الاهداف
===========
ان من اهم الاعمال التي تقدمها المصادر السرية وتكون فاعلة ومهمة هي انتاج الاهداف الموثرة والموجعة والدقيقة , فعلى الاستخبارات دوما ان تثبِّت 100 هدف حيوي ومهم عن العدو وتزود القوات المسلحة والقوة الجوية والمدفعية بهذه الاهداف , وصحيح اننا نمتلك طائرات وتقصف باستمرار لكن هدف واحد حيوي يوميا يضرب افضل من عشرات الاهداف غير المهمة التي تجهد القوات المسلحة وتبعثر الجهد وتفرط بالقدرة النارية لدينا, وتحديد الاهداف لا يكون الا من خلال المصادر العاملة في جانب العدو فلو ضربنا يوميا هدفا لكانت معنويات داعش منهارة.
فليست الجدوى في كثره الغارات بل في دقتها فهي اذا كانت دقيقة تدمر العدو وايضا تقضي على معنوياته , فلو تعاملنا مع هدف محدد استخبارياً بمعدل هدف كل يوم لدمرنا 720 هدف خلال عامين من احتلال داعش للموصل ولتم تمزيقهم.
اما في حالات السلم فتكون احدى مهام الاستخبارات ان تمتلك من 500 الى 1000 هدف حيوي ومهم عن العدو المحتمل والدولة الجارة وتكون الاهداف جاهزه في ملف يستخدم عند اعلان الحرب.
ان المعلومات الاستخبارية السرية الدقيقة تشكل عامل مباغتة للعدو وتجعله خائف ومحتار ويصيبه الشك حول عناصره وتنهار معنوياته ويشعر انه مراقب.
فقد نحصل على عشرات او مئات المعلومات لكن معلومة واحده دقيقه قد تقضي على زعيم التنظيم وهذه المعلومة تكون ممكنه فقط من خلال المصادر.
===========
ازرع تحصد
===========
ان الاستخبارات الناجحة تضع افضل الضباط خبرة وشجاعة وتدبيراً وكتمانا وذكاءاً في مجال الخدمة السرية , وتهتم الاجهزة المحترفة بمركز الخدمة السرية بشكل خاص وتوفر له كل الدعم المالي واللوجستي والمعنوي وتخطط الاجهزه بشكل دقيق وعلمي لتنفيذ مشاريع الخدمة السرية وتتجنب الخطأ مهما صغر.
وتخطط لتجنيد المصادر في مكامن الخطر والتنظيمات الارهابية قبل حين من استفحالها وتوسعها وتصبر مطولاً حتى تحصل على انتاج من المصادر
وتقوم الخدمه السرية على مبدأ: اختر ارضاً صالحة ومن ثم احرثها جيدا وانثرها بشكل مناسب واروها حسب الحاجة وراقب الزرع جيدا وهو ينمو وانتظر حتى يحين وقت وموسم الحصاد
فلا يمكن انتاج خدمة سرية في ليله او يوم ويجب ان تكون بخطة وزرع في الاماكن المناسبة حتى ياتي الحصاد في الوقت المناسب
اي ان هذا العمل لا يكون وليد اللحظة وعند الحاجة, بل يحتاج لبرمجة وتخطيط وتحسس المخاطر واختيار العناصر المناسبة.
=========
خلاصة
=========
ان الخدمة السرية هو عمل تضحوي يقدمه اشخاص في السر بعيدا عن المظاهر والامتيازات لحفظ امن المجتمع والقضاء على اعداء الانسانية.
اننا ندفع ارقام خيالية لرواتب القوات الامنية لحماية الشارع والمدرسة والمسجد والدوائر والمناطق ولكننا نستثقل راتبا لمصدر يرشدنا للعجلات المفخخة قبل تفجيرها ويخبرنا عن مكان الانتحاري قبل يوم من تفجير نفسه !!!!.
فماهي الفائدة من وجود مؤسسات استخبارية متعدده ولمده13 عام عاجزة عن تفعيل الجهد السري وتجنيد المصادر وتقتصر معلوماتها على تكهنات ومعلومات عامة واستنتاجات لاتغني ولاتحمي , فلابد من ان تكون لدينا وقفة حقيقية لنخر الاعداء من داخلهم , والله الموفق.