عامر موسى الشيخ في الخامسِ والعشرين (١) |
عامر موسى شاعر وأعلامي وروائي شاب في غاية الذكاء والفطنة التي جعلت بمستطاعه أن يكون مراسلاً صحفيا في فضائية الحرية وفضائية العراقية فكان لبقاً وحاذقا غير منزلقٍ في أية شاردة أو واردة . عامر من الجيل الألفيني ، بدأ محاولاته الشعرية منذ عام 2000 وهو اليوم شاعرُّ متميزُّ بشهادة الناقد جابر حسين ، ثم كتب سلسلة مقالات إجتماعية عن الهامش الثقافي أثمرت عن كتابه الموسوم ( مشكينو سماوي) ، ثم روايته موضوعة دراستنا هذه ( الخامس والعشرون ) . عامر يكتب الوجع العراقي بلارتوش وبلاتورية . ينطلق في روايته هذه من أنّ الإبداع الإنساني الذي يأتي من المخيال الخلاّق هو السائد في أغلب الأحيان وأما الطبيعةِ بدون ذلك الإبداع فهي صماء لانفقه منها شيئا . عامر موسى في هذه الرواية المثيرة يعطينا سمفونية حزينة للغاية عن أغاني الخلق المتنوعة ، الأغاني التي تختلف في تلحينها ومعانيها وأهدافها، وكل أغنية تتحدث عن ألم يخص إنساناً قد أدى دوره في هذا الكون الشاسع بأكمل وجه ثم تعرض لأبشع أنواع القهر والتعذيب والتشريد على أيدي بني جلدته من الجلاوزة والمجرمين فجاءت الأغاني التي لحن نغماتها عامر بهذه الدراما المذهلة مع ما ألمّ بشخوص الرواية اليساريين الذين تحولوا الى أبطال في تضحياتهم وقصصهم الغريبة العجيبة كما سنبين لاحقا . الروائي عامر في روايته ( الخامس والعشرون) مدار دراستنا هذه إشتغل على موضوعة أساسية في غاية الأهمية ومن دون دراية منه أو دراية ، على ذلك التفحص الذي كان يشتغل عليه الروائي الشهير نجيب محفوظ في أغلب رواياته ، ومنها يوم موت الزعيم ، حيث إشتغل بشكل عظيم على ذلك التفحص الخلاق بين السلطة والتاريخ والإنسان الفرد ، الإنسان المعذب على الدوام ، وفي الإنطولوجيا الدينية يقول عنه ( الإنسان المبتلى) . ولذلك نرى الذات الإنسانية لايمكن لها القرار والطمأنينة حتى تنال حقوقها ، وبالنتيجة هو صراع من أجل البقاء شئنا أم أبينا ، صراع كان إخوياً في بدء الخليقة ، فلقبوا يالأخوة الأعداء ، ثم تطور الصراع مع إزدياد عدد البشر وتطور آلته فتحول الى صراع قبلي ثم تحول اليوم الى صراع دول وأمم وأديان وهكذا دواليك ، فنشأ نتيجة هذا الصراع الكثير من الآلآم التي وصلت الينا عن طريق ماكتبه المبدعون على مختلف العصور كما قرأناها في الألياذة والأوديسة لهوميروس . لكن أروع مانقرؤه هو ماينقل لنا عن تراجيديا فردية ، دراما بطلها أشخاص معينون ، والاّ ستكون واهية ضعيفة خالية من التشويق . كما وإن آلام الإنسان يشترك بها العديد من الناس ، لكن الذي يصل الينا هو أسماء محدودة فقط ، يعني الذي يموت في الحروب آلاف بل الملايين ، لكننا نسمع عن أبطالها فقط ، وبقية الخلق تنتهي وكأنها مثلما القول الدارج ( بولُّ في نهر) ، هذه هي الحياة بكل تجلياتها وماعلينا سوى الرضوخ اليها بماهي . ولذلك راح عامر ينقل لنا هذه الدراما الحزينة بشكلها الذي نقرؤه إعتمادا على ماذكرناه أعلاه ، هناك العديد من الثوريين الذين ضحوا بالغالي والنفيس لكننا نقرأ في رواية ( الخامس والعشرون) عن ابطال معينين ومن خلالهم نستطيع أن نعرف تأريخ تلك الحقبة الزمنية التي عاشوها وضحوا بأنفسهم في سبيل تحقيق العدالة التي نشدوها أنذاك ، فنقرأ هنا في هذه الرواية عن أبطال شيوعيين سجلوا انفسهم في صفحات التأريخ ( كاظم ، وصفي ، علي) وماكان من عامر سوى أن يكون هوميروس زمانه ، وماجد هو الآخر راوي زمانه . الروائي عامر موسى إستطاع أن يرسم النسبية في أخلاقيات البشر ، ولايميل الى فلسفة المطلق كما لدى المثاليين والأصولية الدينية التي تمتلك مفاتيح اليقين ، والتي هي سبب معاناة البشر في تعامله اليومي على الساحة الإجتماعية و السياسية على حد سواء ، عامر يكتب عن الموت والميلاد بأعتبارهما وجهين لحياة واحدة ، فهناك موت في الأقبية والسجون وهناك أعراس لأناسٍ لها إرتباط وثيق لمن هم في السجون والمعتقلات ، يعني بعد كل موت هناك ميلاد ، فلايمكن للطاغية أن يمسك بزمام كل مايريده من مطلقياته لأن الحياة شئنا أم أبينا هي مبنية على النسبية لا المطلقية التي تؤدي الى التناحر المستمر ، بأعتبار إن كل الأطراف المتناحرة تمسك بعصا المطلق فكيف لنا التوافق حينها ، وهذا مايحصل في شعوب الصومال وتناحرها العشائري المستمر حتى اليوم دون إيجاد حل يرضي الأطراف المتناحرة ، لأن كل طرف يدعي إنتماءه المطلق لنسب الرسول الأعظم فيتوجب أن تكون السلطة والحاكمية له وليس لغيره وتلك هي الطامة الكبرى التي حلت بهذه الشعوب الغبية . تتميز شخوص عامر الروائية بعدم الأنانية والشهوانية في غمرة هذا الوجود المغرور الذي يبدو في أكثر احواله ضد البشر الذي يعاني الأمرين وما من حلٍ ماثل أمامه سوى التضحية بالنفس تلك التي هي اقصى غاية الجود . هناك قوة خفية تحرك الأشياء ومن دون هذه القوة لأصبحت الأشياء في مكانها ، الحجر يتجه نحو الأرض ، النبات نحو الماء ، الحيوان نحو الطعام ، ثم الإنسان نحو الحرية ، ومايحركه هو تلك القوة الخفية التي تشبه قوة إنعتاق السهم من القوس . ولذلك نرى في السرد الروائي لعامر هناك الكثير مما يتعلق بحرية الإنسان كفرد وثوري أو إنتمائي مجتمعي . الرواية عبارة عن عمل حكائي متواصل كان بطله شخصية شابة بلحمها ودمها من أهالي السماوة ، ذلك اليساري الوسيم ( ماجد وروار) من مواليد تلك السنين الستينية التي ذاقت بها الحركة الوطنية العراقية اليسارية من أهوال وتعذيب وقتل وتشريد الى المنافي على أيدي جلاوزة البعث والحرس القومي. الرواية تتناول تأريخ عائلة( الوسيم ماجد وروار) لما ألم بها من أهوال موجعة مبكية ، علاوة على تحمّل الأبوين إرهاب رجالات الأمن في ذلك الزمن الأغبر ، حيث تتم مداهمتهم في البيت الكائن غربي السماوة بين الفينة والأخرى. ولذلك يصلح لها أن تكون عملا درامياً مذهلا كما هذا الذي نقرؤه على لسان ماجد وروار والذي نقله لنا على الورق الصقيل الروائي الشاب عامر موسى الشيخ . الوسيم ماجد وروار وهو في ريعان الصبا يفقد إثنين من إخوته إستشهدا على أيدي جلاوزة البعث ( وصفي وكاظم ) كما سنبين لاحقا ، ثم قاسم الخفيف الظل الذي لم نتوقع موته ، ربما هو الآخر مات كمدا بعد أن أصيب بالسكري نتيجة ارهاصِ أيامٍ مريرة لاتحتمل على إخوة إستشهدوا فيلاقي هو أهوال حسرته على شبابهم الذي لم يأخذ حقه في هذه الحياة التي لابد لنا أن نعيشها بكل تفاصيلها القبيحة والجميلة . ثم يلحقهم هذه الأيام من عام 2016 المقدم اليساري (علي وروار) الذي إستشهد وهو يدافع عن أرض الوطن ضد بعث الدواعش وغلاة الدين . ولذلك هذا الشاب الوسيم ( ماجد وروار) أصبح رجلا متلازما مع الألم أينما حلّ وإرتحل منذ ذلك الوقت حتى اليوم ، هو وعائلته وأبوه الذي وافاه الأجل مبكراً محترقا بنار غيضه وعذاباته بعد إن ذاق الويل من الجلاوزة . ثم الأم المناضلة التي أعطت الكثير والكثير ولم تجنِ غير الحسرة والبكاء والنحيب ، حقا هي المرأة التي ينطبق عليها القول السائد ( إمرأة ثكلى) . ورغم كل الألم البادي على محيّا الوسيم ماجد نتيجة هذا الفقد المهول لإخوته الأربعة ، لكننا نراه الشاب المعطاء الضحوك المؤنس لكل من يرافقه ويتخذه صديقا فيجد فيه كل الإخلاص والإخوّة . تنقلنا البانوراما الروائية في أحد فصولها الى تأريخ الحركة اليسارية في العراق ثم نزولا الى ما أصاب الجيش العراقي من إنكسار وهزيمة في حرب الخليج الأولى 1991 كما سنقرأ لاحقا . تناولت الرواية في فصولها الأولى عن أخلاق اهالي السماوة الثورية منذ ذلك الوقت العصيب ، حيث نرى كيف أوقفوا قطار الموت الصاعد وهو ينقل خيرة العناصر الثورية اليسارية أنذاك تمهيدا لنقلهم الى نقرة السلمان ..(ومن ضمنهم الشاعر مظفر النواب ، عريان السيد خلف ، الكاتب الكوردي محمد جميل والكاتب ابو سرحان وغيرهم من الأكاديميين والأطباء والحقوقيين والمثقفين ، إعتقلوا بسبب انتمائهم إلى الحزب الشيوعي العراقي ). (سائق القطار عبد عباس المفرجي قد علم بأن القطار معبأ بالمعتقلين وعرف ذلك لحظة توقفه في محطة المحمودية ، هذا التوقف غير من كيانه وفكرته التي زرعتها السلطة بأنه يحمل حيوانات وماشية ) ... ولذلك سائق القطار سارع كثيرا في إيصال هؤلاء الثوريين الى السماوة كي ينقذهم من الموت المحقق نتيجة الجوع والحر اللاهب ، وصل القطار السماوة فهبت العشائر وكل الرجال والنساء وتم إنقاذ كل هؤلاء الشرفاء بعد إعطائهم الطعام والشراب ونجوا من موت محقق قد رسمته لهم السلطة الغاشمة أنذاك . في السبعينيات والثمانينيات أصبح ماجد فتىً مقداما ، ليتحمل تبعات نضال أشقائه ضد السلطة البعثية ، أحدهم التحق بالأنصار ( كاظم وروار..الملقب ثوريا بيوسف عرب ) والثاني ذاب في شوارع بغداد ( وصفي وروار) وفيها كان طالبا في كلية الأدارة والأقتصاد ويناضل بسرية تامة حيث تقطعت أوصال الحزب بعد ضرب الجبهة الوطنية . ولذلك ظل ماجد نتيجة متابعة رجالات الأمن له ولعائلته وإخوته ملازما الى الآه والألم ، لكنه فتىَ فنان موهوب يستطيع تقمص أي شخصية في سبيل التماهي والتمويه على شخصيته الفعلية التي تحب إخوته وطريق نضالهم ، ظل ماجد يتأفف من الدواخل دون أن يقول للآخرين ( إنّ الآه أمرُّ عسير ..هي الماضي الذي ينهيك وأنت في حاضرك) . ولذلك ماجد راح ينطلق بعكس مقولة باولو كويلو(اذا كنت تعتقد انّ المغامرة خطرة /فجرب الروتين فهو قاتل) ، فيقرر ماجد الخروج من الروتين الى فضاء المغامرة ، ولهذا كان بين الفينة والأخرى يخرج بزي الهيب هوب وألوانه البراقة وقبعته والأساور وغيرها من الرتوش التي تجلب الأنظار ويقف في أشهر شارع في السماوة حيث تمرق الجميلات للتحرش بهذا الفتى الوسيم . فيقول ماجد على لسان حاله : ( كانت تلك اللحظة بالنسبة لي لحظة مغايرة لأني اصبحت حديث كل اثنين منفردين ، اكلك شفت ماجد شلابس اليوم ، خرب عرضة والله دالغة ، بس هو فنان وحلو بكيفه). ثم يستمر ماجد فيقول : (مشهد إستفز حتى تلك الفتاة الجميلة التي تركت أمها وعبرت لي من جانب مدرسة المعرفة أمام مصور الجماهير أو ساحة الساعة حيث أقف لتقول لي ...... انت شني عود تسوي روحك حلو ) رشقتني بهذه الجملة ثم انصرفت ، وأنا أدرت وجهي مبتسما دون أن أُشعرها بأني إبتسمت).
هنا ماجد قام بدور تمثيلي بارع لأنه يمتلك هذه القدرة لكونه ممثلاً وفنانا ، والتمثيل حسب ماتقوله بطون الكتب هو غريزة وجدت قبل السينما والمسرح وقبل ظهور المدنية فهي وجدت في العصور الأولى للفراعنة حيث تتجلى في رقصهم المقدس حول الموتى وفي حفلاتهم الدينية التي يقدمون فيها الضحايا للآلهة أو يقومون فيها بأساليب السحر والشعوذة لأستدرار رضا وبركة آلهتهم التي يخشون منها البطش والإنتقام. ولذلك راح ماجد بما تمليه غريزته التمثيلية يمثل هذا المظهر الهيبهوبي الغريب الذي أصبح له باب رحمة فيما بعد ، حيث أنه برفقة عدد من الأصدقاء في اليوم التالي القي القبض عليهم لسكرهم الشديد ، لكن رجال البوليس عرفوه في اليوم الماضي وهم في دوريتهم في الشوارع حيث كان واقفا بزيه الغريب ، وسألوه فيما إذا كان هو الشخص المقصود بالأمس واجاب بنعم ، فضحك المسؤول الأمني لجرأته وأخرجوه بعد إن أخذت الوساوس تلعب في رأسه ، إذ أنه ظن بأنهم القوا القبض عليه نتيجة لكونه أخاً لشقيقين شيوعيين هاربين من وجه البوليس القمعي . هذا الشخص ذو التصرف الهيبهوبي يطلق عليه في بلداننا (إبن شارع )، لكن الغالبية العظمى لاتعرف إنّ هذه التسمية( إبن الشارع) جاءتنا من الكاتبة( فرانسوا ساغان )الفرنسية الشهيرة في روايتها بعد شهر أوسنة لما لها من مدلولات عظيمة تخص الشأن الإجتماعي . ماجد في ذلك الوقت أراد أن يصرخ صامتاً ، أن يحاور نفسه المتأرجحة فيقول ( كن انتَ التغييرالذي تنشده في العالم) ولذلك إستطاع أن يتجرأ ويرتدي زيا غربيا في نظر البعض وبأنه تصرف لايليق بالواقع الثقافي ولا الإجتماعي ولا حتى الأعراف ، بينما الحالة النفسية لماجد دون أن يدري أو يدرك تماما كانت تنشد الحرية في كل شيء ، لكن نتيجة الظروف القاهرة من إرهاب السلطة ظهرت المناشدة للحرية لدى ماجد في الملبس فقط ، لكون التعبير عن الرأي في فكرة ما أنذاك كان يطيح بصاحبه ويرميه في غياهب السجون والموت . كان ماجد يريد أن يصرخ بالديمقراطية دون الشعور الحقيقي بذلك ، ولكن الإرهاص والقيد والخوف الذي بداخل ماجد والذي لايعرفه أي شخص أنذاك سواه هو وعائلته المضطهدة من مطاردة وإرهاب السلطة البعثية نتيجة الأشقاء الشيوعيين لماجد ، فراح ماجد يريّح النفس الصادية بهكذا تصرف وكان هو أحوج اليه . الفنان فريدريكو فلليني والمخرج الإيطالي الشهير كان ينقل لنا في مذكراته عن إيطاليا في الأربعينيات والخمسينيات عن كيفية السطوع بملابس تشبه بألوانها الستائر والشراشف لتكون من أزياء المودرن التي يغتر بها الشباب أمام الفتيات تعبيرا عن النزوح من التقليدي الممل . ولذلك راح ماجد يتقمص هذه الشخصية العجيبة الغريبة في ملبسه دون أن يدري من إنّ ( برجستون) الكاتب الشهير والمنظّر في نشر الديمقرطية أنذاك كان يقول : (إستطعنا أن ننشر تعاليم الديمقراطية عن طريق الديسكوات والمراقص والبارات والأزياء الصارخة في غرابتها ، أكثر بكثير من الكتب والتنظيرات والملصقات والتعاليم المكتوبة و المقروءة ) . ولذلك كانت نفسية ماجد وتركيبته الثقافية وتربية عائلته والبيئة والمحيط الذي عاش فيه جعلت منه يعبر عن الديمقراطية بأشكال أخرى ، بشكلها الذي دعا اليه برجستون ، روحية ماجد القلقة نتيجة الخوف المتلازم له والذي اصبح مزمنا له أينما حل وارتحل ، والقلق الذي يفتك بماجد بين الآونة والأخرى( على قلقِ كأن الريح تحتي ....المتنبي) ، والإضطراب الناجم عن ملاحقة البعثيين له ولعائلته جعلت نفسيته تنشد الديمقراطية والحرية وعدم الإلتزام بالزي الرسمي والتقليدي السائد أنذاك ، أنه يصرخ صامتاً بزيه ، أنا أتطلّعُ الى الديمقراطية ياعالم فهل من مجيب .
يتبــــــــــــــــــــــــــــع في الجــــــــــزء الثانــــــــــــــــــــــــــــــــــي
|