العدد الرابع اليهود في ظل الاحتلال الانكليزي على العراق.
ذكرنا في العدد السابق ان عدد اليهود كان في تزايد مستمر ، فقد قدر عددهم في بغداد عام 1794  بـ (2500) نسمة ليصل الى (50) ألف نسمة عام 1908, وحسب احصائيات سلطات الاحتلال البريطاني لعدد نفوس اليهود في العراق  سنة 1920 كان يبلغ بـ (488ر87)الف نسمة موزعين في معظم المدن العراقية في الولايات الثلاث (ولاية بغداد , وولاية البصرة , وولاية الموصل )(1 ).
كان الانكليز عند زيارة احدهم الى العراق قبل احتلاله يفضلون النزول عند العوائل اليهود , ففي سنة 1891م عند وصول الرحالة الانكليزي السير (واليس بدج) إلى  الحلة , طلب ان يكون نزوله عند العوائل اليهودية , وفعلا نزل عند يهودي  يعمل وكيلاً لشركة (ويبر) الانكليزية في  الحلة.
     والظاهر ان العلاقة بين الاحتلال البريطاني واليهود في العراق تمتد جذورها الى مطلع عام 1820 ممثلة بنشاط القنصل البريطاني في بغداد ، كلوديوس جيمس ريج حيث ارتبط الاخير بعلاقات مهمة مع شخصيات يهودية عراقية ، وتزايد حجم العلاقة بعد ان فرضت بريطانيا سيطرتها على البلاد , أذ نزلت في الفاو يوم 6 مـن تشـرين الثانـي عـام 1914 وانتهـت من احتلال العراق بشكل كامل بسيطرتها على الموصل في 8 من تشرين الثاني عام 1918م.
وكما ساعد اليهود الغازي كورش على البابليين , وتعاونوا مع هولاكو ضد العباسيين , وتعاونوا مع الدولة العثمانية ضد المغول , فانهم تعاونوا تعاون تام مع الغزو البريطاني وفرحوا واستبشروا بذلك الاحتلال, فنكروا جميل العثمانيين بحقهم، عندما عاملوهم كرعايا أسوة بباقي رعايا الدولة العثمانية متساويين في الحقوق والواجبات، فضلاً عن السماح لهم بتأسيس مدارس خاصة بهم ,وإشراكهم في العملية السياسية من خلال ممثليهم في مجلس ( المبعوثان العثماني).
    و اليهود في العراق كانوا اكثر الناس فرحاً بالاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917، حيث خرج معظمهم يهتفون ويصفقون للجنود البريطانيين، ويبذلون أقصى جهودهم من اجل خدمة المحتل البريطاني والتعاون معه.
ولعل سائل يدور في ذهنه سؤال عن سبب تصرف اليهود بهذه الصورة مع كل محتل للعراق دون الاهتمام بالمسائل الأخلاقية والروابط التاريخية والمصيرية ؟
والجواب يكمن في ان تعاليمهم الدينية تبيح لهم أتباع أي وسيلة مهما كانت شائنة مع (الاغيار) (2).
وفي كتاب الأقلية اليهودية في العراق لخلدون ناجي معروف الذي يعزى فرحة اليهود بالإنكليز الى ان الطائفة اليهودية تسعى دائماً الى حماية أجنبية.
ولا ننسى  الحركة الصهيونية التي كانت تدرك بأن التعاون مع البريطانيين من شأنه ان ينعش النشاطات الصهيونية في العراق .
ولذلك تبنت الحكومة البريطانية مواقف مؤيدة لليهود ليس في العراق فحسب , وانما في جميع إنحاء العالم .
واما بالنسبة الى اهتمام الانكليز باليهود في العراق خصوصا , فذلك لان هذه الطائفة كانت لها اهميتها من ناحية الاقتصادية  حيث سيطرتها على المال العراقي .
وهناك تطبيق اتفق بين البريطانيين والحركة الصهيونية نظير تعاون اليهود مع الانكليز .
و يشكل تعداد نسبة نفوس تلك الطائفة عند البريطانيين اهميه بالغه كما ذكرت ذلك غرترود لوثيان بيل في تقرير (الإدارة المدنية في بلاد ما بين النهرين) (3).
وبسبب الولاء التام ونظير الخدمات التي تقدمت من قبل اليهود في العراق للبريطانيين , قامت القوات البريطانية على اثر ذلك بالاهتمام بتلك الطائفة من خلال التالي :ـ
1.تعينهم بحجم كبير في المؤسسات الحكومية ,وبمناصب رفيعة كما في الحلة عندما تم تعيين(إبراهيم حييم) في منصب معاون الحاكم السياسي، واخرين في هيأتي البريد والمواصلات.
2.قبول تطوعهم في  صفوف القوات البريطانية.
3.عمل البعض منهم كموردين لتزويد معسكرات الجيش البريطاني باحتياجاته من الأطعمة في كل معسكرات الاحتلال الانكليزي .
4.اعطائهم اولوية في حصة التعليم (4) ,و أتساع دائرة تعليم الفتيات اليهوديات , لاسيما ان المدارس اليهودية كانت منذ عام 1893 برعاية جمعية الأليانس الإسرائيلية في باريس . وتعدى نشاطها حدود بغداد لتشهد البصرة عام 1903 افتتاح مدرسة جديدة للطائفة، تبعها في الحلة عام 1907 والموصل والعمارة عام 1910,فتم دعم تلك المدارس من قبل الانكليز .وهذه اسماء مدارس الطائفة اليهودية ومستواها وتاريخ افتتاحها :ـ
                 مدراش تلمود توراه       مدرسة دينية                    1832
البير ساسون            ابتدائية ومتوسطة                 1864
لوره خضوري           ابتدائية ومتوسطة                 1893
رفقه نورائيل  الابتدائية للبنين     ابتدائية        1902
مدارش مندائي إبراهيم عبد الله   مدرسة دينية            1907
مدرسة مناحيم صالح دانيال      ابتدائية                    1909
التعاون                              ابتدائية                    1909
الوطنية                                ابتدائية       1923
مدرسة ندعم وطوبه نورائيل الابتدائية للبنات   ابتدائية  1924
شماش                              إعدادية                    1928
مسعوده سليمان                   ابتدائية                    1930
منشي صالح                       ابتدائية           1935
الثانوية الأهلية للبنات       ثانوية للبنات                    1941
مدرسة فرنك عيني المتوسطة    متوسطة                 1941
   ان الاقلية اليهودية في العراق كانت شاذة جدا عن الشعب العراقي بمختلف تنوعاته الدينية والمذهبية والقومية , فكل الشعب كان يضغط على قوات الاحتلال البريطانية في انتفاضات عارمة بلغت ذروتها في ثورة 1920م, فعلى اثر الانتفاضات  قرر البريطانيون في 27 تشرين الثاني سنة 1918 أجراء استفتاء شعبي للاطلاع على آراء العراقيين بشكل عام حول نوع الحكم المرغوب فيه, وعزموا على تشكيل حكومة محلية في العراق , مما أثار اعتراض اليهود ، فقدمت  الاقلية اليهودية التي هي من الشواذ  في 22 كانون الثاني سنة 1919 مضبطة يطالبون فيها بالحكم البريطاني المباشر على العراق. ولم يكتفوا بذلك بل طالبوا بالجنسية البريطانية .
وبهذا نعتقد انهم لا يعتبرون انفسهم جزء من الشعب العراقي , فمنذ العهد العثماني ولحد تاريخ مضبطتهم لم تسجل أي شكوى قد لحقت بمصالحهم  سواء كانت اقتصادية او اجتماعية وليس   ذلك فحسب , بل لم يكن لليهود حي خاص بهم في العراق ، أي لم يكن هناك ما شاع اصطلاحه (بالجيتو) على عكس بقية دول العالم التي تواجد فيها اليهود.
ولا نجد في هذه الفترة حدثاً كبيراً يسيء الى الطائفة لكونها تدين باليهودية ، وهذا ما يؤكده حاخامهم فيما بعد الى المربيرغر عندما قال له : ((أن يهود العراق لم يضطهدوا قط ، وان لا فرق في المعاملة بين يهودي ومسلم)).
ولكن المندوب السامي البريطاني في العراق السير برسي كوكس قام  بتقديمه الضمانات لحمايتهم.
 ونوعز طلبهم الجنسية البريطانية وعدم اتخاذهم موقف  مع الشعب العراقي الى ايمانهم بأهداف الحركة الصهيونية ,  فذكرنا في العدد الثالث بأن النشاط الصهيوني بدأ في العراق سنة 1899م , وفي كانون الثاني سنة 1914، تم تأسيس مدرسة عبرية صهيونية في البصرة من قبل المنظمة الصهيونية في برلين , فبعد تضييق الخناق عليهم من العثمانيين و بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى توقف نشاط الحركة لفترة محدودة في العراق , وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها عاد النشاط الصهيوني في العراق مرة أخرى عبر الاتصال بين اليهود في العراق من ذوي الأفكار الصهيونية والمؤسسات الصهيونية في الخارج إلى ما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى.
ونلاحظ ذلك كوضوح الشمس في رابعة النهار من خلال رسالة (أهرون ساسون) التي بعثها الى المسؤول الصهيوني في يافا سنة 1919م ,وهذا نصها : أننا نتشرف بإعلامكم بأن الفكرة الصهيونية قد رسخت جذورها في قلب كل واحد من أبناء طائفتنا ،و تلبية لطلب الجمهور فقد قررنا أن نؤسس هنا جمعية صهيونية حتى لا يكون نصيبنا في مساعدة الشعب أقل من نصيب بقية أخوتنا ،من الواضح أن المهمات الأساسية لأعضاء جمعيتنا هي أعطاء المعلومات الكافية، ومساعدة أولئك الراغبين في الهجرة إلى البلاد بهدف الاستيطان وإحياء اللغة العبرية في أوساط شبان طائفتنا في العراق التي يربو عددها على المائة ألف نسمة، أرجو من السيد المحترم أن يتفضل بإخبارنا عما تتطلبه منا الفكرة الصهيونية وعن كيفية تحقيقنا لرغبتنا في إنشاء هذه الجمعية وشكرا سلفا.
وبعد هذه الرسالة اسس اليهود في  عام 1920م (الجمعية الأدبية العبرية)  في بغداد، و ترأسها مفوض شرطة يهودي في بغداد يدعى (سلمان روبين حيا)  و السكرتير لها (سلمان شينا) (5 )وهي أول مجلة عبرية في بغداد تدعى (يشورون) نصفها باللغة العربية ونصفها الأخر باللغة العبرية ، أصدرتها الجمعية الأدبية الإسرائيلية ، وتبعها إصدارات أخرى. 
وألحقت بالجمعية الأدبية العبرية في بغداد مكتبة تحتوي على الكتب والأدبيات والصحف الصهيونية , كصحيفة (هاعولام) الاسبوعية التي كان موزعها الوحيد هو  أهـرون المعلـم في العراق ، وتسلم في آذار سنة 1920م ، (1000) شيكل لغرض بيعها على يهود العراق حيث بدأت الأموال تجمع (للكيرن هايسود) (6 ),فاصبح المعلم ممثلاً للمنظمة الصهيونية العالمية في بغداد ، ووكيلاً للهجرة ، الى فلسطين.
و سعى أعضاء الجمعية الأدبية العبرية في تأسيس فروع لها في عدد من المدن العراقية , فأنضم الكثير من اليهود إليها بعد اجتيازهم الشروط الخاصة بقبول الأعضاء الجدد ,و بذلك أصبحت الجمعية مركزا للنشاط الصهيوني بحجة العمل من أجل إحياء الأدب العبري في حين حقيقتها محاربة الشعور القومي العربي نتيجة ما لمسوه من أعقاب ثورة العشرين و التي اعتبرها اليهود تمردا ضد سلطة الاحتلال البريطاني.
و في 24 كانون الأول 1920 اغتيل رئيس الجمعية سلمان روبين , فعاد اعضاء الجمعية في سنة 1921 لانتخاب هيئة إدارية جديدة ,فوافق المندوب السامي البريطاني السير (برسي كوكس) حيث جاءت الموافقة عن طريق سكرتيره السياسي لإنشاء الجمعية الصهيونية في العراق، وابلغهم  بأن تظهر تحت أسمها الصهيوني الصريح .
وبعد صدور قانون الجمعيات العراقي في 2 تموز 1922 ، الغي ترخيصها ، حيث ألزم القانون الجديد بعدم جواز تشكيل الجمعيات السياسية دون موافقة وزير الداخلية ، الى جانب إلزام الجمعيات التي سبق ان حصلت على إجازة عمل بضرورة تقديم طلب جديد للحصول على موافقة الوزارة .
ولكن هذه الجمعية أطلقتعلى نفسها اسم سري في سنة 1924 باسم الهستدروت الصهيونية لبلاد الرافدين ,و أصبحت هناك سبع جمعيات صهيونية سرية في العراق تابعة لها .
وبدأ توافد المعلمين اليهود من فلسطين لها ,لترسيخ الافكار الصهيونية في عقول طلبة المدارس اليهودية في العراق.
وكانت القيادات الصهيونية تتابع نشاطات الجمعية مستغلة وجود القوات البريطانية في العراق , ففي سنة 1928 وصل الصهيوني السر (الفريد موند) الى العراق , فاستعد لاستقباله اليهود , مما جعل الشعب العراقي يقوم بمظاهرات صاخبة تندد بالصهيونية و تشجبها.
وعلى أثر تلك المظاهرات أعلنت الحكومة العراقية برئاسة (توفيق السويدي) في 24 آب 1929 حظر النشاط الصهيوني في العراق و سحب الترخيص الممنوح للجمعية الصهيونية من قبل المندوب السامي البريطاني .
وبعد اضطراب رئاسة الحكومة المذكورة وتقديم استقالتها اصبحت بعض الجمعيات الصهيونية السرية تلفظ أنفاسها الأخيرة خلال الفترة من سنة 1930-1933 وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية و تداعياتها و الضغط الحكومي العراقي.
وهكذا ساهمت بريطانيا بعد احتلال العراق ووضعه تحت انتدابها بموجب مؤتمر سان ريمو في 25 من نيسان عام 1920 ، بنشر الدعاية الصهيونية ، وفسح المجال لتوسع النشاط الصهيوني بين يهود العراق بشكل عام وبغداد والبصرة بشكل خاص.
وكان للجمعية المذكورة الدور الرئيسي والمهم في تحريض اليهود على الهجرة الى فلسطين وشراء الأراضي فيها حيث أنها لم تتوان عن ترغيب اليهود بالسفر الى هناك .
الهوامش
(1)سيتم كتابة مقال خاص بعدد نفوس اليهود من قبل الميلاد الى حد تهجيرهم من العراق في عدد لاحق.
(2)هذا المصطلح يعني كل شخص أو فئة لا تدين باليهودية.
(3)غرترود لوثيان بيل , الشخصية الانكليزية التحقت بالحملة البريطانية على العراق في سنة 1916 ، ثم سكرتيرة شرقية لدار الاعتماد البريطاني في بغداد ، لها مواقف واضحة في معارضتها لسياسة بريطانيا تجاه قضية فلسطين ومطامع الصهيونيين فيها .
(4)ينظر عبد الرزاق الهلالي ، تاريخ التعليم في العراق في عهد الاحتلال البريطاني 1914-1921 ، ص 15-25.
(5)سلمان شينا ,ولد في بغداد سنة 1899 , درس في الاليانس , وعمل ضابطا في الجيش التركي في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى , وعين مترجما لدى قائد الطيران الألماني سنة 1917م , وتم أسره من قبل البريطانيين ومن ثم نفيه إلى الهند , وبعدها أطلق سراحه سنة 1919 ،عاد إلى بغداد وعمل محاسبا تجاريا , ودرس في كلية الحقوق سنة 1921 , وتخرج منها سنة 1925 فمارس المحاماة , واصدر في الوقت نفسه مجلة المصباح الأسبوعية , انتخب نائبا عن بغداد في مجلس النواب في آذار 1947 وجدد انتخابه في حزيران 1948 وظل نائبا حتى مغادرة العراق في صيف 1951م.
(6)الصندوق التاسيسي اليهودي  يمثل الهيئة المالية الرئيسية للمنظمة الصهيونية العالمية.