اذا كانت مهنة الزراعة من المهن التي تحرك الاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية والإنتاج الزراعي تلعب دور السلاح في الخلافات السياسية بين البلدان , فلماذا اذن لم يرتقي الفلاح الى درجة السياسي والعسكري في العراق؟ على سبيل المثال لماذا ينظر الناس الى السياسي او العسكري بنظرة الرهبة والاحترام وهو يمشي في السوق او جالسا في احدى المجالس الشعبية ولا ينظر الى فلاح بنفس نظرة العسكري او السياسي؟ هناك أجوبة كثيرة لهذا التساؤل , أولها هو ان اتساع الرقعة التي يعمل عليها الفلاح تجعل من الصعوبة ارسال أولاده الى المدرسة , خاصة عندما يغيب عن المناطق الزراعية وسائل النقل والطرق المبلطة. الفلاح في الجنوب العراقي لا يعيش المدن وانما على الأرض الزراعية. ثانيا , ان انتشار الفلاحين على منطقة واسعة لا تشجع الحكومة على تأسيس مدارس يستفاد منها أبناء الفلاحين وذلك لقلة العدد . وبالمناسبة , استطاعت الولايات المتحدة الامريكية سابقا من حل هذه المشكلة وذلك عن طريق انشاء مدرسة من صف واحد ومعلم واحد مسؤول عن تعليم عدد من الطلاب من مرحلة الصف الأول وحتى مرحلة الصف السادس . أي يكون المعلم بتاع كله . ثالثا , الفقر المزمن للطبقة الفلاحية في الجنوب العراقي يفرض عليهم استخدام أولادهم في المزرعة بدلا من المكننة وبدلا من ارسالهم الى مدارس المدينة. رابعا , اختلاف مواسم الإنتاج الزراعي (انتاج صيفي , خريفي , شتوي , ربيعي ) يفرض على الفلاح تركيز جهوده وجهود عائلته على مزروعاته , والا سيخسر إيرادات الموسم . الفلاح الجنوبي ليس لديه فسحة من الزمن وقت نضوج المحصول ويجب ان يكون هو وعائلته قريبا منه . خامسا , صغر الإنتاج وانخفاض أسعاره يؤدي الى قلة دخل الفلاح السنوي ولا يسمح له بمغادرة ارضه , وفي هذه الحالة يطبق على الفلاح المثل العراقي القائل "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة" . البقاء على مزرعته وعلى الرغم من شحة الإيرادات المالية منها خير من تركها و الهجرة الى مكان غير مضمون العيش . سادسا , ان مهنة الزراعة لا يمكن استخدامها الا على الأرض الزراعية ولا يمكن الاستفادة منها خارج المزرعة او استخدامها في اشغال أخرى , وهذا السبب الذي اضطر الفلاح الجنوبي بالقبول بأعمال اقل من مهنة الزراعة مثل عمال بناء , حراس , واشغال يدوية بسيطة أخرى . سابعا , انتشار الامية بين الطبقة الفلاحية هي الأخرى ساعدت على عدم حصول أبناء الفلاحين من اهل الجنوب العراقي على وظيفة حكومية او العمل في القطاع الخاص بعد رحيلهم من أراضيهم .
وهكذا أصبح الفلاح الجنوبي فقيرا على ارضه وفقير وهو بعيدا عنها. غير مرغوب به حتى وان عرض خدماته بابخس الأسعار. بالحقيقة ان الفلاح الجنوبي عانى مرتين من جراء هجرته الأرض في السابق , الأولى , الفقر والثانية الاقصاء والتهميش . الفقر اضطره السكن في اكواخ من الطين والصفائح على مشارف المدن الكبيرة. وأصبح ينظر له بدونية حتى في المناطق التي يتدين بدينها ومذهبها. لقد اطلق عليه كلمة "معيدي" و "شركاوي" امعانا بهدر كرامتهم ومصادرة انسانيتهم , وفي ظل نضم لا يوجد فيها قوانين تحمي كرامة المواطن وان كانت لا تفعل . من يستطيع تفعيل قانون لأجل حماية مهاجر فقير لا مسؤول حكومي كبير يحمي ظهره؟
بالمقابل , كان أولاد الفلاحين من المناطق الغربية يقدمون الى بغداد معززين مكرمين . يقدمون الى بغداد وفي جيوبهم لا يوجد دينار واحد , ولكنهم يستقبلون بكل حفاوة من قبل أهلهم واقربائهم الذين يحتلوا اعلى المناصب الحكومية والعسكرية في الدولة العراقية . هذا المهاجر الجديد سرعان ما يدخل الكلية العسكرية او احد الأجهزة الأمنية وخلال سنوات قليلة يصبح هذا المهاجر يملك ارض سكنية هبة من الحكومة . وهكذا ظهرت مستعمرات سكانية فقيرة في بغداد مثل الشعلة والثورة والحرية و ومستعمرات سكنية يسكنها الموظفين الحكوميين مثل الشرطة , حي العدل , والجامعة .
لم يظهر المهاجر الجديد الى بغداد وبقية المحافظات العراقية من اهل الغربية والذي اعتلى اعلى المناصب الحكومية والأمنية احترام لزميله المهاجر من الجنوب العراقي , وكيف له الاحترام و ان أبناء جلدته لم يحترموه ؟ لقد اصبح المهاجر الجديد من اهل الغربية عدوا لأهل المدن المضيفة واكثر عداء الى المهاجر من اهل الجنوب و الشاهد على ذلك معاملة الأجهزة الأمنية مع المراجعين لدوائر الامن , الجنسية , السفر , والمطارات . لقد كان السؤال الأول الذي يطرحه موظف الامن لمراجعيه هو اين محل السكن , في إشارة الى دين ومذهب المراجع.
وبالمناسبة , فان مسؤولي اهل الغربية في دوائر الدولة العليا كانوا لا يثقون بغير أبناء المهاجرين من الجنوب العراقي , حيث اتخذهم خدم لهم ولعوائلهم لسمعتهم في حفظ الشرف و حماية أموال من اتمنهم عليها . لقد كان ليس من الغريب ان يكون ابن الجنوب سائق قائد فرقة عسكرية , حارس شخصي له , مربي لأولاده , و مسؤول التسوق اليومي لعائلته . لقد حدثني صديق من كبار القادة العسكريين استشهد رحمه الله في حرب العراق –ايران استخدام جنود من اهل الجنوب يكفيه بالتفكير بحالة عائلته في بغداد لانهم أوفياء ويخافون الله.
الغصة هو ان جميع أبناء الشعب العراقي كانوا يتنعمون ما توفره يد فلاح المنطقة الجنوبية , مثل الأسماك بكل اشكالها وتمور بكل أنواعها والرز العنبر الذي يضاهي الرز المنتج في جنوب شرق اسيا , الفاكهة والخضر , والحنطة و الشعير , وأنواع متعددة من الحبوب . الا ان ابن الجنوب كان محروما من هذه النعم وينظر له بالدونية.
النظام السياسي الجديد أعاد الحق وساوى بين جميع مكونات الشعب العراقي , الا انه مازال هناك طريق طويل لإعادة الثقة بنفس ابن الجنوب . الواجب الأول يقع على عاتق الفلاح الجنوبي نفسه. الفلاح الجنوبي يجب ان يعلم ان الطريق الوحيد نحو المجد والثروة والعيش الكريم هو التعليم. يجب ان لا يبقى الفلاح العراقي وابناءه غارقين بالجهل والامية. الفلاح الجنوبي يجب ان يعلم ان الإنتاج الزراعي الحديث والوفير ليس عن طريق ترك زوجته وابناءه العمل في المزرعة ليلا ونهارا , وانما عن طريق استخدام التكنولوجيا الحديثة . الفلاح الجنوبي يجب ان يتعلم ليس فقط كيف يستخدم التكنلوجيا الزراعية وانما كيفية تصليحها عند العطل . الفلاح في الدول المتقدمة يصرف أوقات فراغه في تصليح المكائن الزراعية على ارضه تحضيرا للموسم الزراعي القادم . الفلاح الجنوبي يجب ان لا يفكر بإنتاج محصول زراعي واحد ويقضي السنة في المقاهي والمضايف , وانما بإنتاج اخر لتامين دخل مستمر وبدون انقطاع . طبعا , لا يستطيع الفلاح تحقيق ما يحتاجه وحده وانما يحتاج مساعدة منظمات المجتمع المدني , شيوخ العشائر , ورجال الدين . رجل الدين يجب ان لا يقضي السنة كاملة بسرد قصص البكاء واللطم , لان الفلاح يحتاج التوعية ليكون مواطن صالح لعائلته ولمدينته ووطنه .
حكوميا , الحكومة يجب عليها الاعتراف بان امامها طريق واحد لرفاهية الشعب العراقي وهو اختيار طريق التنمية الزراعية بعد ان خانها القطاع النفطي . الزراعة كفيلة بالقضاء على البطالة في البلاد ورفع المستوى المعاشي لأبناه , إضافة الى حماية العملة الصعبة من التسرب وحماية الامن الغذائي للبلد . الحكومة في طريقها القضاء على تنظيم داعش وعلى الحكومة استخدام نفس الهمة والمثابرة والإصرار لإعادة الحياة الى القطاع الزراعي. الحملة لإعادة الحياة الى القطاع الزراعي سوف لن تكون قريبة لكلفة حرب داعش , ولكن كل دينار يصرف على هذا القطاع سوف يعطي سبعة دنانير في المستقبل . الحملة القادمة لإعادة القطاع الزراعي الى الحياة سيجعل العراق أجمل وهواءه انقى وطعامه ازكى. ( لا خير بأمة تأكل من غير ارضها ) والاهم من كل هذا وذاك هو رجوع الفلاح الجنوبي الى هيبته واحترامه بعد ان سرقتها منه الحكومات المتعاقبة , والله اعلم , قد يكون رئيس البلاد القادم من أبناء الفلاحين مثل خروتشيف , زعيم الاتحاد السوفيتي في حقبة الستينات من القرن الماضي او مثل جيمي كارتر , فلاح الفستق الأرضي والذي اصبح رئيسا للولايات المتحدة الامريكية في فترة السبعينات من القرن الماضي.
|