بعد سقوط النظام عام 2003، لاحظنا كيف أن البنية الاقتصادية للبلد كانت متهالكة، بسبب الحرب العِراقية الإيرانية ثم غزو الكويت، وسنوات الحصار العجاف، وعسكرة البلد المدمرة، وإجهازالفساد المالي و الإداري والانحطاط العلمي والأكاديمي على ما تبقى من قيم وأخلاق موجودة لدى البعض، ودعم الجهل في مختلف مناحي الحياة في ما بعد.
بعد هذا، ثمة سؤال يدور في الذهن هو؛ ما الذي يحتاج إليه العراق؟ هل يحتاج الى أموال، أم أنه يحتاج الى ما هو أكبر من ذلك؟ وما هو ذلك الشي الذي يمكن أن يكون أكبر من المال؟
دعونا قليلا من لغة الارقام، التي قد تزعج البعض ونفكر بصوت هادئ وعقلاني. فالمعروف بأن العراق بالإضافة الى أنه بلد نفطي " كان ينتج في بداية الثمانيات ما يقرب من 3 مليون برميل نفطي يوميا" فهو أيضا بلد زراعي، ولديه صناعة جيدة، بالإضافة الى بعض الصناعات التحويلية التي تغطي جزء من حاجة البلد، لكن وبسبب السياسة الخاطئة للنظام البائد فقد توقفت كل تلك المصانع، ولم يبقى منها إلا الهيكل فقط.
وبعد التصويت على الدستور من قبل الشعب ومجيء أول حكومة عن طريق صناديق الإقتراع، فقد كان المواطن يأمل من حكومته أن تنهض بما عليها فعله، بعد أن أدى هو الجزء المطلوب منه، لكن الحكومة لم تفي بوعدها في تحقيق الرفاهية للمواطن، الأمر الذي أضطر معه الأخير الى التشكي من الحكومة ومجلس النواب على السواء.
إن النهوض بالبلد وإعادة إعماره يحتاج قبل كل شيء الى كفاءات علمية، تعرف مكامن الخلل في المشروع الذي تعمل فيه؛ وما هو الشيء الصحيح الذي يمكن أن يعيد المشروع الى العمل مرة ثانية، فلسنا بحاجة الى مجاهدين حاربوا النظام بالهور والجبل، فهؤلاء يجب أن يتم تكريمهم بشكل لائق على مجهوداتهم وتضحياتهم الكبيرة، والتي لولاها لما سقط النظام، إن المجاهدين إستطاعوا هدم سلطة متجبرة، لكن بناء سلطة جديدة أمر مختلف؛ والذي يحصل حاليا هو تسليم مرافق مختصة بالعمران وإعادة البنية التحتية لأناس كل خبرتهم هي أنهم ناضلوا وجاهدوا لكي يسقط النظام البائد، أو حسب ولائهم الحزبي،وليس على أساس الخبرة والحرفة.
لدى العِراق تجربة رائدة في مجال الإعمار، ألا وهي "مجلس الإعمار" في العهد الملكي، شُرع قانون هذا المجلس مِن قِبل المجلس النيابي في 25 أبريل 1950، بمقترح من وزارة توفيق السويدي، والمقدم من قبل وزير المالية آنذاك عبد الكريم الأُزري. تأسس مجلس الإعمار كمؤسسة كبرى مسؤولة عن تصميم وتنفيذ المشاريع العُمرانية، مِن مشاريع الرَّي والصناعة والبناء وغيرها، ونص قانون المجلس على تخصيص إيرادات النِّفط كلها لمشاريع الإعمار، وقد كان لجلال بابان دور كبير في عمل مجلس الإعمار؛ حتى أنه أُعيد إنتخابه في المجلس المذكور لدورة ثانية لنزاهته وتفانيه في العمل. قلنا كان مجلس الإعمار يقوم بمهام التصميم والتنفيذ، وهو في تلك المهام يعتمد على الخبرات المحلية والأجنبية، ويجمع بين المراكز السياسية، لتسيير خططه، والمراكز المهنية مِن أهل الخبرة العلمية في شؤون التخطيط والتنفيذ، وكان مرتبطاً بمجلس الوزراء، ورئيس الوزراء رئيساً، وعضوية وزير المالية، وشخصيات ممَن لهم دراية بالمال والاقتصاد، وتضمن المجلس عضواً فنياً بريطانياً وآخر أميركياً، أحدهما ذو خبرة في الشُّؤون المالية، والثاني كان مهندساً في شؤون الرَّي، كان يُراد لمجلس الإعمار أن يكون فوق الوزرات، وتأخذ منه توصيات التصميم والتنفيذ، وهو يشرف على أدائها في مجال الإعمار، ووضعت له قوانين تحدد مهامه، وتحد مِن التدخل في شؤونه، فهو يكلف شركات استشارية دولية حسب الاختصاص كشركة عن شبكة الرَّي وإصلاح الأنهار، وأخرى عن إنشاء مصنع للإسمنت
ومِن الشؤون التي في متناول المجلس تحديد استثمار الأموال في الاقتصاد العراقي، وتحديد السِّياسة المالية والاقتصادية. كانت الفكرة مِن تأسيس هذا المجلس، إضافة إلى شأنه في التصميم والتنفيذ، هو أن يمنح الجهات المانحة ( البنك الدولي مثلا) الإطمئنان على ديونها المترتبة بذمة العراق.
إننا من هنا ندعوا لإعادة تشكيل مجلس الإعمار العراقي مرة أخرى، على أن لايكون خاضعاً للمحاصة والطائفية، بل أن يكون مهنياً ونزيها، وترتيب جدول بأولويات المشاريع التي يجب أن ينجزها.