عبد الكريم هداد شاعر عراقي يساري منذ يفاعته ،مقيم في السويد منذ العام 1990 ،أصدرت له حتى الآن أكثر من عشرة كتب، ومنها طفل لم يرمِ حجراً ( دارالمنفى ) . السويد 1995، آخر حزن – شعر شعبي عراقي السويد - 1999، حيث لا ينبت النخيل - شعر – دارالمدى، اعتمدت قصيدته ( سفينة نوح ) سيناريو لفلم تسجيلي عن اللاجئين القادمين الى السويد عام 1990، لحساب قناة التلفزيون الأولى – استوكهولم . ثم ديوانه قيد دراستنا هذه ( جنوبا هي تلك المدينة .. تلك الأناشيد.) . عبد الكريم شاعر يردع النكبات التي تذهب وتجيء كي تجعله في محط الإختبار ، ورغم كل ذلك يبقى صلبا ساخرا ، يحتفظ بالحزن داخل صندوقه الخاص ، كثيرا ما يسخر من هذه الإختبارات التي ينجح بها في كل مرة منتصرا هازءاً ، لكن هذه الملمات التي تتلازم وعبدالكريم هي التي جعلت منه شاعرا فحلا يحسب له ألف حساب ، هي التي أطّرته وزججت روائعه و رفعتها على جدران المنافي البعيدة التي لم تزل ترافقه و تحفر في أحشائه ورأسه . لكل شاعر و مناضل حزنه الخاص ، لكنّ عبد الكريم له حزن مظفرالنواب( لا مو حزن لكن حزين) . الشاعر عبد الكريم هداد واحدُّ من أؤلئك الأبرار الذين وقفوا شامخين ضد إعصار الحزن القاتل ، الحزن الذي أراد من خلاله أن يكتب لنا رسالة مفادها من أنْه لابد للمرء أن يحزن لأنّ الحزن من صفات الأقوياء كحزن ( وليم والاس) الثائر الإستكتلندي في فيلم القلب الشجاع في رائعة الممثل الشهير(ميل جبسن)، الذي ظلّ حزينا لكثرةِ ما لاقاه من غدرٍ وخيانة حتى إعدامه على يد عمّه الملك وهو يصرخ بالحرية حتى الموت . ولذلك نرى عبد الكريم إتّخذ من الحزن كصندوقٍ يؤطّر به ديوانه ( جنوبا هي تلك المدينة .. تلك الأناشيد) فجعله أوّل النصوص . لنرَ ماقلناه بصدد عبد الكريم وحزنه في ثيمته الرائعة أدناه ( صندوق الحزن) : ليس لي من السخرية ما تكفي كي أردعَ هذيان اللعنة هاهو الشتاء يطرقُ بابي و صيف السماوة بعيدُّ بعيدُّ هو وطني صندوق الحزن يؤطّرني على حائطِ الغربة ـــــــــــــــــــــــــ
هناك أماكن لا يستطيع أن ْيطئها الأديب جسديا و لكنها ترتسم له في المخيلة الشاعرية، فتكوّن أماكناً لها الأثر الكبير في الخيال الإبداعي، هذا يعني في بعض الأحيان أنّه لا يهمنا الغايات و الأهداف بقدر ما يهمّنا الإثارة في الطّرق المؤدّية إلى الرّايات المنشودة و قبل وصولها، كما حصل مع كفافي وقصيدته الخالدة إيثاكا . ها هو عبد الكريم يفكّر في ردع اللعنات التي تأتي لأيّ كائن في لحظات الشرود الذهني حيث يفكّر في الوطن الأمّ العراق ( السماوة) ، ذلك الشّرود المتأتّي في ليالي الشتاء الصقيعية في البلدان الإسكندنافية التي لا يمكن للمرء أن يؤرّخ فيها لمطر أو ثلج على سبيل المثال لكثرة الأيام الماطرة والثلجية التي تستمر كثيرا وكثيرا بشكلٍ يثير الملل والجزع لدى القادم من بلاد الشرق اللاهب . ولذلك نرى الشاعر عبد الكريم مؤرّقاً في منفاه حاله حال أيّ مناضلٍ غادر الوطن قسرا نتيجة الظلم والقهر . لنقرأ ما هو الضياع في نفسيّة الشاعر من خلال نصّ ( أرخبيل منفاكْ) ..... في صدفةِ اللقاء ماذا تترك لي أمام بابِ الحنين؟؟؟ وقد أثقل قميصي ترابُ الطريق حينما... ضيعتُ منفاي في أرخبيل منفاك ــــــــــــــــــــــــــــ عبد الكريم يرجع بي إلى أيّام الصبا النزق الجميل الذي كان يلفع بخدودنا و نحن ناعمي الجوانح و التصرف و الملبس و في كل شئ، يعود بي إلى عالم المرح الخفيف بلا مسؤولية تُذكر ، حيث يدخل محمد البيت على سبيل المثال و يخرج منه وهو أبو جاسم ،يعود بي عبد الكريم إلى الحضن الدافئ، عالم أمومي بحت مجرد من أيّ علاقة أخرى ، لنر حنين الشاعر الجليّ الذي لا يحتاج إلى أي تفسير وهو يتذكر الأمومة في نصه البديع ( نشيد الله) : هي أمي كما الأمهات أرضعتني العراٌق الأحدْ وحين عصفَ الدمار تركتُها من دونِ ولدْ ــــــــــــــــ
الأم كتب عنها الكثيرون ، وغنّى لها الكثيرون ، ومنهم الشاعر الشعبي الجميل كاظم إسماعيل كاطع حين يقول ( لو تلم كل الكون ..وتجيبه يمي ...مابدلنّه بخيط ... من شيلة أمي ) . أغنية فائزة أحمد الرائعة ( ست الحبايب) والتي غناها من بعدها أشهر المطربين ، أغنية رياض أحمد التي يقول فيها (أمي أرضعتني من فراتِ حليبها .... دللول...دللول يالولد يبني ) ، أما رائعة محمود درويش فهي الطاغية حتى اليوم ( أنا لا أريد من بلادي التي عذبتني ...غير منديل أمي). يستمرّ الشاعر في نصّه معاتبا النفس لأنّه قد ترك أمه هناك حيث الدّمار الذي حلّ بالبلد ، تركها هناك باكية على فلذة كبدها و أنيسها و روحها وكلّ أشيائها . عبد الكريم على غرار مظفر النواب حين قال ( إيهٍ لهذا العمر من الفنادق لن يستريح ). هناك أشياء لا يمكن لنا أن نغفل عنها برمشة عين، ففي السفر نرى الأشياء على حقائقها، أشياء صادمة تراها أمام ناظريك، وأشياء تجعل منك كإنّك تغطّ في النعاس حتى يموت الحلم عند إستيقاظك فلا مفرّ عندها للخضوع و الاستسلام لقادمات الفجيعة، ولذلك لم يبقَ من العمر المزيد كي يذهب عبد الكريم الشاعر بعيدا إلى منافي أخرى من جرّاء ماحصل له من ملمّة ما ، الزمن لم يعد ذلك الزمن الذي يعطيه القوة الكافية على تحمل وعثاء السفر ثم الغربة التي هي الأخرى لا تطاق في عمر بات يبغي الإستقرار ، عمر بات ليس بمقدوره أن يعشق منافٍ أخرى ، لنر الشاعر في بوحه ِ الجميل حول ذلك (لم يبقَ من الوقت الكثير ) : لم يبقَ من الوقت الكثير كي أعاند الدنيا بما عاندتني وقد رشفتُ التيه مرغما و ما من خطى تكفي لأختار ما يؤنسني ..أو أحزم حقيبتي مرة خرى بعيداً ــــــــــــــــــــــــــ
(العفوية في النثر هي الأحب إليّ في الشعر ...محمود درويش ) ......... الأدباء في حالة عفوية شاملة في هذه الحياة القاسية في أغلب تفاصيلها , في جنون مدويّ عند كتابة بوحهم الغريب و العجيب، فوضى في ترتيب أشيائهم ، قلق دائم وإرتباك في إختيار قراراتهم، عدم الإستقرار، غيبوبة وغياب حتى لو كان هناك أثر للأقدام لأنّ الريح سوف تلغي كل أثر عن تلك الدروب و الأروقة التي تسجّل ذكرياتهم وما فعلوه هنا و هناك ، لكنّ الذكرى عنيدة فهي كما العنقاء باقية على مرّ العصور ، تنبثق من الرّماد ، الذكرى هي روح الإنسان على هذه الأرض ، هي الدليل المعنوي على بقاء الإنسان بين الأحبة رغم الغياب الجسدي والمادي . الذاكرة هي التي زحفت بعبد الكريم إلى التأريخ السحيق حيث ملوك سومر ، حيث شواهد الوطن، حيث الزقورة والأصدقاء واحتساءه النبيذ هناك برفقتهم . فلا مكان هنا اليوم لكسر الأحزان التي لايمكن لها أن تعيد سبك نفسها مرة أخرى فهي كما الزجاج ، لنقرأ شاعرنا الجميل في فلقته أدناه من نفس النص : حيث الملك السومري قاسمَ الخبزَ والنبيذ مع الناس ونام مرتاح البال قرب الزقورة العالية ثم يستمر فيقول: و لم يبقَ من الوقت الكثير كي أكسرَ زجاجَ الحزنِ الأسود
ـــــــــــــــــــــــــــــ ( نحن لا نملك ذكرياتنا ..ذكرياتنا هي التي تملكنا.... المخرج الإيطالي الشهير فيدركو فلليني) ذاكرة البشر يقولون عنها واهية تضمحل بعد حين ، لكنها تبدع أيّما إبداع عند الحاجة وعند الحسرات التي تخرج مع الآه ، ولذلك تأخذنا الذاكرة بصفتنا كبشر بشكلٍ عام لا بذواتنا وأسمائنا على وجه الخصوص ، ترجعنا ذاكرة عبد الكريم إالى النبيذ السومري ، إالى نبيذ سيدوري التي كرع من حانتها كلكامش وهو في طريقه إلى دلمون ، النبيذ الذي تغنى به أغلب الشعراء لأنه مبعث ُّ للسعادة والإستئناس لما فيه من قابلية على إفراز هرمون الفرح والإنشراح، لما في ديونيسيس إله الخمر من الرحمة والعطف على صدور المعدّمين . الذاكرة هي التي إستطاعت أن تحرّك في الشاعر عبد الكريم كلّ هذا الشّدو الحزين، كلّ هذه الغضاضة والأحلام والصّبا الذي إنزلق من بين أصابعه كما السمكة الصغيرة،هذا يعني لا بدّ له في الخطوة التالية أن يقبض جيدا على أصابعه كي ما تنزلق السعادة منه كما إنزلاق الزئبق، و لذلك الشاعرعبد الكريم وأثناء ارهاصٍ شديد تصوّر نفسه عائدا إلى تلك الدّيار التي أصبحت في غياهب المنال فراح يكسر الحزن ( كي أكسّر زجاج الحزن الأسود ) قبل إنفلات الأمر منه . تعبير رائع حيث لا يمكن لنا إعادة سبك الزجاج إذا ما انكسر، لذلك الشاعر ولّى وجهته صوب الجنوب .. إلى السماوة ..إلى الأناشيد... كي ترتاح النفس الصادية من عذابات المنفى كما نقرأ أدناه تلك الأحاسيس الواخزة في النص الحزين ، النص الباكي على أطلالٍ لا يمكن لها أن ترمّم ذاتها من جديد و ترجعُ مثلما كانت عليه ، لأنّها خراب أينما حلّ في هذا الوجود ، النص الذي حمل موسومية الديوان (جنوبا هي تلك المدينة ..هي تلك الأناشيد) حيث يقول : لقد أرهقني الوله الأخف من تلك البلاد وتلك المدينة العارية بازدام الشموس و الصباحات المستيقظة من دون ساعة التنبيه .
ثم يستمر الشاعر في نفس النص فيقول :
لقد إحتسى الحزنُ فرحي في أولفنجانٍللقهوة فرحاً... لم يأتِ به البختُ بين كفي ساحر ولم يصلِّ لأجلهِ الكاهن على عتبة المعبدِ القديم وانت في منفاك وحدك المأسور ــــــــــــــــــــــــــــــ يتبـــــــــــــــــــــع في الجـــــــزء الثأنـــــــــــــــــــــــــاني |