وسع خطواته استعدادا للفرار، رجل في العقد الخامس من العمر، اثار ذلك استغراب المارة في الشارع الذي تطل عليه بوابة المحافظة الخارجية....هو من سكان الزمن الجميل ، فيما كان الصدق مقياسا لشخصية الانسان ومصداقية العائلة والناس ، الكلمة لا تطلق الا لهدف منشود ، تصيبه في العمق ولا تطيش او تخطيء ابدا ، صاحبها يحترمها ، فاحترامه مشدود بطرف كلمته ، هو رام ماهر ، محترف ولا يطلقها في الفراغ ، او دون هدف او معنى ، بساطة اهله وحبهم لبعضهم هي السياسة الوحيدة التي تربطهم بالزي الازرق والقانون ..... كانت القانون و الحاكم العادل ، محترم فينا ، لم انسى شكله لحد الان بقدر ما نظرت في صورته المختزنة في صندوق جدتي حتى غيبها الموت ، و بقيت الصورة خالدة في بيتنا ، حد اطلاق القول ، واتذكر دوما ولا انسى ما حييت حكاية ابي ، التي تحضر في خاطري عند مرأى رجل الشرطة او حكاية تتعلق بتنفيذ القانون.... يقول ، يأتي رجل الشرطة على حصان الى القرية ، لملاحقة مخترقي القانون ، فما عليه الا ان يجلس في مضافة شيخ القرية ، يأكل ويشرب وينام ، ويتولى رجال الشيخ ملاحقة المتخلفين عن اداء الخدمة الالزامية او اصحاب الجنح والمخالفات والجرائم ، حتى يأتون بهم الى رجل الشرطة الذي يشدهم بخيط رفيع خلف حصانه و يمسك طرفه ، يسحبهم بهذا الخيط الرفيع حتى بلوغ المدينة ، واذا انقطع ، تقوم الدنيا وتقعد ، على رؤوسهم ، فعليهم ان يحافظوا على سلامة حتى بلوغهم مركز شرطة المدينة....
هو دأب الفقراء في تاريخ هذا البلد الامين ، الذي يعطي دوما ولا يأخذ ، احترام القانون بهذا الشكل ، فكان للقانون قدسية واحترام لا يتحمله ، اليوم ، ساسة الصدفة والالتصاق وحتى لا يتصوروه في احلامهم ، مادام الواحد منهم يجد الناس صغارا حين ينظر من مكانته العالية الفارغة من الاخلاق والمسؤولية ، ولا يدري ان سقطته ستكون اشد من سقطة عطيل وهاملت نحت اقدام الخيانة والغدر...!
هو فقير منا ، كرمه المحافظ يوما ، بمبلغ من المال ، لا تدري كم يكون ذاك الفعل كبيرا عند فقير لا يملك حتى قوت يومه ، وما اكثر الفقراء فينا.... ذهب الرجل ، وقدماه لا تمس الارض من شدة الفرح....يتمتم بكلمات غير مفهومة له ومن يسترق السمع ، لا يدرك منها شيئا حتى لو سمعها حرفيا ، لقد اختلط ما فوق لسانه بما في داخل رأسه ، من احلام وحسابات وكأنه امتلك كنوز سليمان و مغارة علاء الدين ومصباحه السحري .....!!
ازدحم راسه بألاف الخطط والمتاهات والفواتير والمشتريات ، لصرف هذا المبلغ الافتراضي على حاجاته الغير قابلة للعد والاحصاء ، اظن ان حواسيب العالم تعجز عن تصريف فواتيره المفترضة ، يسير بطريقه وهو يعد اصابعه ويكلم نفسه كالمخبول ، مرة يعثر واخرى يصدم احدهم او عمود كهرباء ويعتذر للعمود ، فهو لا يفرق بين البشر والعمود ، فالصدمة اعتى من ما في عقله ، فقد افقدته حواسه الخمسة لكثرة فوضى الصراعات المحتدمة في مخيلته ، وصل الرجل اخيرا امين الصندوق المدعو الاستاذ (زعيط) فسلمه صك الثروة ، صرفه له ، واستقطع ربع المبلغ حصة الضريبة ، بكلمات ثقيلة كثقل الكرسي وطاولة الدائرة الرسمية....
يقال والعهدة على الراوي ، انهما مسكونان من جن او أرواح شريرة ، لان الموظف وخصوصا الموظفة الذي او التي يعتليهما ، يتعكر مزاجه سريعا فيعامل المراجع بجفاء وخشونة غير مبررة ، فتراه يحكي معه ليس من فمه بل من مكان آخر ، وينسى انه سيعامل نفس المعاملة حين يراجع دائرة اخرى غير دائرته ، وهذا التصرف المنحرف البغيض ، سر من اسرار الطبيعة البشرية لا يعرفه احد ولا يدرك تخومه اعتى علماء وفلاسفة علم النفس وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا ، لكننا بشر، وطبع البشر مرتبط بالشيطان فهو المخلوق الثاني الذي عصى الله بعد الشيطان ثم تبعه ، منذ استهلال الخليقة....
اشارة بيروقراطية تحيطها العظمة والجبروت من أصبع الاستاذ(زعيط) ، قذفت بهذا المسكين نحو مراجعة امبراطور آخر يدعى الاستاذ (بعيط) لاستيفاء اجور الماء ، وسدد الرجل الربع الثاني من المبلغ ، وقبل ان يذهب استوقفه هذا الموظف واشار له بالذهاب نحو الاستاذ (جعيط) ليسدد قائمة الكهرباء ، وفعل المسكين ودفع الريع الثالث من المكرمة ، التي لم يعرف عنها شيئا لحد الآن ، وقبل ان يذهب نصحه موظف الكهرباء ان يذهب الى الاستاذ (معيط) ليسدد قائمة الهاتف ، وفعل الرجل ذلك وسدد الريع الأخير من المبلغ ، وبدلا ان يعود الى امين الصندوق الاستاذ ( زعيط ) ليعرف جوهر الحكاية ويكمل اجراءات المكرمة ، اختلس خطواته وانزلق نحو الباب الخارجي لبناية المحافظة ، وهو يرتجف من الخوف و مأخوذا بما يحدث ، يتلفت يمينا وشمالا خوفا من استيفاء ملابسه ثمنا لقائمة اخرى لم تظهر بعد.......ربما فاتورة لشم نسيم المسؤول......و بتلك الطريق اللائقة والحضارية يعامل المحظوظون من الفقراء في بلادنا....فما بالك بمن ليس له حظ ولا مورد رزق او معيل او قوت يوم.....وهكذا بنيت امبراطورية الصفيح.....