قراءة في مسرحية " وعاشوا عيشة سعيدة " للكاتب علي عبد النبي الزيدي

 

قدم لنا الكاتب المسرحي العراقي علي عبد النبي الزيدي مسرحية بعنوان" وعاشوا عيشة سعيدة " ناقشت احد المشاكل التي تعاني منها المرأة في المجتمع وخصوصا في زمن الحروب، وتمحورت احداثها حول فكرة الانتظار، والمسرحية  تنتمي للمسرح اللامعول او مسرح العبث ، والنص يناقش موضوع العنوسة في العراق يقدمه الكاتب باربع شخصيات عوانس فاتهنن قطار العمر.

نص مسرحية الزيدي يبدأ في صالون تجميل العرائس حيث تستعد فتاتين للزفاف يحملن فساتين المناسبة البيضاء. الفتاتان في حالة ترقب وبين الحين والاخر تهرعان الى طرف الخشبة حيث يصدر صوت منبه السيارة التي يفترض ان تكون سيارة العريس المرتقب ، وفي كل مرة يتلاشى ذلك الامل وهن يسمعن صوت رحيل السيارة فيدب اليأس من جديد في نفسيهما .

 الكاتب المسرحي التزم بوحدة المكان والزمان فجميع احداث المسرحية تدور في صالون للحلاقة وتقع الاحداث في ليلة واحدة وهي التي اطلق عليها بليلة الزواج ، الزواج الذي لم يتحقق.

الحوار الرئيس الذي دار بين العروستين استمر على شكل جدل حول ايهما تجلس على كرسي الكوافير اولا استعدادا للزواج . من خلال هذا الحوار والجدل تتكلم الشخصيتان عن المشكلة التي يعانيان منها وهي العنوسة ، رغم ان الشخصيتان قد استخدمتا ما يجب فعله من طقوس دينية مثل الصلاة والدعاء الا ان العريس لم ياتي. العروستان اظهرتا الالم الذي تعانيانه من خلال الانتظار الطويل، وهن متشابهتان في كثير من الاشياء ومنها طريقة التفكير وتغير معالم الشباب والاحباط الذي تعيشانه وحتى في الكذب وطريقة الكلام والتي عبرعنها بتكرار نفس الكلمات.

عروس1 :      شكرا لك ِ( تتجه الى المرآة ، تتلمس وجهها ) هل تعلمين بأنني لا أحبُ وجهي في المرآة ؟ لا أحبه ، كأنه ليس بوجهي ( تقف مسرعة أمام المرآة ، تمثل مع وجهها ) " من عابت هل الشكل ، هو هذا وجه  بله ؟"

عروس2 :      سبحان الله .. عندما أقفُ أمام المرآة أرددُ نفس الكلمات ( تردد ) لا أحب وجهي في المرآة ! ( تقف مسرعة أمام المرآة ، تمثل مع وجهها ) " من عابت هل الشكل ، هو هذا وجه بله ؟

 

صاحبة الكوافيرة هي الاخرى تعاني من العنوسة الا انها تخدع نفسها بان هناك زوج ينتظرها وهي تتمنى ان ياتي اليوم الذي تجلس على كرسي الكوافير لتتهيأ لزوج.

اما عاملة الكوافيرة فهي عانس ايضا ولم يمنعها استغفارها المتكرر من ان تحضى بزوج يسعدها فهي ايضا قد فاتها كل القطارات وعملها لم يتغير منذ زمن بعيد فهي :

:     تكنس هنا منذ عشرين عاما .. تكنس الألوان والوجوه والأحلام والذكريات والكلمات والرغبات والأكاذيب معا" 

ليس فقط جميع الشخصيات في المسرحية تعاني من مشكلة العنوسة؛ وانما حتى الشخصيات اللاتي يتم استدعائهن للنص تعاني من نفس المشكلة .وبما ان الكاتب لم يسمِ شخصياته فانه يريد ان يبين للمتلقي ان شخصياته شمولية ولا تمثل نفسها وانما تمثل شريحة واسعة من النساء اللاتي يعانين من العنوسة.

 

قبل نهاية المسرحية تحضى العروستان بالجلوس على الكرسي وتقوم صاحبة الكوافير "بترميم" وجهيهما ، وتسريح شعريهما الذي يحتاج الى تبديل بأخر مستعار، وترتدي العروستان فساتين الزفاف البيض  الا ان سيارات الزفاف لم تتوقف عند باب صالون الكوافير حتى يتناصف الليل فيتلاشى الامل من جديد ويدب الياس ويخلعان اثواب الزفاف البيض فتظهر اثوابهما السود التي تحت ثوب الزفاف لتنتهي قصه الامل ويبقى حال الشخصيات جميعها كما بدا   .

من خلال قراءة النص تظهر الرتابه في فعل الاشياء فعاملة الصالون مثلاً تقوم بدور الكنس المستمر وهي غير مكترثه لحديث الفتاتين المتلهفتين والمستعدتين الى حدث كبير وهو الزواج ، فهذا الحدث لم يجعل العاملة تلتفت حتى ولم يقطع عليها عملها المعتاد لان هذه الكلمات والمشاعر هي مكررة وقد سئمت من سماعها من زبائن اخريات من دون جدوى.

استخدم الكاتب ابيات غنايئة قصيرة تكررت على لسان العروستين .والغناء هو صوره  اوتعبير عن الشجن الذي يعيشه الفرد وخصوصا في المجتمع الذي يكتب عنه علي الزيدي، وغالبا ما يطفو هذا الشجن على شكل غناء  يتحول الى نوح ولطم :

( عروس2 تشاركها الغناء ، تغنيان بفرح عارم ولكن سرعان ما يتحول هذا الغناء الى ألم ، يتغير لحنه ، ينتهي ببكاء مر ، لطم ،  نشيج

والغناء هو نوع من الفن والعروس في المسرحية تغني بالكلمات التي تدل على العتاب ،والغياب ، ومخاطبة الشخص المخَلِص والحبيب وهذا هو الاساس الذي تبتني عليه فكرة الانتظار. ومما اعطى استخدام الغناء في النص جمالية اكثر وتوظيف جيد ان الابيات الغنائية كتبت باللهجة العامية

عروس1:     ( تغني ) " هذا مو إنصاف منك    ..   غيبتك هلكد تطول

                                 والناس لو تنشدني عنك  ..   شرد أجاوبهم شكول "                      

شخصيات الزيدي في هذه المسرحية لم يتم تسميتها ، وهذا نهج معروف عن الكتّاب عندما يريدون ان يجعلوا النص اكثر شموليه وان الاشخاص على خشبة المسرح يمثلون طيفا واسعا من الناس الذين يعانون نفس المشكلة.

ان التيه الذي يعيشه الفرد في المجتمع جعل العروستين تجهلان صاحبة الكوافير الحقيقية ويحدث هناك خطأ في تشخيص الافراد فكل واحدة منهن كانت تضن ان الاخرى هي صاحبه صالون الكوافير حتى انزاحت العتمه عندما قالت العاملة ان صاحبة الكوافير سوف تاتي .

 

 

في مسرحية الزيدي اظهار واضح لاثار الحروب المستمرة والتي سحقت الشباب وخلفت النساء العوانس والارامل والايتام وقد رسمت تلك السنين تجاعيدها على العروستين.

 " وجهيكما يشير بأنكما بقايا من تلك الحرائق "

والدمار الذي حل بشخوص المسرحية كان كبيرا, وهؤلاء الشخوص يدركون ذلك فالعروس تطلب من صاحبة الصالون ترميم وجهها وان"تعيدي شباب هذا الوجه"  بينما الاخيرة ترد" سأحاول مع هذه الكارثة"

    لا أملك سواه .. أريدك أن تعيدي شباب هذا الوجه من أجله

الكوافيرة :      من هو ؟

عروس1  :      حبيبي .. عريسي داده .

الكوافيرة :      ( تتفحص وجه عروس1 ) سأحاول مع هذه الكارثة .

عروس1:       ( تتلمس وجهها ) كارثة ؟ أرجوك أن تسرعي .

الكوافيرة :      وكيف أسرع مع عروس تحتاج الى وجه جديد  ؟

 

اما الشجار الذي نشأ بينهما فهو صورة واضحه ومعبره لانقسام المجتمع وللمشاكل التي يمر بها والتي خلفتها تلك الحروب وندرة فرص الزواج نتيجة لقلة الرجال الذي استدخدموا وقودا للحروب وشحة الافراح في المجتمع .

"الزيدي" وظّف جهاز الموبايل كاداة مساعدة لربط الشخص بالامل تارة وبالياس اخرى؛ فمن خلال الرسالة النصية التي ارسلها الخطيب لعروسته يدب الامل في نفسها ، ولكن يتلاشى هذا الامل ويعود الياس والحزن عندما يرد المجيب الالي لجهاز الهاتف النقال بان المشترك لا يرد او ان المشترك مشغول حاليا او انه خارج منطقة التغطية وهذه الرسالة تقطع اوتار الامل التي وعدها بها الزوج بالحياة السعيدة .

 كل النساء في المسرحية عوانس او ارامل قد فاتهن " قطار الساعة الثامنة مساء والتاسعة مساء والعاشرة ، قطار منتصف الليل ، قطار الليالي الذي لا يؤدي الى النهارات ، قطار حتى مطلع الفجر ، قطار القيامة ، "  والبسبب ..  "  إنها الحرب لا تأخذه سوى العاشقين "

والشخصيات فقدت شخصياتها فهذي عاملة الصالون تقول :  " أخذته الحرب وأخذت أنوثتي معها ، تخيلا امرأة بلا أنوثة ! لاشيء ، حجارة ولها عيون ، لم أعد أعرف هل أنا امرأة حقا أم أنني رجل أدركته حرفة الأنوثة متأخرا "

وهذه العروس الاولى فقدت عقلها . وحتى النساء اللاتي يتم استدعائها لمخيلة الجمهور على لسان شخوص المسرحية قد فقدن شخصيتهن وتحولن اما الى عقل لا يفكر (الجنون) او قلب لا يحب مجرد مضخة دم ،اما وجوههن واجسادهن فهي " يابسه"  بكل تفاصيلها .

 "  أنا أكبر مجنونة في هذا العالم ، كبيرة ، ماذا يعني ؟ أحب أن أكون مجنونة ، الجنون أن ترى الأشياء على حقيقتها ! لذلك أنا مجنونة بنت مجنونة بنت مجنونة ، أختي التي تكبرني بعامين كانت مجنونة أيضا ، جارتي الطيبة .. كانت بناتها كلهن مجنونات ، ولكن تخيلوا .. الأم لم تكن مجنونة ( تؤكد ) جارتي ، ولكنها في آخر عمرها تحولت الى أكبر مجنونة في هذا العالم "

 الشخصيات في المسرحية عاجزة عن ايجاد الحل ولا تستطيع تغيير واقعها، ولا دليل اكبر من ان كلا العروستين تقولان " قد بنت إحدى الحمامات عشها فوق رأسي دون أن أدري " ورغم كل ذلك لا حل لدى تلك الشخصيات سوى الانتظار.

الكوافيرة :     ماذا يمكن أن افعل لكل هذا الجنون هنا ؟ ( لعروس 1 و2 ) سأطردكما معا إن لم تجدا حلا سريعا .

عروس1 :    حلا ؟ ماذا تعنين ؟ السنوات أكلت من تفاصيل وجهي ما يكفي ، من هذا القلب ، من روحي ، من عتبة بيتي التي انتظرته فيها وقد بنت إحدى الحمامات عشها فوق رأسي دون أن أدري .. وتريدين مني حلا ؟

الكوافيرة :     ( مع نفسها ) لماذا عليّ دائما أن أقع في هذه المهزلة ؟!

عروس2 :    نفسها السنوات التي أكلت منك .. أكلتني ، التهمتني ، ونفسها الحمامة التي بنت عشها فوق رأسك طلبت مني أن تبني عشا آخر فوق رأسي ، وفي آخر الحب .. انظري الى هذا الوجه الذي لا يشبهني ، لا أعرفه ولا يعرفني"

اما الوقت فانه يمر بسرعه ولا احد يستطيع ان يوقفه

 (لكوافيرة :    حاولي أن توقفي الليل .. أعني أوقفي سيارات الزفاف ، افعلي أي شيء )

 

الزيدي كشف اسرار العروستين فيما يخص الكبت الجنسي الذي كانت تلك العروستين تعانيان منه وهن يمارسن اعمال لا اخلاقية للتخفيف من حالة الكبت الجنسي بسبب تاخر العروستين عن الزواج ، وتكلم بما هو محضور اجتماعيا من ان يتم البوح به حتى في مجالس النساء وهو بهذا يذكرنا بـ (دي ايج لورنس)  وهو اول كاتب انكليزي كتب روايات في هذا الاطار مثل ( عشيق السيدة جاترلي ) و( ابناء واحباب) وجاء هذا الافصاح على لسان العروستين وتم تقديمه بصوره تهكمية او ساخرة :

عروس2 :    ( لعاملة الصالون ، تضحك معها ) سأقول لك احد أسراري الذي لا تعلمه سوى بعض النسوة، أعني ربما القليلات ، صديقاتي وجاراتي وجارات جاراتي ووووو ...  وربما صديقات صديقاتي ، قد تعرفه بعض الـ ، لا يهم لا يهم ، سأقول لك هذا السر ، اسمعي : لقد مللت من الوسادة التي تنام بجانبي   ( تضحك أكثر ، بخجل ) لا تقولي لأي   أحد ، أرجوك ، مللت منها ، من حقي ، يبووووي ، في هذه الليلة لن أسمح أن تكون هناك وسادة أبدا ، أودعها للأبد ، سـ .. سـ .. سأتوسده وأنام ، أو يتوسدني ، آخ من دفئه ، ألف آخ وآخ وآخ ، أريد أن أغفو على صدره بحجم الليالي التي انتظرته فيها ، أو بحجم النجوم التي كنت أعدها نجمة نجمة قبل أن أنام .

وفي بعض الموارد نجد الزيدي يخرج قليلاً عن الموروث الاسلامي من حيث التسليم المطلق لتدبير الرب،  ونراه ينحاز للشخصية التي تعارض التعاليم السماوية اذا كانت تلك الشخصية وقع عليها الضيم فتلك التي تعاتب ربها لعدم استجابه الدعاء واخرى لا تعتبر الانتحار جريمه فهي  حرة في قتل نفسها وتاره لا تخجل من بيان شذوذها الجنسي عندما تحتضن الوسادة وتجعلها بمثابه الزوج وهكذا ..

عروس1 :    هذه هي النهاية ، سأموت في صالون العرائس كما تنبأت بذلك جارتنا التي تكشف طالعي دائما ( تصرخ بهما ) سأعد من الواحد الى الثلاثة وبعدها أضرب بطني بهذا المقص .

عروس2 :    اطعني بطنك اطعنيها ...

الكوافيرة :     لالالا لا تفعلي ذلك .. أرجوك .. عندما تنتحرين ستذهبين الى النار .

عروس1 :    نار الحياة هنا لا تطاق .. هناك أرحم .

الكوافيرة :     لن يرحمك الله .

عروس1 :    لم أفعل شيئا حتى لا يرحمني .. إنها روحي وأنا حرة فيها

 

ان فكرة الانتظارقد تجذرت في النص وقد برزّها الكاتب بصورة رائعة على لسان العروس الاولى :

" السنوات أكلت من تفاصيل وجهي ما يكفي ، من هذا القلب ، من روحي ، من عتبة بيتي التي انتظرته فيها وقد بنت إحدى الحمامات عشها فوق رأسي دون أن أدري ..  "

ويبدوا ان هذا القدر مشترك لجميع النساء اللاتي تشابهن حتى في طريقة الانتظار وهذا ما تقوله العروس الثانية :

"    نفسها السنوات التي أكلت منك .. أكلتني ، التهمتني ، ونفسها الحمامة التي بنت عشها فوق رأسك طلبت مني أن تبني عشا آخر فوق رأسي ، وفي آخر الحب .. انظري الى هذا الوجه الذي لا يشبهني ، لا أعرفه ولا يعرفني

 

العمل المسرحي الذي كتبه علي عبد النبي الزيدي يعطي تصورا واضحا، الى حد ما، على الماساة التي تعيشها النساء العوانس في المجتمع العراقي ، ويبعث في قلب المتلقي حرقة لتلافي هذا الواقع  وهو رسالة يريد ان يوصلها الكاتب الى تجار الحروب بان اوقفوا مسرحياتكم  وانصتوا الى شخوص هذه المسرحيه وانظروا الى المعانات التي عانت ولازالت تعاني منها النساء العراقيات ، وان المتلقي للنص سوف يجد نفسه منحازا للنساء في هذه المسرحيه .