سيمياء العنوان في (قافلة العطش) لسناء شعلان ..بقلم/ د. ضياء غني العبودي

 

ا.د. ضياء غني العبودي / العراق / جامعة ذي قار

م.باحث رائد جميل عكلو/ العراق / جامعة ذي قار

 

عتبة العنوان في مجموعة 

ارض الحكايا لسناء شعلان

 

ملخص اللغة العربية  

   تشكل العنونة بابا مهما من أبواب الدراسات النقدية الحديثة التي طرقها النقاد بأطراف أقلامهم فتنبه إليها أصحاب النصوص الأدبية، فأصبحت في نصوصهم فنا وصناعة بعد ان كان العنوان لا يعطى تلك الأهمية من قبل منشيء هذه النصوص من جهة ومن النقاد من جهة أخرى،  فصار لا يقل أهمية من النص نفسه . ونحن عندما نقرأ عنوانا يتكون من لفظة أو لفظتين فانه بهذه الخاصية والميزة يستطيع ان يصف أو يختصر لنا الطريق إلى ذلك النص ، وتحديده من الضياع وعدم التحديد في ذهن المتلقي. وفي ضوء أهمية العنوان جاءت هذه الدراسة لتسبر أغوار العنوان في مجموعة (( قافلة العطش )) لسناء شعلان .

 

Abstract

The title considers one of the important aspects in modern critical studies that is taken by the writers of the literary texts, where those texts became good literature inspite of this title was meaningless in the past on the hand while nowadays it became important on the other hand.
When we read a word or two words, we can sail through the text safely. So the importance of the title is necessary in A collection : Convoy of Thirst for Sana Al- Shalan.

 

          

 

المقدمة

 

 

تعد دراسة العنوان ــ سواء في الشعر أم في السرد ــ معلما بارزا ً من معالم المنهج السيميائي على خلفية أن العنوان هوية النص التي يمكن أن يختزل فيها معانيه ودلالته المختلفة, بل حتى مرجعياته وإيدولوجيته ومدى قدرة مبدع النص على اختيار العنوان المغري والمدهش, والممثل لنصه(1). لهذا السبب عد العنوان من أهم عناصر النص الموازي التي تسيج النص, وكذا المدخل الذي يلج خلاله القارئ إلى حظيرة النص,إذ يحتل العنوان الصدارة في الفضاء النصي  للعمل الأدبي  فيتمتع بأولية المتلقي(2).   

وقد وصفت السيميائيات بأنها العلم العام لكل أنساق التواصل اللسانية وغير اللسانية ,فهي نشاط معرفي  بالغ الخصوصية من حيث أصوله وامتداداته ومن حيث مردوديته وأساليبه التحليلية , له علاقة بمجموعة من الحقول المعرفية  مثل: اللسانيات والفلسفة والمنطق والتحليل النفسي والأنثرويولوجيا , كما أن موضوعه غير محدد في مجال بعينه , وإنما السيميائيات  أداة لقراءة السلوك الإنساني في مظاهره المختلفة بدءا ً بالانفعالات البسيطة ومرورا ً بالطقوس الاجتماعية وانتهاء بالأنساق الايدولوجية الكبرى(3) وقد أصبحت السيميائية مدينة  لبيرس الذي يعرفها بأنها النظرية الصورية للعلامات , ويمكن القول بصورة تبسيطية مع جون كلود مينجور بأن مشروع بيرس قد تمثل في الوصف الصوري للآليات إنتاج الدلالة  وإقامة تصنيف للعلامات, وقد ربط بيرس  العلامة بالمنطق بحيث يمكن تعريفها  من هذا المنظور بأنها النظرية العامة للعلامات وتمفصلها في الذهن, وقد كان يقصد بالعلامة  كل ما يقوم بتبليغ مفهوم محدد عن موضوع بأي شكل كان(4), إذ  كانت رؤية الفلسفة السيميائية للنصوص رؤية ذات خيار معرفي جديد ثوري  ومندفع؛ لانها انتبهت إلى المتغيرات التي طرأت على أنساب المعرفة وأنساقها (( فالمعرفة فيما مضى ركزت على السماع وثقافة الإذن, أما عصرنا فقد أضاف عنصرا ً جديدا ً يتكامل مع الأول ويعنيه, وهو عالم الصورة وثقافة العين , لاسيما ما نشهده من عملقة تكنولوجية في الميادين المختلفة , حتى أصبحت سلاحا ً استراتيجيا ً قد يتحكم في مصيره في هذا الزمن الموصوف بالعولمة التي تعمل على إعادة تشكيل العالم وصياغته فكريا ً واقتصاديا ً وإعلاميا ً وثقافيا ً(5) . 

 

العنوان لغة وأسلوبا ً:

 

إذا قمنا باستنطاق المدونة اللغوية العربية القديمة , لاسيما بعدها المعجمي والدلالي وجدنا ثلاث ثيمات لغوية في المعجم العربي له ارتباط وثيق بدلالة العنوان, ولعل قراءة المنتج العربي القديم قراءة متأنية  فاحصة تثبت أن الثقافة العربية القديمة بما أنتجت من معارف كانت إفرازا ً للواقع المجتمعي ببعده المعرفي , وذلك أن النصوص الأدبية بجميع أنواعها إنما تشكلت في ثقافة الواقع وواقع الثقافة(6 )؛ لأن العلاقة بين النص والثقافة علاقة جدلية تتجاوز كل الأطروحات الايدولوجية في ثقافتنا المعاصرة عن النص(7), وهذه المواد المعجمية هي كالآتي:

1ــ عنن:  (( عنَّ الشيء يعِنُّ ويَعُنُّ عننا ً وعنونا ً, ظهر أمامك , وعنَّ يَعٌنَّ عنّا وعُنونا ً وأعتنَّ, اعترض وعَرَضَ, ومنه قول امرئ القيس:

فعنّ لنا سربٌ كأن نعاجه, والاعتنان الاعتراض, وكذلك العنن من عن ّ الشيء ــ أي اعترض ــ وعنت الكتاب واعنته لكذا ـ أي عرضته له و صرفته إليه ــ ويقال للرجل الذي يَعْرض ولا يصَّرح, قد جعل كذا وكذا عناوانا ً لحاجته , وانشد:

وتعرف في عنوانها بعض لحنها      وفي جوفها تحكي الدواهيا

قال ابن بري: والعنوان الأثر , قال, سوار بن المضرَّب

وحاجة دون أخرى قد أستحق بها      جعلتها للتي أخفيت عنوانا(8)

2ــ عنا: عنت الارض تعنو وعنوا ً وتعني أيضا ً. وأعننته أظهرته, وعنوت الشيء أ خرجته, قال ذو الرِّمة:

ولم يبق بالخلصاء مما عنت به      من الرطب إلا ّ يبسها وهجيرها

ويقال: عنيت فلانا ً عينا ً أي قصدته , ومن تعني بقولك أي من تقصد, وعنوان الكتاب مشتق فيما ذكروا من المعنى وفيه لغات, عنونت , وعنَّنت, قال الأخفش: عنون الكتاب , وأعنَّه, وأنشد يونس:

فطن الكتاب إذا أردت جوابه      وأعن الكتاب لكي يُسرَّ ويكتما

قال ابن سيدة: العُنوان والعِنوان سمة الكتاب, وعنونه عنونة وعِنوانا ً , وعنّاه كلاهما, وسمة العنوان(9)  

3ــ علن: عُلوان الكتاب, يجوز أن يكون فعله فعولت من العلانية, يقال, علونت الكتاب إذا عنونته , وعُلوان الكتاب: عنوانه.(10) إن المتمعن في البيانات المعجمية سوف يعزز لنا النوى الدلالية المحركة للنشاط الدلالي للعنوان, أو العلوان, أو العنان, وذلك في انساق تنتظم فيها الدلالات الأساسية, وكما رسخها محمد فكري الجزار, على النحو التالي 

1ــ الظهور العلانية(( عن َّ, علن).

2ــ الإرادة, القصد, المعنى.(( عن ّ,. عنا).

3ــ الأثر , السمة, ( عن َّ, عنا )(11)

4ــ الاعتراض , العرض, التعريض, وعدم التصريح.

5ــ الاستدلال(12).

 

العنوان في المصطلح النقدي.

 

لعل نظام العولمة وفلسفتها التواصلية أخرجت المصطلح النقدي من قمقم القومية المحلية, إلى كرنفال العالمية , فالمصطلح النقدي الذي ينشأ في بيئة نقدية معينة, تسهم كل الثقافات العالمية في إنتاجه, ولهذا أصبح المصطلح النقدي نتاج مشاركة عالمية تحتضنها نظرية الأدب العالمية. ولم يخرج مصطلح العنوان من هذا السياق, بوصفه مصطلحا ً إشكاليا ً من حيث الاصطلاح والتعريف, ولم يكن اهتمام السيمياء بالعنوان اعتباطيا ً , ولا من قبيل الصدفة , بل لكون العنوان ضرورة كتابية, جعلت منه مصطلحا ً إجرائيا ًناجحا ً في مقاربة النص الأدبي , ومفتاحا ً أساسيا ً يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويله (13), وقد تعددت التعاريف التي توضح مفهوم العنوان , وكان لكل تعريف مرجعيته الفلسفية ورؤيته النقدية الخاصة به, ومن هذه التعاريف التي نتبنى وجهة نظرها التي حملها النقاد تلك النصوص التعريفية, ومن أهمها:العنوان  مجموع العلامات اللسانية , كلمات مفردة جمل, التي يمكن أن تدرج على رأس كل نص لتحدده, وتدل على محتواه العام, وتغري الجمهور المقصود , فالعنوان عند ليو هوك يحظى باهتمام بالغ, نظرا ً لكونه أكبر ما في القصيدة, إذ له الصدارة ويبرز متميزا ً بشكله وحجمه(14), والعنوان هو رسالة لغوية تعرف بهوية النص , وتحدد موضوعه , وتجذب القارئ إليه, وتغويه به, وهي بعد ذلك نظام دلالي رامز له بنيته السطحية , ومستواه العميق مثله مثل النص تماما ً(15)  , وهو حمولة مكثفة من الإشارات والشفرات التي أن أكتشفها القارئ وجدها تطغى على النص كله, فيكون العنوان مع صغر حجمه نصا ً موازيا ً ونوعا ً من أنواع التعالي النصي, الذي يحدد مسار القراءة التي يمكن لها أن تبدأ من الرؤية الأولى للكتاب , انطلاقاً من العنوان ولوحة الغلاف ,وشكل الكتاب(16)  في حين يرى سعيد علوش في العنوان مقطعا لغويا أقل من الجملة , نصا ً أو عملا ً فنيا ً(17)  , والملاحظ على التعريف أنه يضع العنوان في اللغة على الإطلاق سواء أكانت هذه اللغة بوصفها نظاما ً من العلامات ملفوظة أم غير ملفوظة , ليدخل كل أنواع العنوانات في التعريف بما فيها علامات الاستفهام  والتعجب والبيان واللوحات وغيرها,إلا ان قوله (( أقل من جملة )) تحديد لا دليل عليه(18)  أما بارت فيعرفه(( عبارة عن أنظمة دلالية سيمولوجية تحمل  في طياتها قيما ً أخلاقية  واجتماعية أيدولوجية))(19) وبعده شعيب خليفي  عد العنوان شبكة دلالية بدلا ً من أنظمة دلالية عند بارت فيقول خليفي: العنوان شبكة دلالية يفتتح بها النص ويؤسس لنقطة الانطلاق الطبيعية فيه(20) ,ويعرفه خالد حسين (( انه تسمية للنص وتعريف به  وكشف له وعلامة سيميائية تمارس فعل التدليل ويتموقع على الحد الفاصل بين النص والعالم(21) 

 

العنوان والسرد:

 

السرد فعل قار في الكينونة الإنسانية, بل إن السرد  في لعبة مزدوجة من المطاردة , عالمان لا يؤولان إلا ويكون كل منهما تأويلا ً للآخر, ولذلك كان السرد عنوان الكينونة في القبض على الوضعيات المتعلقة بهذه الكينونة من حال إلى حال , ومن صيرورة إلى أخرى؛ذلك لان (( قصص العالم لا حصر له , وان القصص على اختلاف أشكاله التي لا حد لها تقريبا , ماثل في كل زمان وفي كل مكان وفي كل مجتمع, والقصص يبدأ مع تاريخ البشرية بالذات , ولا نجد ولم نجد شعبا في أي مكان لا قصص لديه ولكل الطبقات ولكل الجماعات البشرية قصصها, والقصص أممي عبر التاريخ والثقافات وهو موجود منذ وجدت الحياة ))(22), ومن هنا تعددت اختلافات السرد خطابيا ً, ففي مجال السرد اللفظي وحده, نجد روايات وقصصا ً خيالية , وروايات قصيرة , وقصصا ً قصيرة , وتاريخا ً وسيرا ً , وسيرة ذاتية, وملاحم وأساطير , وقصصا ً شعبيا ً, وأغاني شعبية,ة وقصصا ً خرافية   وتقارير إخبارية )(23), ولعل السرد العربي يستمد قوته وديمومته من عراقة العنونة فيه, فالمرويات الكبرى, القرآن, كليلة ودمنة, ألف ليلية وليلة, المقامات , رسالة الغفران, رسالة التوابع والزوابع, تجعل من السرود المعاصرة تتمتع بإرث ثري في مجال التسمية , حتى وإن كانت الأنواع السردية المعاصرة : القصة القصيرة , السيرة الذاتية, الرواية, انتقلت إلى الفضاء العربي نتيجة التثاقف والترجمة ,فإن العنونة في مجال المرويات السردية التراثية غدت رأس مال للسردية المعاصرة , يتناص معها  السارد المعاصر  ويتقاطع, فالعنونة في السرد تقليد وسمة وقانون, حتى أصبحت مقاربة العنوان أمرا ً حيويا ً للأمساك بمكائد السرد ومراوغاته, والكشف عن أسرار عنونته يعني كشفا ً لطرائقه في البنية والأسلوب وكيفيات التدليل لعلاماته(24). 

 

سيمياء العنوان في مجموعة قافلة العطش:

 

يمكن وصف العنوان بالاقتصاد اللغوي أو التكثيف المعنوي, فأول ما يستقبل القارئ العنوان  وهذه الصفة على قدر كبير من الأهمية, إذ إنها في المقابل ستفترض أعلى فعالية تلق ممكنة, حيث حركة الذات أكثر انطلاقا ً وأشد حرية  في انتقالها من العنوان إلى العالم, والعنوان للكتاب كالاسم للشيء , أو هو أشبه بالبيضة المخصبة التي ستلد فيما بعد جنينها الذي لا ينسلخ عنها ــ أعني النص ــ والذي يرتبط بمصدره العنوان بعلاقات لغوية بايلوجية وتناصية , وكأن النص في تكوينه ينطوي ويبرز فيه أنطولوجية العنوان, ولكل أديب وهو يضع عنوانا ً لمتنه الأدبي يمارس مجموعة من الوظائف الفكرية والجمالية والإيصالية, فهو يحاور نصه, يؤول مقاصده الكلية, ثم يحولها إلى بنية مختزلة ومختصرة , عبر التركيب وإعادة التركيب من منظور ثيماتي وجمالي, لصياغة عنوان مطابق أو شبه مطابق للمحتوى النصي , أو مراوغ لدى الباحثين عن جمالية التنافر والتمويه(25).  

 

جعلت القاصة سناء شعلان عنوان القصة الأولى من مجموعتها عنوانا ً رئيسا ً لمجموعتها القصصية  ــ قافلة العطش ــ وهذا الأسلوب يستخدمه كثير من الأدباء , لكنه لا يخلو من قصد وغرضية تكشف عنها سردية المتن الحكائي , فالمتن يرتبط بالعنوان الرئيس بخيوط تواصل  وتعاقد لا تنفك بل تزداد وتتضح كلما تقدمت في قراءة النص, حتى تصبح كل قصة من قصص المجموعة رقما ً مهما ً في قافلة العطش , ولعل انتخاب القاصة عنوان  ـ قافلة العطش ــ عنوانا ً لمجموعتها ((يعكس تصورا ً لقيمة هذا العنوان وخصبه ومرونته التشكيلية والتعبيرية, وقدرته على تمثيل العنوانات الأخرى, واستيعاب معطياتها السيميائية على نحو ما , إذ يطرح هنا إشكالية مركزية  في الفلسفة التعبيرية والبنائية داخل))(26),  سردية سناء شعلان في جدل العلاقة بين نداء السير ورغبة الوصول  ــ القافلة ــ وبين حلم الارتواء من  العطش لبث الحياة في متن النص القصصي. تدخل في غلاف المجموعة  رزمة من الثيمات اللغوية سواء أكانت لسانية ــ عنوان المجموعة, اسم الكاتبة , دار النشر, والمؤسسة الداعمة, فضلا ً عن عنوان المتن في الواجهة الخلفية, والنص المحكي الذي دونته القاصة تحت عينيها , وكأنها ترصد حركاته وتشكيله البصري على الغلاف الأحمر, وقد كتب بلون أبيض , ما عدا القافلة التي كتبت بلون أصفر, أما اللغة الأخرى فهي متمثلة باللوحة التشكيلية التي تنطوي تحت هيمنة العنوان الرئيس قد تكونت من جملين يقودهما راع لا يبين منه سوى ظاهر إنسان , فضلا ً عن ذلك آثار القافلة التي تتحول أثناء سيرها الى قلوب تنبض بالحب وتجعل الكون الذي تسير عليه تلك القافلة  كونا ً أحمر اللون , ولا ننسى العين الخضراء  الجميلة التي ترقب العنوان وحركة القافلة , وهي تنطلق بمسيرتها الطويلة التي لا تخلو من طول مسافة ؛ لان الفنان جعل لوحته التشكيلية خالية من الحدود التي تقطع صيرورة الزمن وجدله مع المكان, وقد اجتمعت كل اللغات على لوحة الغلاف اللسانية السيميائية  في تحقيق ثيمة مركزية كانت القاصة تعنيها وتربو إليها وتهدف إلى تثويرها وشيوعها , وهذه القيمة أو البؤرة هو شيوع الحب والرغبة بالبوح وبالتالي تحقيق فلسفة للحرية التي يبغيها كل إنسان لا سيما العاشق منه.

ولنبدأ بتحليل مكونات اللوحة باللون الأحمر الذي احتضن كل تفاصيل اللوحة , واللون بصورة عامة عاملا ً فسيولوجيا ً ذا إثارة نفسية , ونعني ذلك التأثير الفسيولوجي أي الخاص بوظائف أعضاء العين الناتج على شبكية العين سواء أكان ناتجا ً من المادة الصباغية أم من الضوء الملون, وهنا يأتي دوره بوصفه مثيرا أساسيا ً في عملية الخلق بوصفه  مظهرا ً من مظاهر الحيلة الجمالية المعنوية والحسية التي لها أثرها في مشاعر الإنسان وحياته النفسية وإحساسه باللذة في الحياة حيث ينعش فيها العاطفة ويوقظ المشاعر ويثير الخيال(28), أما في الحقل الأنثربولوجي فاللون الأحمر , هو لون النار ولون الدم , الأحمر هو لون العشق الآلهي والحب البشري المعد لإعطاء دمه وحياته من اجل المحبوب , انه لون الشهيد , والأحمر ذو رمزية قربانية , ترتبط بشعائر دينية قداسية)(29) ومن ناحية أخرى فاللون الأحمر له دلالتان الأولى: تتعلق بالجانب الروحي  والأخرى بالجانب المادي, كما أنه يغري باتجاه تبني العنف في الدلالتين الروحية والمادية, ففي الروحية فان النور الأحمر هو نور مستوى مرتبة النفس الملهمة, كذلك  يشي بشهوة جامحة لا يطفئها إلا الافتراس والنهم والعجالة(30)  , من خلال شبكة الدوال التي يعبر عنها اللون الأحمر  سواء أكانت الأنثربولوجية أو العقلية أو الحسية أو الوجدانية ببعدها النفسي السيكولوجي تستطيع القول إن اختيار القاصة لهذا اللون في متن عنوانها أسهم في الناحية الفنية بوصفها مقتربا ً جماليا ً خالصا ً يتأسس من الخبرة السيكولوجية وفقا ً لأساس فسلجي يؤثر تأثيرا ً عمليا ً ومهما ً في توجيه شكل الخطاب ويعزز المشهد النصي  بقيم جمالية جديدة تزيد من مستويات فاعليته الفنية والتعبيرية, ذلك يوصفه طاقة تنتشر على الصفحة الفنية  وهو قوام العمل الفني وروحه فالتصوير ــ وأدواته الألوان ــ في تحديد براون هو الفن الذي يلهو باللون لهو الموسيقى بالنغم(31).

أما اللغة اللسانية  ــ قافلة العطش ــ , وقد كتبت بصورة تثير الانتباه وتدعو المتلقي إلى المزيد من التأمل في النص , فقد صيغت الجملة كلها بخط مائل , وقد رسمت مفردة ( قافلة ) باللون الأصفر , أما مفردة العطش فقد رسمت باللون الأبيض , وكلا اللونيين الأصفر والأبيض لا يخلوان من دوال إيحائية جمالية, تضفي على عنوان المجموعة  نزعة فنية فضلا ً عن صياغتها البلاغية , فجملة ــ قافلة العطش ــ من الناحية اللغوية جملة اسمية , إذ القافلة خبر لمبتدأ محذوف ــ والعطش مضاف اليه , يبدأ العنوان في بنيته السطحية  باسم نكرة  ــ قافلة ــ كما في غيره من العناوين  الداخلية ( سبيل الحوريات ,قطار منتصف الليل ,, بئر الأرواح , زاجر المطر)) وهي ظاهرة لغوية يمكن إطلاقها  على معظم عناوين شعلان, المركبة تركيب الجمل الاسمية , ولا شك أن ظاهرة مثل هذه كثيرة الوقوع في لغة العرب , ذلك ان الاسم إذا كان سمة شيء ما فانه إلى التنكير أاقرب , إذ يدلنا الاسم على شيء يكتنفه نوع من الإيهام, ثم يكون الكشف والتعريف بعد ذلك بذكر الخصائص والسمات , ومن ثم كانت النكرة أخف على الذوق العربي السليم من المعرفة(32), ثم أن النكرة أصل والمعرفة فرع, والأصل أشد تمكينا ً من الفرع, يقول سيبويه: (( واعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة وهي أشد تمكنا ً, لأن النكرة أول ثم يدخل عليها ما تعرف به, فمن ثم أكثر الكلام ينصرف الى النكرة))(33), وقد نجحت القاصة بإضافة القافلة إلى العطش,  أكسبت القافلة النكرة وظيفة العطش, ولذلك أصبحت النصوص في المجموعة هي سير حثيث نحو الرواء والارتواء , مع وجود دالة لاتخلو من جمالية  أدائية ذات رؤية إيحائية هازة ومجذفة, إذ اجتمع لون القافلة الأصفر المائل إلى البرتقالي , وهو لون شمسي حار سيكون رمز قوة ذكية وحكمة وحب الهي, مع العطش الأبيض, رمز الطهارة , منتشرا ً جدا ً في الزمان والمكان , وقد سبق للفيثاغورين العائشين في وسواس الطهارة أن أوجبوا على أنفسهم ارتداء الأبيض, فهو علامة الاستقامة والعدالة وإشعاع الخير(34), وكان اجتماع الأصفر مع الأبيض ( القافلة مع العطش ) يحيل إلى رؤية وجودية ذات موقف حازم وأصيل تتبناه القاصة , وهي تحمل شخصياتها القصصية حمولات وجدانية مغايرة تعمل على خلاف قيم المجتمع القامعة, لكنها تقرر أن حراك هذه الشخصيات وهي تحقق أهدافها تتسم بالسطوع والوضوح والطهر والخير,لذلك كانت اغلب شخصياتها الرئيسة تفكر بصوت مرتفع , اذ لا وجود لأي تلكؤ  أو انطواء أو انحسار , هذا يحصل والعين الخضراء ترقب هذا المتن النص ومكوناته الأيقونية الأخرى, إذ العين بترقبها  وقلقها تتابع نمو هذا الجنين الجديد ـ أعني الفكر المغاير ــ للمنظومة الأخلاقية, فالأخضر هو علامة البعث , ومن هنا جاء بأنه علامة القيامة عند المصريين, انه لون أوزيريس, الذي عاد إلى الحياة , ولون الخيبات الجنائزية ولون الموت في طريق إعادة الولادة للحياة على الرسوم القبرية المصرية (35), ولانغفل ان العنوان قد صيغ بأسلوب شعري اعتمد الانزياح اللغوي بواسطة الاستعارة, وقد جمعت القاصة بين عالم المادة القافلة ـ الحركة ــ والمعنى ـ العطش ـ الرغبة والوصول, النهم والحب, فهي تبحث عن خلق جو أدبي تسمح به اللغة الشعرية وهي تبتعد عن المألوف لتخلق عالما ً مغايرا ً للمعتاد من أجل أن يتطابق العنوان بوظيفته الجمالية مع باقي الثيمات الجمالية المكونة للوحة الغلاف .                  

  

وقد تشكلت لوحة الغلاف  الأمامية من مجموعة من الثيمات خلقت منها صورة مرئية  كونت بها مفاهيم وولدت منظومة من الإرساليات  لتقدم إمكانيات للتخاطب عبر متوالية مرئية لها القدرة على تشكيل إدراكات جديدة حول ظاهرة معينة, وقد حملت الصورة المرئية على عاتقها كسر الحواجز الثقافية , وتمثيل المسكوت عنه في أبجديات العالم الإنساني , انه عصر الصورة بلا منازع ’ فهي سلطة تواصلية يعكف على صياغة مشهدها لفيف من آليات الخطاب , ولهذه الصورة المرئية المكونة قدرة إيحائية وإنتاجية في الوقت نفسه, إيحائية لانها تمتلك مهارات فنية تتعلق بخصائص التحرك والانتقال والتقطيع, ومن مميزات الصورة المرئية, انها منظومة مشاعر وأحاسيس متحركة تستبطن الغريزة وتبني عالما ً من التحولات المختلفة  بمستويات شتى. وإذا لاحظنا العين في واجهة الكتاب وجدناها عينا لا منتمية وهي عين حادسة, أما العين في خلفية فهي عين لوجه الكاتبة وهي عين منضبطة بايدولوجية إسلامية , وكان ذكاء ً  منها ان تؤطر رؤيتها الذاتية إلى الخلف , وبالرغم من ذلك لا زالت العيون متربصة وباحثة ومتأملة, وتشخص النص الشعري أسفلها 

العيون العطشى

هي فقط من ترى آثار قافلة العطش

على رمال الحرمان ـ ـ ـ ـ ـ

هذا النص وضع بين صورة القاصة والأقدام التي تتحول إلى قلوب, اذ تقترب العيون ــ في بداية النص ــ في بعدها الأنطولوجيي من عين القاصة التي ترقب الحدث الذي يقترب منه وجوديا ً ونفسيا َ لرمال العطش, يستبطن النص الشعري  علاقة جدلية وظيفتها المماثلة والمطابقة بين العيون العطشى إلى الحب والحرية والحياة , ورمال الحرمان التي تبتلع قافلة العطش , ولعل صورة رمال الحرمان  صورة شعرية قوامها الحركة الرئوية التي تتناسب مع سير قافلة العطش , فالرمل كمكون طبيعي له القدرة العالية على امتصاص الماء والحرمان , لا يتخلص منه إلا بعد زمن طويل , حتى تصبح خطوات قافلة العطش, قلوبا ً تنبض بالحب في أعماق رحلة الإنسان الوجودية بوصفه كائنا ً ويمتلك مشروعا ً لم ينجز بعد.

أما العتبة النصية الداخلية وقد وضعتها بين قوسين تنصيص, لعلها تريد أن تحيلنا إلى أن هذا النص مقتطع من نص أكبر هو ــ قافلة العطش ــ ولا يخلو هذا النص المدون من خيوط تربطه برحم الأم ــ العنوان الرئيس ــ قافلة العطش, تبدأ القاصة عنوانها الداخلي بسؤال استفهامي إنكاري وهي تعيب على العطشى جهلهم بعدم معرفتهم  أنهم عطشى, وقد هيمن العطش على هذا المقطع النصي  , إذ ذكرت العطش في البداية وفي النهاية , لأنها أرادت ان تنجز حياة الإنسان العملية بين مساحتين ينزاح الانسان بينهما  وهما  ( الحب في البداية ــ والحب في النهاية ) وقد جمعت القاصة أسلوبين في النص  أسلوب الخبر , كم هم عطشى , وأسلوب الطلب المنفي , لا يعرفون أنهم عطشى) , ولكن النفي بالمعنى من دون اللفظ, وقد ركزت على فلسفة الحب من دون أن تلغي وجوده ,  وقد جمعت خطابها بين جملتين,الجملة الأولى خبر بالاستفهام , والثانية خبر بالنفي, ولهذا فهي تقع بين عالمين: عالم التيه والتشتت والضياع, وعالم المصادرة والنفي والإقصاء.

قصص المجموعة:

ارتبطت اغلب القصص في المجموعة القصصية بالعنوان الرئيس للمجموعة ـ قافلة العطش ــ وكانت أكثر الشخصيات الرئيسة في هذه القصص هي شخصيات ملتزمة بوجهة نظر القاصة ,وهي تمثل رؤيتها التي تحدد بها طبيعة المادة القصصية, فالرؤية هي الطريقة التي اعتبر بها الراوي عند تقديم الأحداث(36)   وقد وزعتها على قصصها المختلفة , وكانت وجهة النظر هذه تحاول أن تؤطر الحب بمفاهيم جديدة بعيدا ً عن أعين الرقيب الذي يجتهد بإجهاض كل خطوة تحاول ان تقترب من سلطة الخير والجمال , وقد أخذت القاصة على عاتقها تحقيق وجهة النظر هذه ولو على مستوى الفن الذي يريد أن يكون مغايرا ً وهو يقوم بفعل التغيير لا التفسير , من خلال بث أيديولوجيتها الفنية في ذهن أبطالها الذين حققوا حلم القاصة باجتهادهم وهم يحاورون القوى التي تردعهم عن مشروعهم الذي يؤمنون به,فقد عكفت القاصة على إثارة سؤال الهوية وسعت للإجابة عليه عبر رصد الذات وأفعالها وأوصافها, فالمجموعة التي بين أيدينا حاولت ان تطور مفهوم المرأة بحقليه البيولوجي والثقافي, لاسيما أن أغلب الشخصيات الرئيسة في المجموعة هي من الجنس الأنثوي, كما في قصة ــ قافلة العطش, الفزاعة, امرأة استثنائية , تحقيق صحفي, النافذة العاشقة.

جاء اختيار المرأة  بطلة في القص بصورة مكثفة لتحقق وجهة النظر التي تشتغل عليها القاصة سناء شعلان, وهي تحاول أن تخرق ما هو معتاد في مجتمعها وإعطاء المرأة دورا ً رياديا ً في صنع هوية جديدة لاسيما في المستوى الإجرائي. وكانت الشخصيات الرئيسة في النصوص غير معرفة ولا تحمل اسما ً معينا ً, والتنكير للأسماء لوحده إستراتيجية لسانية توظفها القاصة لتخرج شخصياتها من عالم ضيق ومحدد إلى عالم يسع ما تنادي به ؛لأنها أرادت أن تخرج من عالم الفردانية البسيطة إلي عالم الجماعة, لاسيما أن التنكير للشخصيات يعطي دلالة الكثرة والإجمال دون دلالة النوع,فضلا عن ذلك فالتنكير ينوع المصاديق ويجعل الشخصية أو الشخصيات عبارة عن أفكار مشخصة , إذ السرد لا يشتغل دون أن تكون هناك شخصية أو ملامح شخصية تؤدي الأحداث وتشغل الزمان والمكان.وسنحاول ان نستقري بعض هذه القصص كاشفين عن نقاط الاشتراك بينها وبين العنوان.

في قصة النافذة العاشقة, جاء عنوان القصة جملة خبرية معرفة مبتدؤها محذوف وهذه النافذة موصوفة بالعاشقة , وكان اختيار القاصة لهذا العنوان موفقا ً جداً؛ لان سير الأحداث   والتغيرات التي طرأت على الشخصية كلها جرت في المطبخ قرب هذه النافذة (( تلك النافذة المتصدية بشجاعة لحديقة الجيران , هي نافذتها الوحيدة على أنوثتها المنسية , كانت نافذة زجاجية عادية, قد قتلتها تنظيفا ً وتلميعا ً, ثم كستها بالقماش الشفاف ذي التخريمات الزخرفية))(37)  إذ تحولت هذه النافذة إلى منظومة قيم ــ تتمسك بها البطلة ــ المنزوية في وجودها المعرفي  كامرأة لم تحصل على نصيبها من الحب الجامح, فعبر النافذة استطاعت تلك المرأة أن تجد لها مخلصا ً تستطيع بواسطته أن تبوح بما لم تقدر أن تبوح به, حتى تحولت تلك النافذة إلى أهم مكان في وجودها بعد تفكير مضطرب في إغلاقها :((  فكرت طويلا ً في أن تغلق هذه النافذة إلى الأبد , لكنها لم تستطع , بل لقد حولت ما أمكنها من أعمالها اليومية إلى المطبخ , حتى الكي , واستقبال الصديقات المقربات وإجراء المكالمات الهاتفية))(38). 

أصبح المطبخ مكانا أليفا ً في القصة بسبب النافذة التي تحولت إلى شخصية ثانوية تحاكيها البطلة وتحاورها ومن خلال حديثها مع النافذة اللاعقلانية , كشف لنا الحوار الداخلي أسرار الشخصية, ذلك لان النافذة صارت حلقة الوصل بين العالم الداخلي ( البيت المطبخ, والعالم الخارجي, الحديقة),إذ صارت النافذة ساعي البريد الذي ينقل رسائل البطلة إلى ركاب قافلة العطش, من خلال بوحها الشفيف لمشاعرها المغلقة (( لأشهر عدة كانت نذرا ً للنافذة , وللأسمر  الذي سكنها,كثيرا ً ما جالست زوجها لتناول إفطار أو غذاء  أو عشاء في المطبخ))( 39). فالبطلة في القصة  انتفت بأن تعيش الحب لوحدها مع شخص أخر ـ قرين ـ خلقته من مخيلتها وفرضته في وجودها من أجل الخلاص من الوحدة الموحشة التي تعيشها.

أما قصة الفزاعة فتدور أحداثها  حول امرأة تمتلك مزرعة صغيرة , وتعيش وحيدة (( وهي تعيش في كوخ كبير قديم, ومن الواضح أنها تعيش فيه وحدها, فهو لم يلمح عندها أحدا ً من أشهر))(40), وفي المزرعة فزاعة صنعتها المرأة بيديها ليحمي المزرعة من الطيور. وهي ((قليلا ً ما تغادر البيت أو المزرعة, لتعود سريعا ً محملة بالفاكهة والخضار واللحوم وبعض مستلزمات الأرض))(41), وهي من ناحية لأخرى امرأة تحب الفن لاسيما الموسيقي بوصفها فنا ً يدفع الإنسان إلى التأمل وهو ــ أي فن الموسيقى ــ يقطع اللحظات الزمنية الهاربة من ذهن الإنسان ويجسدها في عالم حسي تجريبي (( أخذت بعزف البيانو الذي قلما تعزف عليه, وأخذت تصدح بأغنية شجية, كانت مستغرقة في غنائها الملائكي, وكان يذوب في مسك كلماتها, إلى ان دخل ذلك الوسيم الذي أقلته دراجة هوائية قبل دقائق))(42), دلالة النص الرئيسة تتحدث عن النفس الإنسانية وتجربتها التاريخية , وكيف استطاع عالم العولمة والحداثة ان يجرد الإنسان من أهم شيء يميزه عن الكائنات الأخرى , وهو قيمة الحب التي بها يرتقي الإنسان إلى أعلى درجات الكمال والسمو الأخلاقي.   والقصة هي الرابعة في المجموعة وعنوان القصة يثير كثيرا من التساؤلات عند المتلقي , لماذا اختارت القصة هذا الاسم عنوانا ً لقصتها , وكيف استطاعت ان تنتقل بالفزاعة الكائن المحايد, إلى كائن يحس ويشعر ويريد ويقرر, ولعل القاصة أرادت أن توصل رسالة إلى القراء فحواها , أن الوجود بكل تفاصيله بحاجة إلى الحب وعلينا بني الإنسان أن لانبخس الأشياء حقها , لاسيما بعد أن أصبح الإنسان سيدا ً للوجود ومتربعا ً على هرم المخلوقات والجمادات , هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فان اختيار عنوان الفزاعة وجعلها الشخصية الرئيسة في القصة يحقق(( إثارة المتلقي , أو كسر أفق انتظاره , أو مغاليق عقله وذهنه وذكائه, ليتقبل علام الشخصية, ويتعرف أدوارها السردية , داخل النص))(43) , ولا يخلو الأمر من أسلوب القناع , لأن اختيار القاصة للفزاعة دون غيرها من الأشياء هو إشارة إلى ان المسكوت عنه وصل إلى حد لا يمكن معه الركون إلى الصمت والاكتفاء بالموافقة على ما تقول السلطة الحاكمة.تبدأ القصة بمقطع وصفي طويل نسبيا ً , يرسم فيه الراوي شخصية الفزاعة بصورة دقيقة ومركزا ً به على تفاصيل دقيقة وقد حقق بوصفه وظيفتين الأولى , الوظيفة الجمالية, والثانية , الوظيفة الإيهامية , من أجل ان يقنعنا  ان الأحداث الدائرة هي أحداث تقترب من الحقيقة وان كانت لا ترتبط بمرجعيات سياقية واقعية, ذلك أن((المتخيل الأدبي كما حده أرسطو يتجسد خلال العملية السردية, ويستمد معناه من تناسق الإحداث المسرودة وترابطها على ما بينها من اختلافات,فوظيفة السرد الأساسية تنشأ عن قدرته المؤالفة بين الأحداث المفردة المختلفة, وربط بينها ربطا متينا,بحيث تكون نسقا أو لحمة موحدة لها بداية ووسط ونهاية, وعلى ذلك  فإن النشاط السردي هو نشاط منتج للمعنى , فإذا انفرط خيط معنوي واحد عن سائر المعاني المتاخمة له ولم يلتحم بها, فسد المعنى الكلي للسرد))(44)  وجاء في وصف الفزاعة  (( ملابسه رثة, قبعته قديمة, فيها خرق كبير, قدماه خشبيتان, عيناه زران مختلفا اللون, وفمه مخاط على عجل, ولا أذنين له, وقلبه من القش, وخصره نحيل, وجسده مصلوب ليل نهار, ولكنه يحبها, لا يحبها فقط؛ لانها هي من خاطته, وزرعته في هذا المكان , يحبه لأنها رقيقة ولطيفة , ويعشق صوتها ذا الرنين العذب كلما غنت))(45), الشخصية الفزاعة هو صنيعة المرأة الدافئة الجميلة وقد حملته الكثير من صفاتها الجمالية وآرائها  في الحب والحياة , كانت هذه الفزاعة تقوم بدورها على أتم وجه, وهو فزاعة بامتياز يقوم بدوره (( لأنه فزاعة, وقد خلق ليفزع الطيور, ولأنه يحبها , ويريد أن يحافظ على محصولها المتواضع))(46), الفزاعة قناع المرأة لتمرر من خلاله رغباتها وطموحها وأشياءها غير المعلنة بسب السلطة القامعة أعني المجتمع ومجموعة القوانين الكابحة للحريات, وقد جسدت القاصة في الفزاعة عدد من العواطف الإنسانية البريئة التي تقترب من الفن وتذوقه فهو(( لا يتذكر كيف بدأ قلبه القشي بالعزف, ولكن صوتها كان أول من حرك الحياة في ذاته, كان كسير الرقبة , متدلي الرأس, متراخي الأعضاء, منذ أن نصب في مكانه, لكن قلبه بدأ بالخفقان , عندما سمع صوتها الشجي))(47). أخذت الشخصية الفزاعة تنمو شيئا ً ما فأصبح لديه أذن يسمع بها وقلبا ً يخفق لصوت صاحبته,ولا تخلو القصة من علاقة ولو كانت غير واضحة مع العنوان قافلة العطش, ‘إذ المرأة المتجسدة أو المختفية خلف شخصية الفزاعة, تريد ان تصل إلى أعلى مراتب الحب التي تمثلها قافلة العطش في مسيرها نحو الخلاص. 

أما قصة امرأة استثنائية, فالبطلة امرأة استثنائية خارقة وتملك مفاتيح غريبة تمكنها من تحويل أي شيء يقابلها (( أنا امرأة تملك موهبة نادرة, اقتربوا لأخبركم عن موهبتي  اقتربوا أكثر, لا, هذا أكثر مما يجب ))(48), وموهبتها تتحدد بأنها تملك طاقة سحرية تجعل البشر يقومون من موتهم أو رقادهم, فهي إذن على علاقة ماسة مع قوى فيزيقية غير محددة منحتها هذه القدرة على(( أن تحرر المأسورين من أسرهم, قادرة على ان تبعث الحياة في القلوب الميتة, قادرة على أن ترسم الارتعاش على الشفاه الميتة))(49), فهي بهذه القدرات تستطيع ان تخرج من عالمها القبيح الذي وضعها القدر به, وتمنح نفسها الحياة التي ترغب , وقد كشفت أمنياتها عن عقد تهيمن على هذه المرأة فتجعلها تهرب من مصيرها في عالمها المادي إلى عالم الخيال والأحلام الذي لايهمه شكلها المقزز, وقصر قامتها, فهي (( امرأة ذات قامة قصيرة حد التقزم, والملامح الشوهاء , والعينيين اللامعتين))(50), ولم تكن تجد عالمها في أي مكان, لذا تخلقه من بنا ت أفكارها, (( يقترب التمثال الصخري الذي قد لتوه من جدارية صخرية كبيرة , تضم تماثيل كثيرة لشباب رومان صغار السن مطوقين بالغار))(51), تبين أن حلمها الوحيد أن تشعر بأنوثتها المفقودة التي خسرتها في خضم عالم لا يعبأ بالمرأة غير الجميلة , فلجأت البطلة إلى مخيلتها لتصنع لها رجلا ً يحبها وتنعم معه بالحياة (( ابتسم التمثال المطوق بالغار , وطبع على جبينها الضيق الأشوه قبلة دافئة, ومدّ يده, وحضن كفَّ يدها وانطلقا يجوبا المدينة))(52),الحث في القصة يخبر عن أحلام يقظة تعيشها البطلة لتحقق أحلامها من جهة , وهو من ناحية أخرى ثورة على نفسها (( العاجزة عن أن تتحرر من جسدها المخيف , حتى عندما أشعلت النار فيه لتهرب منه , لم تستطع أن تنقذ روحها منه))(53),الجسد الأنثوي بوصفه علامة جمالية حسية في مجتمعاتنا العربية وظفته القاصة لتبين من خلاله بشاعة المجتمع الذي يصادر الذات من اجل الجسد, إنه مجتمع لا يضع للقيمة والإنسانية أي اعتبار , إن ما يهمه رغباته فقط ولاشيء آخر يمكن أن يهز كياته أو يدفعه إلى إعادة التفكير بمنظومته القيمية, امرأة من هذا النوع تعيش حياتها وهي تعلم أنها غريبة توحشها الوحدة , فعالم بهذا الوسع لا يوجد فيه إنسان يحفل بهذه المرأة (( في البداية كانت تشعر بوحدة قاتمة,كانت تتنحى في الزقاق المظلمة, والشوارع غير المطروقة, لكن عندما اكتشفت موهبتها العجيبة, عادت الحياة إليها , أو هي عادت إلى الحياة))(54), النتيجة أن الحلم يسهم في رفع الألم والمعاناة عن كاهل الإنسان , لا سيما ذلك الإنسان الذي يدان لقبحه حتى من أقرب الناس له (( اندست كدودة مستنقع رخوة في فراش حقير أعدته عائلتها لها, بعد أن ضاقت ذرعا ً بمظهرها القبيح)(55), امرأة من هذا النوع لايطيقها أحد لقبحها الجسدي تبحث في مخيلتها عن مشروع خلاص من هذا الوجع الذي شخصته القاصة المبدعة بأسلوب فني بينت فيه جزئية من جزئيات الحياة التي نغفلها ولا نحس بوجودها , لذلك كانت البطلة تخلق رجلا ً(( تعيش معه أحلى اللحظات , تقبله في الشوارع, تطارحه الغرام في الجبال, تأكل معه في الحوانيت الشعبية,. تراقصه على ضوء الشموع في مقصورة بلورية في القمر))(56).  

 

 

هوامش البحث

1ــ دلالة العنوان في رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغاني,احمد قشوبة, الملتقى الوطني الثاني السيمياء والنص الأدبي,81,

2ـ دليل الناقد الأدبي, ميجان الرويلي, 108.

3ــ السيميائيات ومقصدها, سعيد بنكراد, مجلة بحوث سيميائية, ع3ـ4, 179.

4ــ قضايا النقد الأدبي, إشراف وتحرير:د. محمد القاسمي, الصورة في الخطاب الإعلامي, دراسة سيميائية في تفاعل الأنساق اللسانية والايقونية, د. بشير ابرير ,  55.

5ــ المصدر نفسه,47.

6ــ العنوان في الشعر العراقي الحديث,حميد الشيخ جعفر, 28.

7ــ مفهوم النص, نصر حامد أبو زيد, 25.

8ــ لسان العرب, ابن منظور, (عنن).

9ــ المصدر نفسه,( عنا).

10ــ المصدر نفسه, ( علن).

11ــ سيموطيقيا الاتصال الأدبي, محمد الجزار, 21ــ 22.

12ــعلم العنونة , عبد القادر رحيم, 34.

13ــ السيموطيقيا والعنونة, جميل حمداوي, مجلة عالم الفكر, 96.

14ــ الخطيئة والتكفير, عبد الله الغذامي, 263.

15, سيمياء العنوان , بسام قطوس, 37.

16ــ علامات في الإبداع الجزائري, عبد الحميد هيمه, 564.

17ــ معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة, سعيد علوش, 155.

18ــ العنوان في الشعر العراقي المعاصر, 40.

19ــ السيموطيقيا والعنونة, 96.

20ــ هوية العلامات , شعيب حليفي, 11.

21ــ الطاقة الدلالية للعنوان في القصة القصيرة , جريدة الإسبوع الأدبي ,ع( 1070), 2007.

22ــ دليل الدراسات الأدبية, د. جوزيف ميشال شريم, 9.

23ــ قاموس السرديات,ة جيرالد برنس, 123.

24ــ في نظرية العنوان, د. خالد حسين, 303.

25ــ العنوان في الثقافة العربية, محمد بازي, 7.

26ــ العلامة الشعرية, محمد صابر عبيد, 45.

27ــ نظرية اللون, يحيى حمودة, 7,

28ــ الصورة اللونية في شعر السياب, شاكر هادي التميمي, 112.

29ــ الرموز في الفن ــ الأديان ــ الحياة , فيليب سيرنج, تر: عبد الهادي عباس, 425.

30ــ دالة اللون في زمن أهل التحقيق, د. ضاري مظهر صالح, 208ــ 209.

31ــ جماليات اللون في شعر بشار بن برد, صالح الشتيوي, 83.

32ــ العنوان في الادب العربي,النشأة والتطور, د. محمد عويس, 25 ــ 26.

33ــ الكتاب , سيبويه,ج1/ 22.

34ــ الرموز في الفن, 412.

35ــ المصدر نفسه, 433.

36ــ ينظر, المتخيل السردي, عبد الله ابراهيم, 61ــ 62.

37ــقصة النافذة العاشقة, 16.

38ــ المصدر نفسه, 17.

39ــ المصدر نفسه, 18.

40ــ المصدر نفسه, 28.

41ــ المصدر نفسه, 28.

42ــ المصدر نفسه, 29.

43ــ شواغل سردية,د. ضياء غني: 114.

44ــ مقومات السيرة الذاتية, جليلة الطريطر, 146.

45ــ قصة الفزاعة, 25.

46ــ المصدر نفسه, 27.

47ــ المصدر نفسه, 26.

48ــ امرأة استثنائية, 49.

49ــ المصدر نفسه, 49.

50ــ المصدر نفسه, 50.

51ــ المصدر نفسه, 49.

52ــ المصدر نفسه, 50.

53ــ المصدر نفسه, 51.

54ــ المصدر نفسه, 51.

55ــ المصدر نفسه, 53.

56ــ المصدر نفسه, 52.

 

 

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع

1ــ الخطيئة والتكفير, من البنيوية الى التشريحية, د.عبد الله الغذامي,ط4, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1998.

2ــ دالة اللون في زمن أهل التحقيق,أ.د. ضاري مظهر صالح,ط1, دار تموز ــ دمشق,2011. 

3ــ  دليل الدراسات الإسلوبية ,د. جوزيف ميشال شريم, ط1, 1984.

4ــ دليل الناقد الأدبي, سعد البازعي, ميجان الرويلي, ط3, 2002. 

5ـــ الرموز في الفن ـ الأديان ـ الحياة, فيليب سيرنج, تر: عبد الهادي عباس, ط1, دار دمشق ـ سورية, 1992.

6ــ سيمياء العنوان , بسام قطوس,ط1,  عمان ـ الاردن, 2001.

7ــ العنوان و سيموطيقيا الاتصال الأدبي, محمد فكري الجزار, الهيئة المصرية العامة للكتاب ــ القاهرة, 1998. 

8ــ السيموطيقيا والعنونة( دورية), جميل حمداوي, مجلة عالم الفكر, مج 25, ع3, 1997.(دورية)

9ــ شواغل سردية, دراسات نقدية في القصة والرواية,أ.د. ضياء غني العبودي,ط1, دار تموز ـ سوريا, 2013.

10ــ علم العنونة, عبد القادر رحيم,ط1, دار التكوين ـ سوريا, 2010.

11ــ  علامات في الإبداع الجزائري, عبد الحميد هيمة, ط1, مديرية الثقافة ولجنة الحفلات , سطيف ــ الجزائر, 2000.

12ــ  العلامة الشعرية, قراءات في تقانات القصيدة الحديثة,د. محمد صابر عبيد,ط1, عالم الكتب الحديث ـ الاردن, 2010.

 

13ــ العنوان في الادب العربي( النشأة والتطور) ’,أ.د. محمد عويس, ط1, المكتبة الإنجلو مصرية ـ القاهرة, 1988.

14ــ العنوان في الثقافة العربية, التشكيل ومسالك التأويل, محمد بازي, ط1, منشورات الاختلاف, الدار البيضاء, 2012. 

15ــ العنوان في الشعر العراقي الحديث, دراسة سيميائية,حميد الشيخ فرج,ط1, دار ومكتبة البصائر ـ بيروت, 2013.

16ــ في نظرية العنوان, مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية,د. خالد حسين خالد,دار التكوين ـ سوريا , 2007.

17ــ قافلة العطش, مجموعة قصصية, د. سناء شعلان,ط1, مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع ـ الأردن, 2006,.

18ــ قاموس السرديات, جيرالد برنس, تر: السيد امام, ط1, ميريت للنشر والمعلومات ـ القاهرة, 203.

19ــ قضايا النقد الأدبي, بيت النظرية والتطبيق, ندوة الصورة والخطاب,إشراف وتحرير: د. محمد القاسمي, د. الحسن السعيدي  2009, يرجع الى هند

20ــ كتاب سيبويه, أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الملقب سيبويه, تحقيق: عبد السلام هارون, دار التاريخ ـ لبنان,د.ت.

21ــ لسان العرب, ابن منظور, تحقيق: عبد الله علي الكبير , محمد أحمد حسب الله, هاشم محمد الشاذلي , دار المعارف ـ مصر,د.ت.

22ــ المتخيل السردي, مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة, عبد الله ابراهيم,ط1, المركز الثقافي العربي ـ بيروت, 1990.

23ــ معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة,د. سعيد علوش, الدار البيضاء ـ المغرب, 1984. 

24ــ مفهوم النص( دراسة في علوم القرآن),نصر حامد أبو زيد, ط4, المركز الثقافي العربي ــ بيروت, 1998

25ــ مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث , بحث في المرجعيات ,د. جليلة الطريطر,ط2, مؤسسة سعيدان للنشر ــ تونس, 2009.

26ــ نظرية اللون,د. يحيى حمودة, دار المعارف ــ القاهرة , 1979.

27ــ هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل, شعيب حليفي, ط1, دار الثقافة للنشر والتوزيع ــ الدار البيضاء, 2005. 

 

الدوريات

1ــ جماليات اللون في شعر بشار بن برد,صالح الشتيوي, أبحاث اليرموك, مج 18, ع1, 2000م.( دورية)

2ــ دلالة العنوان في رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغاني, أحمد قشوبة, جامعة محمد خيضر ــ بسكرة, قسم الادب العربي, الملتقى الوطني الثاني للسيمياء والنص الأدبي.

3ــ السيميائيات وموضوعها, سعيد بنكراد, مجلة بحوث سيميائية, ع3و4, 2007.

4ــ  الصورة اللونية في شعر السياب,د.  شاكر هادي التميمي, مجلة القادسية, مج2, ع2, 2002م.(دورية

5ــ الطاقة الدلالية للعنوان في القصة القصيرة , جريدة الإسبوع الأدبي , ع( 1070) , 2007.