دربونة متطلع

 

 في إحدى المدن العريقة الصغيرة الساجية ليلاً تحت أجنحة الظلام والهادئة من أمان تحت نور الشمس وبين الأزقة التي عمرها أهلوها بالدين والتقوى والصلاح وبين البيوت الأصيلة التي طالما سلم الآباء فيها جيلاً بعد جيل ألوية الشرف الى أبنائهم وأحفادهم ناصعة غير مشوبة.

هنالك رقدت في خاصرتها كجرح غائر (دربونة متطلع) كان الظلام يستعبدها في الليل والظل يرسو بأشرعته العديدة المتباينة عندها في النهار فلا تزورها الشمس الساطعة الا غباً والقذارة تعيث فيها فساداً ويسلمها الإهمال ليد السوء والى لون العفن ورائحته لم يكن أحد من الجوار يستطيع السير فيها ولا الاهتمام بها وبنظافتها وإزالة أقذارها ولو بين آن وآخر ذلك إنها غدت مأوى للمشردين من العقلاء والبائسين ممن فارقتهم عقولهم وعافتهم رجاحة العقل والاتزان حتى إن بعضهم لم يعد يعرف من هو ولا ما اسمه ولا يتذكر مهنته بل إن منهم من فقد السيطرة حتى على جسده ومتطلباته وحاجاته الطبيعية لذا غدت هذه ” الدربونة ” أفضع من مربط الحمير .

وكان من بين من يلوذ بها أغنياء قد فقدوا صوابهم فكبت بهم الدنيا فهم والمتسولون على صعيد واحد وخط مستقيم إذ إنهم جميعاً يحصلون على طعامهم من أبواب الناس أو من صدقة أصحاب المال والتجار ومن أصحاب الحوانيت والمطاعم فإذا عادوا به الى مأواهم أكلوا وشربوا وتقاسموا وتشاركوا وبعثروا ما شاءت لهم عقولهم الخربة  وتلك العادات التي اكتسبوها من (الدربونة) فكانوا ينامون كما الحيوانات حيث تحط بهم الرحال وإن تحدثوا كانت الهمهمة هي غالب حديثهم ونجواهم .

غير إن خيطاً واهياً من الإنسانية لا يزال يشدهم لبعض فهم تارة يتوادّون ويتراحمون وتارة يتنازعون ويتخاصمون . وبعضهم يحب بعضاً أحياناً ليكرهه في أحيان اخرى بلا سبب واضح بيّن . قامت بينهم روابط إنسانية مشوهة فتراهم أحياناً يجودون ببعض ما جاءوا به من طعام وشراب على بعض وأحيانا يتخاصمون مع من يمد يده لطعامهم أو يأخذ مكان نومهم ويتنازعون حتى على الهواء الذي يتنفسونه .

  أصبحت قسمة واحدة منهم فقد فقدت أخيراً رشدها وهي السليلة والعريقة نسباً الجميلة وجها ًوهي سيدة من سيدات المجتمع تزوجت طفلة وأنجبت وربت خير الرجال وليس بينها وبين أكبرهم الا عقداً وبضع سنين .

لذا رأت مبكراّ أحفادها وهم يجوبون المنزل ويُفرحون الدار ومن فيها بحبوهم وبألعابهم وصخبهم . مات عنها الزوج مبكراً غير إن عرشها لم يهتز ومكانتها لم تتغير ولم تتزعزع هيبتها حتى أصابها المرض مبكراً مع إنها لم يزل فيها من الشباب والجمال والقوة ما يمكن أن يكفي عشر نساء .

غير إن من سوء حظها وحظ أبنائها كان مرضها في عقلها فزايلتها الحكمة والإتزان وابتعد عنها الرشد  فغدت كثيراً ما تشرد خارج المنزل في دروب المدينة وأزقتها ساهية عن نفسها وقد تكون حافية القدمين أو مبتذلة الهندام أو قذرة الوجه والملابس  ثم التحقت طوعياً بأهل الـ (دربونة متطلع) وانتمت اليهم مختارة ومهما فعل أبناؤها وشددوا على أهل الدار والخدم كانت تنفلت من رقابتهم لتمضي لمستقرها الجديد .

 كان أولادها جميعاً من أهل العلم والمعرفة وقد تقلدوا مناصب رفيعة شتى في المجتمع فصار عارهم بلا نهاية وخزيهم معلن على رؤوس الأشهاد .

وفجــــأة وفي خضم حيرتهم وجزعهم اكتشفوا إن أمهم حامل وهنا كانت الطامـــــــة الكــــبرى وكان حملها متقدماً فلم يستطيعوا إجهاضها ومع أنهم عرفوا ذلـــــك ومن تسبب به  وهو مخبول آخر ينتمي الى ” الدربونة العوراء وعرفوا متأخرين إن الهوى والحب أعمى يصيـــب المجنون كما يصيب العــــاقل فهو لا يفرق بين ذي النهى وفاقده .

غير إنهم لا عرفوا حلاً ولا أدركوا ثأراً بل كان غاية ما فعلوه أن سجنوا امهم في غرفة قاصية من دارها الرحبة وأثقلوا بابها ونافذتها بأقفال حديدية صلبة ووكلوا بها من يقوم بشأنها  أمرأة شابة قوية كانت تعمل في سجن المدينة لا تستطيع امهم أن تخادعها ولا تراوغها ولا تنفلت منها . واحتفظوا بها مجنونة محجورة حتى موتها بعد سنين أما الطفل الذي أنجبته فلا أحد درى ولا سمع بما آل اليه أمره ولا كيف تصرف أبناؤها في شأنه .