مباحث في الاستخبارات (20) تجنيد العملاء




مدخل 
========
لاشك ان العمل الاستخباري يدور كما اكدنا مرارا في فلك استحصال المعلومات السرية, وبالتأكيد فان اهم وسائل استحصال المعلومة هو العنصر البشري الذي يتم تجنيده وزرعه.
ومما لاشك فيه ان العمل الاستخباري هو عمل عالي الخطورة في كل مفاصله , ولكن درجة مخاطرة العميل المجند المتواجد في كنف العدو هي بالتأكيد الاعلى على الاطلاق لانه يعد خائناً ولانه يسعى وراء معلومات سرية , وفي اغلب الحالات فان عقوبته الموت .
مقالنا يجيب بشكل مختصر عن الاساليب التي يتم بها اقناع شخص ما بتلك المخاطرة , وهو بالتأكيد لن يقبلها مالم تكون هنالك اسباب جدية وخطيرة تستدعي القبول .
==============
اهمية التجنيد 
==============
التجنيد هو من اهم اعمال الاستخبارات ويتم اعتماد ضباط متخصصين للقيام بهذه المهمة , لان استهداف وتقييم ومفاتحة وتجنيد العنصر هو فن ونوع مهم من العمل الاستخباري المحترف , فالاستخبارات الناجحة هي صاحبة الاذرع الكثيرة ولديها مصادر في كل مكامن الخطر القائمة و المحتملة.
فالخدمة السرية تعني ادارة العنصر البشري الذي يعمل لصالح الاستخبارات , وهي عالم خاص يعرف بعالم الجاسوسية الذي تحكمه ضوابطه وقوانينه الخاصة ويدار بشكل متشابه تقريبا في كل انحاء العالم وهو زبدة العمل الاستخباري الناجح.
فالاستخبارات الناجحة هي التي تعرف وتستقريء المستقبل وتضع اولوياتها له في برامج زرع المصادر بحسب مايوفر لها من معلومات وتقارير ومعرفة.
عراقياً , فان ظهور داعش الى السطح ومسكها للارض فضحا الفشل الاستراتيجي لاجهزتنا الاستخبارية في الاستقراء والتحليل وكشف عن افلاسها السابق في التجنيد وضياع الفرص الكبيرة .
ولكن القادم هو الاخطر , فالمنطق يقول انه كلما استطاع تنظيم ارهابي من مسك ارض فانه ينشغل بالدفاع عن الارض وادارة المدن وتذهب الكثير من قدراته التخريبية الى ادارة مناطقه والسيطره عليها كما هو حال طالبان وداعش , ولكن كلما تراجع وخسر الارض زاد اجراماً وعنفاً.
فقراءة الواقع تؤكد حتمية هزيمة داعش في معركة المسك العلني للارض , ولكن خسارة الارهابيين للارض سيفتح صفحة معركة شرسة تحت الارض .
فداعش الان تعيش في حلم (الدولة ) باحتلالها للاراضي , وبالتالي فان حربها الان هي حرب عسكرية , وداعش الان لها مشغوليات كبيرة في مسك الارض من جهة , وفي ادارة شؤون المواطنين الواقعين تحت سطوتها امنياً وادارياً ومالياً وحتى خدمياً , كما ان نشوة اعلان الخلافة المزعومة وسطوة تلك الخلافة تجعلها تبدو متماسكة وموحدة.
ولكن حين تمنى بخسارة الارض او مقتل الخليفة سوف تتفكك داعش الى مجموعة تنظيمات تتصارع على الزعامة وتكون منتهجة للعمل السري , وبسبب الموثرات والصراع الداخلي سوف تذهب الى التنافس بمزيد من العمليات الارهابية ضد المدنيين لتبيان سطوتها واثبات وجودها , وستتفرغ تلك التنظيمات للاعمال الارهابية , لاسيما بعد ان يزال عن كاهلها العمل الاداري الناتج عن احتلال الاراضي .
وهنا سيعود الصراع ضد الارهابيين استخبارياً بالدرجة الاولى فيبرز مرة اخرى الفشل القاتل لأجهزة الاستخبارات بشكل اوضح , وهو الامر الذي يستدعي التنبه الى ضرورة تنشيط تجنيد المصادر والخدمة السرية الخاملة في اجهزتنا .
==============
اساليب التجنيد
==============
هناك مجموعة اساليب لتجنيد المصادر تعتمدها وتتقنها اجهزة الاستخبارات وتعمل بها وقد تكون متشابهة في اغلب الاحيان وهنا نذكر الاعم الاشهر فيها , وسنتطرق الى انواع التجنيد الاستخباري وكيفية استخدام المصدر واستقطابه وجعله ضمن المنظومة الاستخبارية والاستفادة من خدماته , مع مراعاة ان التجنيد هو لنا وعلينا, وان لكل نوع من التجنيد نقاط قوه وضعف وفوائد واضرار لا يتسع المقال لذكرها, وانواع التجنيد هي :
1- التجنيد الوظيفي : اي ضمن الخدمة الوظيفية يقوم الجهاز بتكليف احد او مجموعة من عناصره يحملون صفات خاصة ويمكنهم التعايش مع العدو ويتم تدريبهم وتحضيرهم لهذه المهمة ومن ثم زجهم بطرق مختلفة للالتحاق بالعدو , وقد استخدمت هذه الطريقه بكثرة ايام الحرب الباردة. 
ويشمل التجنيد الوظيفي كل المواطنين من حملة جنسية البلد, فكل مواطن يخفي معلومات تخص الامن عن بلده يعتبر شريك للارهاب , ومن هنا ياتي خطر الجنسيات المزدوجة للمسؤولين وحتى للمواطنين في العراق فمابالك بالمسؤولين الامنيين والعسكريين؟
فحمل الجنسية تترتب عليه التزامات للادلاء بالمعلومات للبلد الذي تحمل جنسيته , وعلى هذا الاساس تمنع الدول الكبرى والمتقدمة اي شخص مزدوج الجنسية من الانتساب الى اجهزتها الامنية والاستخبارية, ويكاد يكون العراق هو البلد الوحيد والفريد الذي يسمح بذلك .

2- التجنيد القهري او التجنيد بالابتزاز : وهو الاسلوب الاكثر شيوعاً بين اجهزة الاستخبار في مجالي المصادر والمخبرين , وتتضمن استخدام نقاط ضعف الشخص وتهديده بفضحه مالم يتعاون , ولطالما نجحت استخبارات العالم باصطياد الكثير بهذه الطريقة بالاخص حين يكون المستهدف بالتجنيد خارج بلاده في سفرة او دورة وغيرها , احياناً تكون الفريسة من الشخصيات المهمة , ولكنها تستخدم ايضاً بكثرة في استخبارات الشرطة والاستخبارت الجنائية لإستخدام اصحاب السوابق ضد عناصر العصابات , فتأتي بشخص متلبس بالسرقة وتجعله يتعاون معها خوفاً من محاسبته وتجنده ليكون مصدراً بين فئة السراق واصحاب السوابق.
ونشير هنا ان تفشي التجنيد بالابتزاز هو مايجعل كل بلدان الدنيا (الا العراق )تمنع عناصرها العسكرية والامنية والاستخبارية من السكن خارج البلد ماداموا في الوظيفة , واحيانا يمتد المنع بالسفر لما بعد الوظيفة ب10 سنوات, لانهم سوف يخضعون للتجنيد القهري بحكم الحاجة الى الاقامة والفيزا وماشابه وهذه تستغل من قبل استخبارات الدول لاخذ المعلومات , ناهيك عن احتمالات وقوعهم في فخاخ المخابرات المعادية وتجنيدهم .
اننا للاسف البلد الوحيد في العالم الذي يسمح لكبار رجالات الامن بالسكن خارج البلد.

3- التجنيد العقائدي : وهو من اخطر انواع التجنيد الذي يعمل فيه الشخص المجند بالمجان بل انه مستعد بالتضحية بكل مايملك وحتى بأهله وحياته في سبيل مايعتقد ولافرق هنا في العقيدة سواء كانت دينية او مذهبية اوكانت معتقداً فكرياً وسياسياً كما في الحركات المتطرفة القومية , وقد نجحت التنظيمات الارهابية في هذا النوع من التجنيد من خلال تجنيد الانتحاريين .
4- التجنيد الثاري ( الانتقامي) : يستخدم هذا الاسلوب في حالات احساس الفرد او المجتمع او شريحة من الناس بالغبن والخسارة او قد يكون هذا الاحساس من اساليب الدعاية والحرب النفسية ولكن قد تاثر بها الناس وهذا دافع كبير للشخص الغرض منه الثأر او الانتقام من الفئة والحكومة او الشخص المتسبب بذلك , وتتم تغذية هذا الشعور من قبل الاجهزة الاستخبارية لتجنيد اناس موتورين يسعون للانتقام , وهذا الاسلوب اصبح من ابرز الموثرات في المجتمع العراقي ويستخدم بشكل مفرط.
فعادة مايكون الاشخاص الذين خسروا احد افراد عائلتهم بسبب الانتماء مثلا الى داعش ومقتل الشخص في مواجهة القوات الحكومية يكون من السهل تجنيد ابنه او شقيقه لصالح داعش
5- التجنيد المالي : ويتم من خلال شراء الذمم وقد يستخدم هذا الاسلوب مع الشخصيات التي تشعر بحاجتها الى المال والثراء بشكل هووس وخشيتهم من خساره نفوذهم وتعودهم على حياة الرفاهية , او بعض التجار الذين يتعرضون لخسارة كبيرة ويفقدون قدرتهم المالية او شخصيات حكومية تخسر نفوذها ومواردها المالية.
6-التجنيد من خلف ستار : (الايهامي )وهو نوع من الخداع الذي يتم من خلاله تجنيد افراد دون علمهم من خلال واجهات استخبارية كجريدة او مركز ابحاث او مركز دراسات او منظمة مجتمع مدني او واجهة حزبية وفي هذه الحالة يتصور الشخص انه يعمل لصالح جهة ما في مجالها ويخلص في جلب المعلومات لمن يستخدمه.
وتستخدم هذه الطريقة مع الاشخاص الذين لاينفع معهم التوريط المباشر , حيث يتم استخدام واجهات علمية او تجارية او صحفية او بحثية.
وفي بعض الاحيان يتم ايهام الفرد بانه يعمل لخدمة اجهزة بلده ولكن الواقع انه مجند لجهة اجنبية لايعرفها , وكثيرا ما تستخدم الموساد الايهام في تجنيد المصادر بإسم الCIA مثلا وهي تستخدم الغطاء الامريكي بافراط.
7- التجنيد الاختباري: وهو ماتقوم به اجهزه الاستخبارات من خلال تشكيل خلايا سرية وهمية تقوم بالتحرك على عناصر الاستخبارات ومحاولة مفاتحتهم بالتجنيد لصالح جهة ما او مخابرات دولة اخرى مقابل مغريات لمعرفة رد فعل الشخص وهل يقبل او لا وهل يقوم بالإخبار عن محاولة تجنيده , وهو نوع من مكافحة تسريب المعلومات والتخابر , لاغراص التدريب او عملية استقصائية لزيادة المقاومة والمناعة في المؤسسة وعناصرها.
8- التجنيد العكسي او المزدوج :ويتم من خلال الضغط على الجاسوس المعترف بالعمل لصالح اجهزتك مقابل عدم اعدامه , ويكون شريط اعترافه اداةابتزاز له للقبول , فيصبح عميلاً مزدوجاً وغالباً ماتكون الاستفادة منه في تمرير معلومات مغلوطة ومضخمة الى العدو وارباك معلوماته , وهو تجنيد غير مكلف في الجهد ويحدث من خلال كشف او اعتراف المصدر.
9- التجنيد الاستثماري : وهو تجنيد بعيد المدى يحتاج الى الصبر ويتم فيه اختيار شخص كفوء من دولة ما ورعايته ودفع تكاليف دراسته مثلاً ويصبح صديقاً للجهاز الاستخباري ويتم الاهتمام بكافة شؤونه , ولا تطلب منه اعمال تجسس بل يُرعى كأنه استثمار للمستقبل , ويتم تركيز الاستخبارات على طلبة البعثات الاجانب لاسيما في كلياتها العسكرية والمعارضون السياسيون واللاجئون وغيرهم .
وشيئاً فشيئاً تقوم الاستخبارات بتطويره ليصبح مؤثراً في بلده كرئيس حزب او قائد معارضة او زعيم ميليشيا او زعيم طلابي او عمالي او نائب برلماني وقد يصل الى رأس الهرم ويصبح من قيادات البلد وبذلك تكون مقدرات البلد بيد الدولة التي جندته واجهزتها الاستخبارية.
===============
العراق ساحة التجنيد
===============
ان ضعف الدولة وانحسارالحس الوطني والاحساس بالظلم وفقدان العدالة الاجتماعية وعدم تكافؤ الفرص والفساد وتراجع التعليم والفقر وفقدان القيم والنموذج الصالح والانحطاط والانحلال الاخلاقي وتنامي الحس الانفصالي وعدم الشعور بالامن و عدم احترام القوانين والتفرقة والتمييز , كلها عوامل تؤثر في تسهيل عملية التجنيد. 
ان العراق ساحة تتوفر فيها جميع اساليب التجنيد غير المتوفرة في اماكن اخرى , وهذا الامر يزيد من مهام الاجهزة الامنية المكافحة ولكن يجب ان يكون عاملا مساعداً لسهولة التجنيد الايجابي لاجهزتنا الاستخبارية وهو مالم يحدث للاسف.
ونفس هذا العوامل والدوافع متوافرة بشدة لدى داعش من استخدام القوه والعنف والظلم والاستبداد وضياع المستقبل والمحاباة و لكنها لم تستغل بالشكل المطلوب من قبل اجهزتنا.
=========
خلاصة
=========
قصة التجنيد لا تنتهي وهي مستمرة والاجهزه الاستخبارية المحترفة تبذل الجهود دوما للمضي بشكل صحيح في هذا المجال وتطبيق الاسلوب المناسب لكسب الولاء والتأثير على الناس لاختيار المصادر.
ولكن استخباراتنا غافلة للاسف عن بذل الجهود في هذا المجال , والدليل على ذلك شحة المعلومات التي تمتلكها عن عدو يقع تحت اعينها كداعش , فمابالك عن قدرتها في تجنيد عناصر مفيدة في بلاد غريبة عنها ؟ .والله الموفق