مدخل ====== من المفارقات الملفتة , ان العمل الاستخباري السري يعتمد في الكثير من روافد معلوماته على المصادر العلنية بما يصل الى 50% من المعلومات , وقد زاد اعتماد الاستخبارات على المصادر العلنية مع تطور التكنلوجيا وتوسع تأثير المرئي والمسموع والمقروء . فكانت المصادر العلنية تكبر وتكثر ويزداد الاهتمام الاستخباري بها, وأخذت تتقدم على باقي أنواع الجمع لتتربع في مدخل الألفية الثالثة على أعلى سلم مصادر المعلومات في الاجهزة الاستخبارية, ومن هنا فلابد من ان نسلط الضوء على تلك المصادر ومدى اهميتها . =============== المصادر غير السرية =============== تشمل المصادر العلنية كل شيء مرئي ومسموع أو مقروء متوفر لدى الجميع اي غير ممنوع عن الناس من خلال وسائل الاعلام كافة والوسائل الالكترونية والكتب والمؤتمرات والاستبيانات والمحاضرات , وتسمى استخبارياً بشبكة الرصد العلني او المراقبة العلنية أو الجهد العلني, ويسمى ضابط المعلومات العلنية بضابط الرصد وهو مشابه لضابط الارتباط بفارق أن ضابط الارتباط مصادره سرية وضابط الرصد مصادره علنية. وقد طورت دوائر الاستخبارات شبكة الرصد العلنية بشكل كبير بعد ثورة تكنلوجيا الاتصالات والإعلام , وأصبحت شبكة الرصد أكبر الاذرع الاستخبارية التي ترصد وتدقق وتتابع مواقف الدول والعالم والتنظيمات ويتم التركيز على دول او منظمات العدو و الدول المساندة والمتحالفة معه . وتطورت شبكة الرصد العلني من خلال خبراء في الرصد والإعلام والتحليل , وأخذت ترصد سير العمل السياسي والإعلامي و الاجتماعي وحقوق الإنسان والاقتصاد والسوق والبطالة و الهجرة والديمقراطية و الحريات. ولم تتوقف إلى هذا الحد بل استحدثت طرق وأساليب لمعرفة ردود الفعل واحياناً يتم تكليف مراسل أو صحفي أو كاتب بكتابة مقال بعد تزويده بمعلومات صحيحة أو مغلوطة أو مفبركة وتنشر في أشهر الصحف العالمية وتنتظر رد الفعل من الدول المستهدفة. كما تم ابتكار مراكز البحث والدراسات تابعة للاستخبارات كنوع من الاستخبار وتوجيه الرأي العام و التلاعب بالقناعات والأفعال أو للضغط السياسي. بل لطالما قامت الاستخبارات بإنتاج شخصيات عالمية كخبراء استراتيجيين أو أمنيين أو عسكريين أو سياسيين , وهؤلاء يعملون في الواقع كأذرع خفية للاستخبارات العلنية. ولم تكتف الاستخبارات بالذراع العلني كمصدر للجمع فقط بل أصبح أحد اساليب التأثير والضغط والتشويش والاستهداف وخلق الرأي العام من خلال استغلال عالم الاتصالات والتكنلوجيا كما حدّثت اساليبها ومشاريعها لتواكب وتسيطر على الشبكات العلنية. و غدت دولة كقطر بالرغم من صغر مساحتها وعدم تمكنها من تكوين جهاز استخباري فاعل ولكنها استعاضت عنه بإنتاجها لمؤسسة الجزيرة الامر الذي اصبحت قطر معه تأخذ دورا أكبر بمئة مرة من حجمها السياسي الحقيقي, وهذا نموذج للكيفية التي يصبح الذراع العلني هو من ينفذ السياسات والاهداف في الدول المتقدمة فامتزج الذراع العلني مع الحرب النفسية ليصبح جزءاً كبيرا منها. ================== تصنيفات المعلومة العلنية ================== اذرع جمع المعلومات ستة اذرع تُعتمد عالمياً في الوقت الحاضر , وهي : العلنية و السرية و الفنية و التواصلية و التبادلية و التغذية العكسية(راجع مقالاتنا السابقة في ذات السلسلة). وتأخذ العلنية حصة الأسد من كم المعلومات حيث تستحصل على 50% مما تحتاجه الاستخبارات المحترفة وتعتبر هذه النسبة مهمة جدا فهي توفر نصف ما تحتاجه الاستخبارات. وتصنف المعلومات الاستخبارية إلى عشرة انواع هي (إشارة .. استكمال .. وصفية .. كمية .. دورية .. اعلامية .. اعتراضية .. نقطوية ..معالجة .. مهمه), وتدخل في هذا التصنيف أنواع منها تكون ضمن المعلومات العلنية وهي : 1- معلومات الإشارة : وهي اية معلومات أولية , وغالباً ما تكون علنية كأن يعلن العدو( تنظيماً أو دولة) بأنه أنتج تجربة صاروخية ناجحة , وهنا تأتي الإشارة من المصادر العلنية حول هذا السلاح ويفرد له ملف . 2- معلومات الاستكمال : أي المعلومات التي نستكمل بها الملف , و يمكن أن نستفيد من الذراع العلني لإستكمال الكثير من المعلومات وتجميع التصريحات والتقارير وفرزها. 3 - المعلومات الوصفية : وهي المعلومات الجغرافية والحالة النفسية والمشاكل والنواقص والأزمات وغيرها, و الكثير منها علني. 4 . المعلومات الكمية : ويتكون جزء كبير منها من الذراع العلني وغالبا ما تكون على شكل إحصاءات وارقام. 5- المعلومات الدورية : وهي مجموع فعاليات ونشاطات العدو السياسية والإقتصادية والشعبية وغيرها, و غالبا ما تتوفر من الذراع العلني . 6- المعلومات الاعلامية: وهي من صلب عمل الشبكة العلنية , وتبين نشاط العدو وإعلامه . 7- المعلومات الاعتراضية : هي أن نعرف ماذا يعرف عنا العدو و يتحقق جزء منها من خلال شبكه الرصد العلني. اما معلومات المعالجة والمهمه والنقطوية فعادة ما تكون من خلال الاذرع الأخرى , ومن هنا نعرف ونفهم لماذا تعطي الاستخبارات نسبة ٥٠% للشبكة والذراع العلني. =============== رصد اعلام العدو =============== ان من ابرز أعمال الاستخبارات بذراعها العلني مراقبة اعلام العدو وجمع معلوماته وما يصرح به ويعلنه ويقوله وهو مهم جدا إحصائياً , فعندما يفجر انتحاري من تنظيم داعش في مكان ما , يعلن بعد ساعات عبر شبكة (أعماق) الداعشية اسم المجرم الذي قام بتفجير نفسه . ان تجميع هذه الإعلانات يوصلنا من خلال خبراء التحليل إلى عدد الانتحاريين وأسمائهم والفئة العمرية وصورهم ومن اي جنسيات ينحدرون ويمكن من خلال هذه المراقبة الدقيقة الوصول لأ جوبة كثيره ودراسات دقيقة عن أخطر سلاح العدو وهو الانتحاري , كما يمكن متابعة عوائلهم ومتعلقاتهم وإقامة دعاوى قضائية على الدول التي يحملون جنسياتها وإيجاد تحليل علمي للموضوع وفهم آلية استقطابهم والبيئة التي يتشابهون فيها والقواسم المشتركة وغير ذلك . ومن خلال مراقبة اعلام العدو وخبرة المحللين وجدية ضباط الرصد ومثابرتهم نستطيع أن نتبين أفكار العدو ومشاريعه وخططه وتصبح لغته الاعلامية لعناصره مفهومة لدينا وواضحة ونصبح قادرين على استقراء مشاريعه وتحركاته. كما سنعرف الدول الداعمة والمساندة والمؤسسات الاعلامية المجندة له واية دولة تدعمه اقتصادياً أو جغرافياً أو عسكرياً أو إعلامياً أو دينياً , ونكشف حربه الاعلامية وأهدافه النفسية ونقاط ضعفه وقوته , لنركز على نقاط ضعفه وضعف مسانديه. ان الذراع العلني مهم جدا ويجب ان يعمل بشكل دقيق وعلمي , وتصنف مراكز اعلام العدو وترقم ويوضع لها رصد مستمر وتجمع جميع عمليات الرصد في مركز الدائرة العلنية ومن هناك تبعث الى مركز التحليل لإجراء عملية المسح والتحليل الكاملة واليومية وتقييم الاخبار ووضعها ضمن ملفاتها , وبعد التقييم والتحليل توضع تحت تصرف المعنيين مع المقترحات , وهي عملية مشابهة للذراع السري ولكن بأدوات علنية. ان الكثير من معلومات العدو العلنية تسهل عملية تحليل المعلومات السرية وتكاملها , فعندما نستحصل معلومات من المصادر السريه عن حركة ارتال للعدو او نقل سلاح او نقل متفجرات او تدريب انتحاريين , فقد نحصل على تعزيز علني يعضّد المعلومة السرية ويكملها من خلال تلميح او بيان او خطبة او تصريح للعدو تحل لنا الموضوع وتبين ان هذه الفعالية او مجموعة الفعاليات متجهة الى الجبهة الفلانية . كما نتمكن من تقييم ادائنا الميداني وحركة قطعاتنا ومعاركنا حسب ردّات فعل اعلام العدو , فعندما تصرخ الجزيرة القطرية وتصبح منبرا علنيا للدفاع عن داعش وتصيح وتتباكى على الفلوجة وتفرد برامج خاصة لذلك , فهذا مؤشر استخباري بأن العدو ينهار وينكسر وان العمل الميداني يضرب بشكل صحيح. ونكاد نجزم (للأسف الشديد)أن اجهزتنا الاستخبارية لا تقوم بهذا الجهد ولا تهتم له برغم بساطته والفائدة الكبيرة منه. =========== بلد بلا اسرار =========== لقد دفعنا ثمناً باهضاً بسبب رصد العدو العلني لإعلامنا , فلدينا للأسف الشديد فوضى لإعلام منفلت وغير منضبط وغير محترف ولا يميز بين حرية الإعلام والسبق الصحفي والتكتم والأسرار الامنية , فترى المراسل في الجبهة يتكلم عن المكان وأسلوب المعركة والخطة ويلتقي بالمقاتلين ويتكلمون عن انتمائهم ووحداتهم وخطط الهجوم , ويعرض الإعلام أنواع الأسلحة والعجلات والتقدم. ناهيك عن الانفلات الكبير في تصريحات السياسيين والحكوميين والبرلمانيين الذين يتكلمون عن تفاصيل امنية دقيقة وخطط العمليات وبرامج الأمن وعقود التسليح وميزانية الحرب . الدول تدخل حروب ولديها ناطق عسكري واحد والجميع يصمت وفي العراق عشرا ت المتكلمين غير آبهين الى ان مراكز الرصد العلني في الاجهزة المحترفة تعمل على مبدأ .. لا تغادر صغيرة او كبيرة وتنظر لكل شيء وترصد كل شيء. ونستطيع ان نقول , بقلق بالغ , انه لا توجد اسرار في اجهزتنا الامنية والاستخبارية , فترى الأمر الديواني والوزاري والاداري والبرقيات و الخطط والتنقلات و أوامر الحركة والتوجيهات كلها على وسائل التواصل بعد دقائق من صدورها. فنحن بما يشبه مشروع ويكيليكس دائم ويومي , فحتى الرئيس الفرنسي لم يفلت من الانفلات الأمني فبمجرد دخوله لمطار بغداد صار جوازه على الفيس بوك . ولا تحتاج تنظيمات داعش ان تصرف مالاً لجلب المعلومات عن منظومتنا الامنية, فكل ما تحتاجه هو مجموعة راصدين على شبكات التواصل والاذاعات والقنوات وسوف تعرف كل حركتنا, فنحن لا نمتلك ثقافة حفظ السر , وعندما يرتجل المسؤول الأمني أمام الكاميرا فانه يسترسل بالحديث عن الحركة والخطة والاستعدادات والاسلحة وغيرها , حتى أن أحد القادة الامنيين ارسل رسالة مفتوحة إلى القائد العام نشرها في وسائل التواصل يطالب فيها التخصيصات وصرف الرواتب !!!,وما أن تحركت الفرقة 15 إلى كوردستان أو قبل الحركة, حتى أصبح الجميع يعلم بها . وهذا الامر يعود الى اننا لم نؤسس لمؤسسة تتولى صيانة اسرارنا ونعني بها مؤسسة الأمن العسكري. ================= اعلاميون في الاستخبارات!! ================= في كل دول العالم المتطورة وبرغم حرية الاعلام , لكن الاستخبارات هي دوماً مُوَجِّهٌ ومؤثرٌ كبيرٌ وفاعلٌ في المؤسسات الاعلامية ومن خلالها يستهدف ما يريد , اما في العراق فلدينا العكس . فالإعلام عندنا منفلت وقد يكون غالباً هو من يوثر على عمل الاستخبارات , والمفارقة الكبرى ان الاعلامي صار يعمل ويقود في اجهزه الاستخبارات وبمراكز متقدمة رغم الفوارق الكبيرة في الاختصاصين. ففي دولة لم ترتدع (في الحكومات المتعاقبة على عراق مابعد صدام الطاغية) من ان تعين وزيراً استوزر الدفاع والثقافة معاً في فترة ما , ولم يطرف لها جفن حين جعلت شاعرا كرئيس للجنة الامن والدفاع , في هكذا دولة لا تستغرب ان يتولى اجهزة مخابراتها اعلاميون !!!!. ونحن هنا لا نستهين بالإعلام والاعلاميين ولكن علينا ان نقرُّ ان الإعلام احد وسائل واذرع الاستخبارات , وهو عمل في النور ويميل العامل فيه الى الظهور والعلن , بينما الاستخبارات تميل الى السرية والخفاء , ولكننا في بلد العجائب . ======= خلاصة ======= ان اهمال دور المصادر العلنية يعني اهمال 50% من المعلومات اي نصف الاستخبار, ومن هنا لابد من الاهتمام بها والعمل على تحليل المعلومات المتدفقة والتي تبدو للوهلة الاولى كاخبار لا أسرار ورائها . كما ان علينا ان نعي اننا كما نَرصد فإننا نُرصد , وان عدونا الارهابي شرس وهو يرصد كل شيء واننا مفضوحون في تصريحات مسؤولينا واعلامنا , دون ادراك لمخاطر التسيب الامني , وان علينا ان نسيطر على اسرارنا ونسعى لبناء مؤسسات رصد لكشف نوايا العدو, والله الموفق.
|