يذهب الكثيرون وخاصة أصحاب نظرية التخصص أن الدين علم ومعرفة لا يمكن التعامل معها خارج ما يعرف بالتخصص العلمي، وبالتالي لا يمكن لأي كائن ما لم يكن متحرزا من وقوع الخطأ أن يتعامل مع الدين إلا من خلال الخبير العليم به، هذا المنطق يبدو للعاقل منطق واقعي وحقيقي لولا أن الدين لم يكن في يوم من الأيام علم ولا معرفة عارضة ومنتجة من خلال أليات ومناهج العلم والمعرفة، فهو ليس كالفيزياء مثلا علم محكوم بقوانين التجربة والبرهان والقانون، أو هو ليس مثل التاريخ كمعرفة تتراكم وتتطور وبحاجة لدارس منهجي يستخرج لنا القضية التاريخية بموجب فلسفة معرفية تؤكد للقارئ أو الباحث جملة حقائق، الدين عبارة عن علاقة فطرية أولية صاغها النص الديني وأرتقى بأحكامها لتكون دليل للعقل الإنساني نحو الكمال البشري النسبي، فهو قبل أن يكون عقائد وطقوس وعبادات هو دعوة للإصلاح ورسالة للخير وخطاب مباشر بين الخالق وصنيعته المخلوق خصوصا العقل، هذا الخطاب المباشر لا يمكن أن يكون عبر وسيط عالم أو خبير أو عليم، فقط تحتاج هذه العلاقة إلى قدرة عقلية لفهم ما يريد الله منا وأنتهى الموضوع وتأسس الدين، وما بعد ذلك يمكن لأي مطلع ومتطور في فهم العلاقة أن ينقل ويعرض تجربته للناس من باب الموعظة الحسنة. ما بعد الإيمان من فمر مؤسس على قضايا متفرعة من تبني الدين كخيار نعم يمكن للخبير والعليم أن يتخصص بها ولكن ليس من باب إلزام الأخر بها، كل القضايا التي يجتهد المفكر والمتخصص الديني في إيضاحها تبقى رأي شخص خارج حدود النظرية العلمية وترد كما يرد الفكر بالفكر والرؤية بالرؤية والفاصل هنا المطابقة مع هدفية الفكر وجوهره المعرفي، طالما أن الأجتهاد في موارد نص قد يكون في حاجة لبيان أو تفسير أو تأويل أو شرح هو عمل بشري فلابد أن يبقى بشريا قابلا لكل الأحتمالات لأنه أصلا أحتمال لا يجزم الأستدلال به ولا يكون لأنه غير معصوم كباقي الأفكار البشرية. إذن الأجتهاد المعرفي والذي يسميه رجال الدين أجتهاد علمي لا تنطبق عليه الحقيقة العلمية طالما أنه لا ينتج قانون صالح في أنتاج نفس الحقائق أو المخرجات في كل مرة تطبق فيها التجربة أو يخوض فيها البرهان، الأجتهاد على العموم هي خبرة ذاتية ومعرفة متراكمة يتبناها المجتهد كخيار شخصي ويطرحها أيضا كخيار شخصي من غير غطاء تمامي أو كمالي، بمعنى أن ما عندي ملزم أنا بصحته مالم يقوم دليل بالضد من هذا اليقين، وما عند غيري وفقا لأجتهادي غير صحيح طالما أنه لا يصمد أما فكرتي وكلاهما قابلان للبسط أو العزل وفقا لما يتحصل من برهان معرفي بالصحة أو العكس منها. طبعا من حق من لا يملك الدين على نقض قول المجتهد وفكرته أن يأخذ هذه الفكرة ويتعبد بها دون أن يتبناها كحقيقة غير قابلة للنقض وهذا الأهم، أما لكونها نتيجة بشرية لقراءة فردية أو لأنها مجرد صورة شبه يقينية ما لم يقم الدليل على عكسها، هذه الحقيقية تبقي الفكرة المجتهد بها في دائرة القبول والرفض في حدود الدليل ومعرضة دوما للتجديد، فالتقليد كما نرده هنا هو مرحلة أولى لقبول فكرة التجديد وحتميتها لأن تبدل الأفكار دوما مرتبط بتبدل طرق التعقل ووسائل التفكير، فكل تغير فيها ينتج عنه تغير في نتائج القراءات وبالتالي لا بد من تجديد التقليد تبعا لأي تغير يطرأ ينقض كليا أو جزئيا نتيجة الأجتهاد السابق أو يطوره أو يثري فيه معرفيا. التمسك بالتقليد وجعله القاعدة الأساس في التعاط مع الشأن الديني يسد على المؤمن طرق أكتشاف الحقيقية ويغلق عليه أبواب المعرفة بما في العقل من قدرة على التتابع في تطوير ما يقرأ وما يؤمن به، الدعوة للتقليد وإتباع الأثر والسلف والمرجعية على أساس أن العلم الديني بين مزدوجين قد وصل لنهايته، يدل على أن صاحب هذه الدعوة ومتبنيها لا يعرف الدين كخطاب عقلي ولا يؤمن بأن العقل الإنساني لما قبا سنه هو غير العقل الإنساني الأن مع تراكم التجربة العلمية والمعرفية وتطور وسائل الحصول عليها، حتى أضحى الكثير من رجال عقيدة التقليد اليوم ضحية الثقة المفرطة بما يؤمنون به أصلا وهو يجهلون الكثير من المفاهيم المؤسسة العلمية التي يمكن لها أن تطيح بقوة بكل أفكارهم المعرفية، والتي حصدوها من تجربة العلم السطحية التي يسخرونها في جزء منها لإثبات فكرتهم المجتهد بها وجعلها دليل كقضية دوران الفلك وقانون الجاذبية وقانون العلة والمعلول وغيرها من القوانين المنطقية والتي تخضع للبرهان المطلق. إن الإصرار على مبدأ تقليد المجتهد في فكرته وتجربة مع الجزم بأن ما يخالفها يعتبر خروجا كليا أو جزئيا عن دائرة الإيمان بالدين، تمثل وجه أخر من أوجه التكفير وتعطيل العقل الإنساني عن قبول فكرة التجديد والتحديد في أليات التعقل والتدبر التي دعا إليها النص الديني وشجع عليها، كما أنها تتعارض مع تجريد الإنسان من حق التدخل بين العابد والمعبود وبين صاحب الدين ومتبنيه ووضع حلقة ناقلة وسطية بينهما، بدون وجه حق وخالية من أي دليل أو حجة أو زعم من نص يطلب ذلك أو يدعوا لها، وهي في الأخر محاولة بشرية لأستبدال شكل العلاقة الروحية والعقلية بأضافة قناة خارج سياقات الدين، بمعنى أوضح وأدق أن التقليد بدعة تريد تحويل الدين من صورته المباشرة الفطرية إلى نوع أخر من صورة بشرية خالصة قابلة للتعارض والتشتت والتضاد، مما يخلق فرصة لتكوين أديان جديدة على أنقاض فكرة الدين الواحد ومن خلال تحويل هذه الأفكار إلى أيديولوجيات متحزبة لهذا المجتهد ولذلك النقيض كما هو حاصل الآن واقعا.
|