في ماساة "الحويجة" ابحث عن الحاشية ياسيدي

 

تصل أورانيا كابرال في رواية  يوسا الشهيرة "حفلة التيس" إلى مدينة سانتو عاصمة جمهورية الدومينيكان بعد غياب خمسة وثلاثين عاما لتصفّي حسابها مع ماضيها،  الذي لا تزال آثاره تفتك بروحها..
وإذا ما عرفنا أن الرواية تتناول  تلك الحادثة  المرعبة من حياتها يوم نبذ "تروخيللو  ديكتاتور الدومينيكان أباها الوزير، فبحث الأخير عن طريقة تعيد إلية الحظوة من جديد، ليجدها في نصيحة أحد أفراد الحاشية، وهي أن يقدم ابنته ذات الأربعة عشر عاما "أورانيا" هدية لليلة واحدة للرئيس الذي يبلغ السبعين، ليرضى عنه ويقرّبه ثانية. يقول الوزير: "ليس من أجل نيل ثقته، وليس لأثبت له بأنني مستعد لأية تضحية من أجله. وإنما ببساطة لأنه ليس هناك ما يرضيني ويسعدني أكثر من جعل الزعيم يُمتع ابنتي ويستمتع بها".. بالأمس أعدت قراءة فصول من الرواية،  وتذكرت المرة الأولى  التي قرأت فيها رواية  يوسا هذه  سنة 2002، يومها كانت الدكتاتورية  تطبق على  رقاب العراقيين، انتابني حينها،شعور غريب شعرت بأنني انتهيت من معايشتها، لا قراءتها، فهي أشبه بالواقع الذي كنا نعيشه  آنذاك، حيث الاستبداد منتشر في نسيج الخراب النفسي، والتدمير الذاتي، والموت الأخلاقي، وفي تحويل الشعور الإنساني إلى خرقة،  يقول أريك فروم عن حاشية المستبد  "ينجح الدكتاتور باستخدامه لأساليب القهر النفسي والذهني في أن يجعل من الطاقم الحاكم من حوله حفنة من الأشخاص المحبطين عديمي الكرامة، لأنه يظل ممسكا بمصائرهم " هكذا يختار الطاغية الفاسدين من البشر في نظام حكمه ليكونوا أصدقاء له، فهم عبيد النفاق والتملق الذين يصفهم فروم أدق وصف  حيث " لا يتعين عليهم أن يفعلوا ما يأمرهم به، بل عليهم أن يفكروا كما يريدهم هو أن يفكروا، وهو لا يكفيه أن يطيعوه، بل عليهم أن يشددوا انحناءهم أمامه، إن عليهم أن يرصدوا بكل عناية كلماته وصوته وعينيه وأي إيماءة تصدر منه ".إن نيل المكاسب والمغانم هو القيمة التي تسود ويعمل على شيوعها وتعميمها أولئك الذين قدموا الولاء، فكان بديلا للخبرة والمعرفة وللوطنية، ومع أن هذا الولاء قد يرتدي قناع الحزب الذي يصنعه الحاكم أو يستخدمه لتصنيع نفسه، وليس من المستغرب أن يرى المستبد أنّ القرابة هي الضمان الأول للولاء، ولهذا يكون أقرباؤه هم حاشيته وهم أول المستفيدين، تعمل الحاشية على  إيهام الحاكم بأنه محبوب من الجماهير، وذلك من خلال الحشود المسخرة بفعل الإرهاب المنظم لمظاهرات التأييد، ومن خلال منح العطايا والهبات. يكتب علي الوردي " الحاكم العادل يدرك بعدله لا بحدسه  فقط أن خراب الحكم يبدأ لحظة توسيع دائرة عبيد النفاق". ظلت مأساة العراقيين، أولاً وأخيراً، في أن حكامهم  دائما ما يصرون على إعلاء شأن الحاشية بدلا من المستشارين، حاشية مشكوك في قدراتها ومعرفتها، تستبدل مصالحها الشخصية بمصالح البلاد،  حاشية لا تريدنا أن نغادر عهد صدام   الذي كانت فيه  بغداد تسقط أمام  صواريخ الأميركان، فيما الصحاف يواصل إرسال برقياته التي تؤكد أن "العلوج" يندحرون ويذبحون على أسوار العاصمة.
يكتب محمد الماغوط: "الولاء الأعمى  مثل الجريمة العمياء"، ولذلك  نجد الحاشية تبرر للمستبد جريمته حين تصر على أنه يعرف كل شيء وأي شيء، فما الضير أن يحدد السياسة المالية، والتربوية، وأن يكون مسؤولا عن الأوقاف والنفط والعلاقات الخارجية  والمياه، وأن يضع النياشين فوق صدره، فلا أحد يجاريه في شؤون الأمن والأمان، فهو القائد العام ومسؤول الشرطة، والمعنيّ بأمر الجيش، وبيده فقط يمكن أن توضع خطط البناء والتنمية والصحة والخدمات، وتنسى الحاشية  أنّ الشعوب ليست في حاجة إلى حاكم  " سوبرمان " وإنما إلى مسؤول يخطط كيف يقودهم إلى الطمأنينة والأمان والرفاهية والعدالة الاجتماعية، أما حكام "الفقاعات" و "الجرذان" ومطلقو شعارات "ما ننطيها" وسنطاردهم "زنقة.. زنقة" فإن زمنهم ولّى، منذ أن ظهر حسني مبارك منكسراً ذليلاً  يُغني  "ظلموني". 
 يدفع العراقيون اليوم ثمن غياب مستشارين  يشيعون: القانون والحريات وضمان العيش الكريم للمواطن، عشر سنوات وقبلها عقود  من أجل لاشيء، سنوات من الأسى والخراب، وعقود ُتعمّد بدم الأبرياء، تتقدم الشعوب ونحن محاصرون  بحاشية أغرقتنا بأطنان من الشعارات والخطب، وأضاعت أعمارنا في الجهل والتخلف، شعوب لا تقبل أن تختار مسؤوليها إلا بعد أن تدقق في سيرهم الذاتية،  فيما نحن نعتبر ذلك ترفا، فمطلوب من  الناس أن تضحي من أجل المسؤول  الذي تحبه أكثر من وطنها، شعوب نزعت النياشين من صدور حكامها وعلقتها في المتاحف، فيما حاشية بلادنا مصرّة  على أن تزرع الأوسمة في كل مكان وأن تظل الناس تهتف:" كل العمر وياك ياقائد المسيرة ".
يقول يوسا في "حفلة التيس" تحاول  الحاشية أن تغطي على الخراب بالصياح، مأساة  حكامنا لم تكن في عجزهم وفشلهم في الحكم، بل  في عجزهم عن التحكم بضبط حركة حاشيتهم التي ترفع شعار " من يخالفك في الراي فهو عدو يجب استئصاله ".