مدخل ======= تحدثنا في الحلقة السابقة من سلسلة مقالاتنا (مباحث في الاستخبارات) عن التحديات ودور الاستخبارات في رصدها والحد منها وحصرها كي لا تتفاقم تلك التحديات وتتحول الى تهديدات . ان اية فرصه او تحدٍّ او مشكلة او مطلب شعبي او خلل امني او تشنج سياسي او ظاهرة اجتماعية او اومة بيئية , لا تعالجها السلطة ولاتهتم بها سوف تكون بمرور الايام تهديدا. فعندما يرتفع منسوب مياه نهر يكون قد اصبح تحدياً , فاذا لم يشخص ولم يتم التنبيه له من قبل الاستخبارات ولم يعالج من قبل الحكومة فسوف يتحول الى تهديد وسوف يضرب اساسات الجسر الذي يؤمِّن عبور الناس , فاذا تضرر احد الاساسات يُشخص على انه تهديد ضعيف واذا ترك الحل وضُرب الاساس الثاني يسجل كتهديد متوسط واذا استمرت الحالة وتضرر الاساس الثالث يكون التهديد قد اصبح قوياً , وهنا سيحتاج الى اعلان او الاستعداد لحالة الطوارىء , واذا اهمل وضرب الاساس الرابع يكون التهديد بمستوى خطير او شديد , وفي هذه المرحلة سنحتاج الى علاجات غير تقليدية وسريعة , واذا انهار الجسر نكون قد دخلنا مرحلة الانهيار اي قطع الطريق وتوقف الناس عن العبور . وكذا عندما سقط النظام عام 2003 , كانت احد مشاكل المواطن الطاقة الكهربائية , واصبحت ( فرصة ) امام النظام الجديد بان يقوم بتوفير الطاقه 24 ساعة ويؤثر في نفوس الشعب المحروم منها , وبعد الفشل ومرور بضعة سنوات تحول الكهرباء الى رمز للفساد والفشل واصبحت ( تحدياً ) , فاصبح المواطن يستهزيء بكل مسؤول محلي او من المركز ويقول : اتحداهم اذا استطاعوا ان يصلحوا الكهرباء , وشيئاً فشيئاً اخذ المواطن يفقد صبره , وبعدها اخذ الشعب يخرج بتظاهرات للمطالبة بالكهرباء وصار البعض يهاجم مجالس المحافظات فانتقلنا الى مستوى (التهديد ) . واستمر الموضوع ايضا دون معالجات وحتى دون اعتذار احد , وتزايد التهديد بسبب تصرفات الحكومة بشكل اكبر واكثر , فما بالنا اذا قطعت الكهرباء اسبوعا فحينها سيحصل (الانهيار) .وهو مثال صارخ لتصاعد اية مشكلة من مستوى الى آخر . ============ انواع التهديدات ============ التهديد متنوع ومتعدد في كل زمان ومكان , وهو يضرب في اي مكان في العالم , وتتنوع التهديدات وتختلف من تهديد ضعيف الى متوسط الى قوي الى خطير . ان قائمة التهديدات طويلة ومختلفة ومتنوعة ولايمكن حصرها ومنها : 1- التهديدات الطبيعية .. كالسيول والزلازل . 2- التهديدات الامنية .. كالارهاب والحروب والجرائم والعصيان . 3- التهديدات الصحية والبيئية.. كالاوبئة والامراض والاشعاعات . 4- التهديدات الحكومية .. كالسياسات الخاطئة ونقص الخدمات والفساد وفشل النظام التعليمي . 5- التهديدات السياسية .. كالدكتاتورية وغياب العدالة وفرض الارادات ,وضعف القيم السياسي. 6- التهديدات الاقتصادية كالتضخم وانهيار العملة والغلاء والاحتكار . 7- التهديدات المجتمعية ..كالنزاعات والتعصب والطائفية والتشدد الديني التكفيري . وتختلف التهديدات داخل الوطن الواحد بسبب عوامل جغرافية واجتماعية وبشرية وموثرات خارجية وغيرها كثير. فتختلف طبيعة التهديدات من منطقة الى اخرى ومن بيئة الى اخرى ومن جغرافيا الى اخرى فتكون المخدرات هي التهديد الاول في البصرة و التهريب هو الاخطر في الانبار و الاحتقان المناطقي في ديالى والجرائم في منطقة ما والارهاب الان هو الاولوية في الموصل وهكذا. =================== التشخيص الاستخباري للمخاطر =================== ان من اساس عمل الاستخبارات جدولة التهديدات وتصنيفها واعمال السيطرة عليها وفهمها ومعرفة اسبابها وجذورها ومستوى خطرها ومن ثم اقتراح الحلول اللازمة للتصدي لها وعلاجها . ان على جهاز الاستخبارات ان يشخِّص ويميِّز التهديدات من منطقة الى اخرى ويضع سُلماً ورسماً بيانياً للاولويات فيها , وعلى الاستخبارات ان تكون دقيقة ومطلعة على كل المراحل والمستويات من التحديات الى كل مراحل التهديد وان تطلع الحكومة عليها, لتتفاداها , وان تعالج التهديدات حسب الاولويات من الاخطر الى الاضعف اي من الاعلى الى الاسفل, فمثلا داعش الان تهديد خطير لكل العراق وله الاولوية لذا تحشد كل الطاقات له ومحاربته. ان انتشار التهديد واستمراره يسبب اضعاف قدرة الدولة على المعالجة , ووفق نظرية(حرب البرغوث) التي ابتدعها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ والتي وصف الحكومة بالكلب الضخم فاذا هاجمته برغوثه واحده او اثنتان فهو لايهتم ولكن اذا اجتمعت عليه كل البراغيث ستشكل قوة تضطره الى الانهزام في تعبير عن حروب العصابات ,وبذالك نفهم ان التهديد الواحد قد لايكون خطيرا لكن تعدد التهديدات واستمرارها سوف يسقط الانظمة مهما بدت تلك التهديدات صغيرة . ان احد ابرز التهديدات التي تسبب نشوء باقي التهديدات يتمثل بالفشل في معالجة التهديد مما يولد مضاعفات وتهديدات اخرى وقد تتحول حينها الى ازمات تستفحل ويصعب علاجها . ان من ابرز واجبات الاستخبارات هي تشخيص التهديد في المستوى الاول الضعيف ومنعه من الوصول الى الشدة , وهو امر يأتي بالطبع في خطوة لاحقة لتشخيص التحديات . فلابد للاستخبارات من الاحاطة الاستخباريه الكاملة بالتهديد ومن ثم تصنيف التهديد حسب مستواه ومن ثم تجزئة التهديد الواحد الى اجزاء قابلة للسيطرة ومن ثم التحشيد باستخدام كافة اوجه المعالجة بدل الاكتفاء باسلوب واحد , كما لابد من تطبيق الاسلوب المرن في المعالجة واعادة تقييم الانجاز ومستوى التهديد ومن ثم القيام باجراءات كفيلة بعدم تكرار التهديد =============== الامن والاستخبارات =============== ان الاستخبارات تختلف عن الامن فكل مصدر قوة يجب اظهاره للعيان , فإذا صنعت دولة ما صاروخاً فهي تظهر التجارب على التلفاز وتعلن مداه وقدرته التدميرية لردع العدو وابراز العضلات والمناورات والاستعراضات لفائدة ذلك في الحرب النفسية وابراز القوة وهو امر يصح في مجال الامن , اما في مجال الاستخبارات فلا تعرض الاستخبارات عضلاتها وتعمل في السر وتظهر فقط نتاجاتها وانعكاسها . ان الشعور بالامن يتم بشكل عكسي , فعندما ترى رافعات وآليات في مكان ما ستستنتج بوجود بناء وعمل مما يعني ان هنالك استقرار, ولكن اذا خرجت صباحا وشاهدت دبابة في ناصية شارعكم, فسوف يوحي لك ذلك بان الامن مفقود وغير متوفر اي كلما كان الامن خشناً سيتحسس المواطن بفقدانه , فعندما تدخل المنطقة الخضراء وترى دبابة في البوابة فاعلم انها رساله لك بان النظام خائف ولا يشعر بالامن . وكمثال صارخ عن ذلك , كلنا يتذكر انه كان يرى صداماً محاطاً بالرجال والسلاح والحمايات وبإفراط في زياراته لأية منطقة او محافظة , ولكن حين احس بالخطر الحقيقي المحدق بنظامه نراه يخرج يوم 4/9 لوحده مع تسعة من افراد الحمايات فقط , وظهر يتمشى بين الناس بالاعظمية لدقائق معدودة اي عمل بالايحاء الامني الصحيح ليظهر ان الامن مستتب (وإن بعد فوات الاوان ) . فعندما يتكلم وزير امني عن الامن في التلفاز ويتحدث عن اصلاحاته وسيطرته الامنية ويطمئن الناس وبعد انتهاء المقابلة المتلفزه يذهب ويركب موكبه المكون من 40 عجلة وهو ايحاء صريح بانه خائف وان الامن مفقود وانه يكذب على الناس . بالطبع , لايوجد بلد ليس فيه تهديدات لكن قوه الاستخبارات تجعلها بلدان مسيطرة تخنق وتعالج التهديد بالاسلوب الناعم واحيانا باسلوب مرن دون الوصول الى المستوى الثالث وهو الاسلوب الخشن . فكلما سيطرت الاستخبارات ونشطت , كلما انخفضت الكلف والخسائر ووضعت العلاجات الصحيحة للبناء الامني وتقلصت التهديدات , فعندما نذهب الى بلد ولا نلاحظ مظاهر مسلحة وسيطرات ونرى انتشار الحريات والاستقرار فهو دليل على ان استخبارات هذا البلد قوية . ان على الاستخبارات ان تكون كمؤسسة الانواء الجوية وتعلم بالخطر مثلها , اي قبل وقوع الحدث حيث تذكر الانواء كل شي عن المسقبل غدا وبعد غد وان تضع اولويات التهديد وتنذر بما سيقع لا ما وقع . ======== المعالجات ======== ان من الضروري ان تتناسب المعالجات مع حجم المخاطر بلا افراط ولاتفريط , فاذا كانت الحاجة لاعتقال شخص نعتقله , واذا كانت الجريمة تستحق الاعدام فلابد من اعدامه واذا كان بالامكان ان تنتهي الازمة باعتذار حكومي فليكن , فوزير الكهرباء الياباني اعتذر عن انقطاع الكهرباء في منطقه معينة باليابان لمدة عشرين دقيقة بأن انحنى لعشرين دقيقة امام الكاميرات والتلفزة , بمعنى انه افرغ النفوس ورفع الاحتقان والشعور بالظلم الذي لم يدم سوى عشرون دقيقة بمعاقبة نفسه , ولاشك ان على وزير الكهرباء لدينا ان يبقى منحنياً لسنوات !!! . وتنقسم المعالجات الى : 1- المعالجات الناعمة : وهي معالجات طويلة الامد , وهي مزيج بين العمل الاستخباري والاجراءآت الحكومية وتأخذ دورها في فتره التحديات حتى المرحلة الاولى من التهديدات ( التهديد الضعيف). 2- المعالجات المرنة : هي مزيج بين العمل الاستخباري والشرطوي الامني دون استخدام الجيش مع اصلاحات واجراءات حكومية. 3- المعالجات الخشنة : وفيها يكون الاستخدام الكامل للقوات المسلحة لمعالجة التهديد . ونلاحظ هنا انه كلما اعتمدت الحكومة على المعالجات الخشنة فهي في حاله الضعف وكلما كانت بين المرنة والناعمة فهي في حالة قوة . ========= خلاصة ========= التهديدات تحمل في طياتها مؤشرين , الاول يشير الى الفشل الاستخباري في معالجة التحديات بمهدها , والثاني يشير الى اهمال الحكومة في الاستماع للاستخبارات , وفي الحالة العراقية نحن نرجح الاول , لان استخباراتنا للاسف لاتعي دورها الحقيقي في الازمات والمعالجات. ولقد تخطينا في العراق مرحلة التحديات ووصلنا في مشاكلنا الى مراحل مستعصية لايمكن ان تحل بدون جهد استخباري حقيقي يعيد الدور الى مراحل المعالجات الناعمة بلا عسكرة . فالحلول الامنية والعسكرية هي حلول مؤقتة لاية ازمة وهي تعطي انطباعاً على الفشل الاستخباري الذي اذا ماتم الاهتمام بتطويره فانه يغني في معظم الاحيان عن العسكرة , وفق المقولة الشهيرة ...الوقاية قبل العلاج وخير منه, والله الموفق.
|