مباحث في الاستخبارات(32) ادارة الازمات


مدخل
=======
كنا قد ذكرنا في مقالين سابقين , ان مراحل قوة وضعف الانظمة والدول تتراوح بين الفرص والتحديات والتهديدات والانهيارات , وقسمنا التهديدات الى اربعة مراحل بحسب قوتها : تهديد ضعيف وتهديد متوسط وتهديد قوي وتهديد خطير .
ان الازمة تمثل تطور التهديد الشديد والخطير ليدخل مرحلة التنفيذ وصولاً للانهيار, فالازمة اذن هي المرحلة الاخيرة من الخطر الشديد . 
وسنبين في مقالنا اهمية الدور الفعال والحاسم للاجهزة الاستخبارية في استشعار وعلاج الازمات .

===========
ادارة الازمة
===========
الازمة كما اوضحنا هي الخط الفاصل بين الخطر ووقوعه , اما مرحلة مابعد وقوع الخطر فتعني ان الازمة قد توسعت وانتشرت , فالازمات تاتي بمراحل متسارعة من ردود الافعال الحكومية تبدأ بالصدمة والتراجع والاعتراف والتأقلم واستعادة زمام المبادرة التي لاتتم الا من خلال دقة المعلومات وثم تحديد الاهداف والاسبقيات وحيوية وحرية الحركة وسرعة العمل وحشد الطاقات وتجزئة المخاطر وعدم الافراط في المعالجات الخشنة ومن ثم تطويق الازمة .
والازمة تمثل لحظة حاسمة في حياة النظام السياسي الحاكم , فقد يعتقد الشعب بفشل حكامه بعد الازمة في حال عدم قدرتهم على تخطيها , وقد يتحول العلاج الصحيح للازمة لفرصة جديدة للنظام الحاكم بتعزيز الثقة فيه , الامر الذي يدفع الدول والحكومات الى دراسة الازمات السابقة لها ولدى الدول الاخرى , لاستخلاص النتائج والدروس ومعالجة الخلل ونقاط الضعف.
وتتفاوت الحكومات في اساليب التعامل مع الازمات من انكار او كبت او اخماد او سوء التقدير او محاولة تطويق الازمة او الالهاء لشعوبها بمشاكل فرعية او من خلال المعالجة بالمواجهة والشفافية , والاخير هو بالتاكيد الحل الجيد , ولكن الحل الامثل يكمن في توقع الازمات قبل وقوعها , وهو امر لايمكن ان يتم من غير الاعتماد الجدي على الاجهزة الاستخبارية قبل الازمة واثنائها وبعدها.وتؤسس الدول غرفاً بعناوين مختلفة للازمات من بلد لاخر وبحسب انواع الازمات , منها غرفة اداره الازمات وحكومة الازمات وغرفة الطوارى وغرفة العمليات وادارة الطواريء وادارة الكوارث والسلامة الوطنية وحكومة الطوارىء. 
والبعض من العناوين المذكورة مختصة في الغالب بالكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والامراض والفيضانات وغيرها, كادارة الطوارىء .
اما بالنسبة لادارة الازمات , فتشكل هيئة او مركزاً رئيسياً برئاسة اعلى منصب تنفيذي في البلد وعضوية الجهات المعنية بالدعم والمساندة وجهاز الاستخبارات والجيش وقوى الامن ومجموعة مستشارين.
ولعل اخطر الاخطاء الحكومية في التعامل مع الازمات تتمثل بثلاثة اشكال هي :
1- الاخطاء البشرية: التي تتمثل في عدم الدقة في المعلومات او التقييم او الاستنتاج .
2- الاخطاء الادارية: التي تبرز في التخبط اللوجستي وفي التحشيد الخاطيء وغير المناسب او بالاستجابة الخطأ. 
3- القرارات : المتعجلة والخاطئة التي تؤدي الى اشتداد الازمة 
والملاحظ من الاخطاء الثلاث انها بمجملها تأتي نتيجة عنصر المفاجأة ونقص المعلومات التي تشكل القصور الاستخباري , او الاهمال الحكومي لدور الاستخبارات .
================
الدور المحوري للاستخبارات
================
لعل اسوأ سيناريو للازمات في الحكومات الضعيفة يتمثل بالمفاجأة و نقص المعلومات وعدم السيطرة على تصاعد الاحداث مما يؤدي الى انتشار حالة من الذعر والخوف و غياب القرار. 
ولاشك من ان هكذا سيناريو يؤشر الى الضعف الاستخباري الذي يعني بالضرورة نقص المعلومات ومفاجئة الحكومة بالازمة وعدم تمكنها لاحقاً من اتخاذ القرار السليم لتطويقها.
الاستخبارات هي عين النظام , وعليها مراقبة كل التفاصيل والتسلل الى دائرة التهديد والتعرف على تفاصيله واهدافه وتطوره ودوافعه وتمويله ومساره ومراحله لتكون لدينا سيطره استخبارية على التهديد.
ان دور الاستخبارات مطلوب قبل الازمة وعند وقوع الازمة وبعد تلاشيها , اي ان الاستخبارات يجب ان تكون حاضره ومحورية على الساحة دوماً.
===========
استشعار الازمة
===========
للاستخبارات دورمهم وحيوي لتشخيص الازمة قبل حدوثها ومن خلال مراقبة تطور التهديدات واشتدادها , وعلى الاستخبارات تقليص عنصر المفاجأة المصاحب للأزمة ومعالجة نقص المعلومات المحيطة بالازمة واخذ كافة الاحتمالات والفرضيات مسبقاً والتنبيه لوقوع الازمة لسلب عنصر المفاجأة منها , وليكون النظام مستعدا لها غير متفاجئ بها على الاقل باعتبار اهمية وخطورة عنصر المباغتة. 
وتضع الاجهزة الاستخبارية العالمية معياراً يسمى ( التنبؤ الوقائي ) وهو ينتج بعد قراءة كل المعطيات وتطور التهديدات للخروج بفرضيات او سيناريوهات للتهديد في الحد الاعلى والادنى .
وتوضع الاقتراحات والاجراءات والخطط اللازمة والتحوطات لها ان حدثت او لم تحدث , وهنا تكمن قدرة النظام والدولة على تجنب المفاجآت والاحداث .
وبالطبع , فان النجاح الاستخباري في التنبؤ لايعني الرجم بالغيب وانما يأتي من خلال تنفيذ خطط محكمة للاختراق والتجنيد والتحليل .
فدور الاستخبارات الخطير يتمثل في الاستشعار والتنبيه منذ ماقبل تشكل الازمة ,اي قبيل ولادتها , من خلال تنبيه الحكومة للتحديات واستمرار الرصد للازمة في مرحلة النمو والانتشار وصولاً لاخطر المراحل المتمثلة بالانهيار .
ومما لاشك فيه من ان التعاطي الحكومي مع التقارير الاستخبارية التي تدق نواقيس الخطر يمثل الوقاية ومنع استفحال التحديات , شريطة وجود جهاز استخباري محترف ومنتبه وواعٍ لمهامه الجسيمة .
==============
التعاطي مع الازمة 
==============
كما ان هنالك ادواراً مهمة للاستخبارات اثناء حدوث الازمة بحكم وجودها داخل دائرة التهديد وعناصر الازمة , لذا فهي الاقدر على تشخيصها استخبارياً ومحاصرتها او توجيهها الى مساحات امنة او تضعيفها او تشتيتها او حصرها في مساحة ضيقة او حرفها عن غاياتها او تشتيتها وسلب قوتها الدافعة او التشكيك بمصداقيتها , وهي ادوار لايستطيع ان يقوم بها اي تشكيل حكومي سوى الاجهزة الاستخبارية المحترفة .
ثم ياتي دور لاستخبارات ايضا في توفير المعلومات ومعالجة نقص المعلومات في مركز القرار عن الازمة وتوفير المعلومات بشكل يجعل الدولة قادره على استيعاب الصدمة والتركيز ومعرفة مستوى الخطر .
ان ابرز ما تحتاجه الدوله اثناء حدوث ازمة ما هو القرار الصحيح المُتخذ عن دراية ووضوح , فالحكومة بحاجه الى معرفة دقيقة بالتفاصيل كي تتمكن من اتخاذ القرار الصحيح .
فالازمة تجعل الحكومة محشورة بين المعلومات ودقتها من جهة , والوقت والقرار والمعالجات من جهة اخرى , وعليها ان تتخذ اخطر واصح القرارات في ال24 او ال48 ساعة الاولى , لانها قرارات مصيرية , لذا يجب ان تكون القرارات مبنية على معلومات دقيقة ومؤكدة , والا ستكون القرارات كارثية تزيد وتعقد الازمة.
==================
استشعار الازمات في العراق
==================
العراق بلد الازمات في كل النواحي , ولكنه يعيش حكومياً وامنياً واستخبارياً في سبات عميق , فبرغم ان العراق يعيش في حالة طوارىء وازمات منذ 1980 , لكن قضية داعش كانت الاخطر بين جميع ازمات النظام الجديد , وهي مقال صارخ على الفشل الذريع في التعاطي مع التحديات والازمات وفي الفشل الاستخباري في الاستشعار والمعالجة .
فبرغم صراخ المسؤولين الحكوميين منذ عدة سنوات , بأن امن سوريا يوثر على العراق , وان اعلان انطلاق داعش قبل سنتين من غزوها للعراق بمسمى الدولة الاسلامية في العراق والشام (لاحظ ان العراق يأتي اولاً) , وبالرغم من مسكها لمناطق محاذية لحدودنا من الجانب السوري , وتعرض منافذنا وحدودنا لعدة هجمات وتساوقها مع قضية ساحات الاعتصام والشحن الطائفي المستمر وسقوط الفلوجة بيد الارهاب قبل دخول داعش الى الموصل ورفع شعارات القاعدة في ساحات الاعتصام و انقلاب الحكومات المحلية ضد الاجهزة الامنية في المحافظات الغربية وخروج الاف العراقيين للالتحاق بداعش في سوريا وتنامي التهديد للمستوى الخطير ولمده عام كامل قبيل سقوط الموصل والاعلام العربي المغرض الذي لعب دوراً كبير في تشنج البلاد , فبرغم كل تلك المعطيات , الا ان الاستخبارات لم تستشعر الخطر ولم تحذر من خطر قادم , ولم يبادر النظام الى الدفاع عن النفس من داخل الاراضي السورية (كما تفعل ايران الان حين تدافع عن حدودها ومصالحها بالحرب على داعش في العراق , وكذا ما يفعله الغرب في العراق)وكان جل مافعلته الحكومة والقيادة العسكرية ان اكتفت بتغيير بعض القيادات فقط دون تحشيد اوتأمين للشريط الحدودي , ولم تقم الاستخبارات بالذهاب الى التنظيم واختراقه في سوريا وكان الجميع يعيش في غيبوبة واستسلام غريبين .
ولم يستشعر النظام الذي كان غارقاً في صراع الانتخابات بالخطر الحقيقي وبقينا دون اي تنبؤ وقائي وبدون اجراءآت حقيقية على الارض , حتى خرج احد اعضاء القيادات الامنية البارزة ليقول لنا : ان السلاح في الفلوجة يكفي لتدمير العراق كله!!!!!!. 
بعد ان فشلت الدولة وملياراتها وجنرالاتها واحزابها من حماية الوطن جاء الشعب ليدافع عن ارض العراق بعد ان صحونا على احتلال ثلث العراق وسقوط محافظات كاملة وانهيارات , ولانغفل بالطبع الفتوى العظيمة للمرجع السيستاني بالجهاد لتكسر الصدمة وتدفع بالشعب للجبهات , هذا الشعب الذي كذبت عليه الحكومة وافهمته بانها دمرت اوكار المجاميع المتشددة الارهابية بانتصارات زائفة وانها متيقضة لكل مايحاك للوطن , واذا بالامر يتكشف عن شعب يدافع عن الوطن , ومسؤولون حكوميون يهرولون بصحبة عوائلهم باتجاه المطار للهرب .
========
خلاصة 
========
ان تجربة احتلال داعش لاراضينا والغفلة الاستخبارية والحكومية تمثلان صدمة حقيقية لأي باحث واي مهتم بشؤون الاستخبارات عن مدى تردي الاداء الاستخباري في العراق لاسيما في استشعار الازمات او في التعامل معها على ارض الواقع , وهو امر لايتم مالم نتعامل بوعي لدور واهمية الاستخبارات وضرورة بنائها وتحديد اهدافها بشكل علمي , والله المستعان.