الدكتور نبيه والمخابرات وفرس صدام !

في احدى الليالي الشتائية الباردة, وعلى ما اظن في أحدى ليال عام 1995 الحالكة الظلام , وحينما كنت اهم بالنوم في فراشي في القسم الداخلي لجامعة بغداد في ابو غريب وقد قاربت الساعة من منتصف الليل واذا بأحدهم يطرق باب غرف الطلاب , ليخبرنا ان نلبس ملابسنا سريعا ونحضر خلال خمسة دقائق للتجمع امام الباصات الخاصة للذهاب برفقة عناصر حزبية مع جهاز المخابرات العراقي الذي يروم شن عملية امنية لتطويق قرية الذهب الابيض في أبو غريب لوجود اعداد كبيرة من شبابها من المطلوبين امنيا ؟ ومما اثار حفيظتنا نحن الطلبة واستغرابنا هو ما علاقتنا نحن بجهاز المخابرات وعملياته ؟ المهم لم يكن لنا حق الاعتراض سوى الصعود في الباصات للتوجه الى القرية, التي وصلناها مع حلول الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لكننا كنا كأننا في كابوس مرعب لخوفنا من المجهول, ولآننا نجهل مهمة جهاز المخابرات وقد نتعرض لمفاجات غير مامونة العواقب .
حضر مسؤول حزبي بمعية مسؤول مخابراتي رفيع وقالا ان مهمة الطلاب هي تطويق المنطقة بطوق أمنى وأن عناصر المخابرات ستقتحم القرية والبيوت وأن أى عنصر يهرب من القرية ولا يستسلم للمقتحمين علينا أن نقتله على الفور؟؟
استغربنا جميعا من هذا الطلب المثير للحنق وللسخرية, فكلنا طلاب مهمتنا الدراسة وغايتنا العلم لا نجيد قتل فأرة في المختبر , فكيف بنا ان نقتل ادميا من جنسنا ؟ .
المهم ضربنا نحن الطلاب طوقا حول بيت كبير مشيد من الطين , حاله حال باقي البيوت , ثم طلب مسؤول حزبي من أهل البيت فتح الباب لكنهم رفضوا وهددهم وتوعدهم بأنه سيقتحم الباب , فأنطلق من داخل البيت صوتا ضعيفا متخاذلا منكسرا ,من خلال نبرته عرفنا انها عجوزا طاعنة في السن تتوسل بنا ان لانفعل لآن لا احد في البيت سوى الاطفال والنساء ؟ هنا صاح المسؤول الحزبي بنا ومعه مسؤول المخابرات أن نقتحم البيت , غير أن صوتا هادرا مدويا كان يقف بيننا صاح بنا : لا تفعلوا واياكم أن تفعلوا فلا يجوز أن ندخل البيت ونرعب أهله ؟ هنا امتعض المسؤولان الحزبي والمخابراتي من كلام صاحبنا واعترضا عليه بشدة فما كان منه الا أن أمرنا بالانسحاب فورا من المنطقه والتوجه الى سياراتنا للعودة, وسط تهديدات المسؤولان له بدفع ثمن غال جراء أمره بترك الواجب فرد عليهم أن أفعلوا ما بوسعكم فأنا لن أجازف بحياة طلابي, فهم امانة معي!!, وفعلا سحب جميع الطلاب وقفلنا راجعين الى الكلية ., وكلنا مذهولون مما حصل فكيف لهذا الرجل أن يتحدى أوامر الدولة متمثلة بأعلى السلطات فيها ,؟؟ حاولت التمعن في وجهه جيدا رغم الظلام فبالكاد تبينت ملامحه, لم المس الخوف او القلق في عينيه, بل كان صلبا واثقا مما فعل , ورحت اسال نفسي, أي عنفوان وشجاعة يتحلى بهما هذا الرجل في زمن تعودنا فيه رؤية جيوش المنبطحين والمتخاذلين ؟ .
في صباح اليوم التالي توقعنا جميعا أن تحضر سيارات المخابرات أو الحزب لألقاء القبض عليه, غير أن احدا لم يحضر, بل ظهر الرجل بكامل أناقته المعهودة وهو يتجول بارجاء كليته فقد كان عميدا لكلية الطب البيطري بجامعة بغداد , ورحت أمعن النظر باتجاهه ,أعد اصابع يديه العشرة فقد كانت كامله ؟, ونظرت باتجاه صيوان أذنيه لم ينقص منهما شيئا كذلك ؟ ومن ثم قادني الفضول الكبير للسوأل عن هذا الكائن الذي تحدى أعلى سلطتين في البلد في سابقة
لاتتكرر, فعرفت بعدها بحصول واقعة تعيسة أخرى أيضا كان بطلها صاحبنا , حينما جاء عناصر من ديوان الرئاسة ومعهم فرسا بيضاء للعلاج في كلية الطب البيطري ,كان صدام مولع بها كثيرا, ويستخدمها في كافة الأحتفالات التي تتطلب منه ركوب الخيل ,ومن سوء حظ الكلية أن يتم الخطأ غير المقصود طبعا بعلاجها مما أدى الى نفوقها وهي في طريق عودتها من الكلية باتجاه مزرعتها ؟ وفورا وصل الخبر الى الكلية والى صدام طبعا اولا , وتوقع الجميع أن صدام سيغضب كثيرا وقد يامر بغلق الكلية أو حبس كل الكادر التدريسي المتسبب بالخطأ, فهو مولع بحب فرسه الاثيرة لديه ؟ لدرجة أن الكلية فرغت من أساتذتها ولم يحضروا ثاني يوم للدوام خوفا من العواقب الجسيمة, وبأنتظار ما سيحصل ؟ لكن الرجل تدارك الامر وتحمل المسؤولية كذلك وانتهت الحادثة دون أن يعاقب أحدا ولكن تم تحنيط الفرس على أن توضع امام مدخل احد القصور لكي يشاهدها صدام حتى وهي محنطة فبعض الشر أهون !!.
صار الرجل نقيبا للأطباء البيطريين في العراق ولأكثر من دورة مع أنه عميدا لكلية , وكان صاحب علم كبير , كان طويلا ممتلئا مهيب الجانب, صاحب شوارب مفتولة وشعر اسود كثيف, يفرض احترامه على الجميع , ولطالما اعترض على وزارة الزراعة لتجاوزاتها على المهنة ولطالما وقف بوجه وزراء الزراعة المتعاقبين , واصطدم مع اكثر من مسؤول حاول غمط حقوق زملائه وكان بامكانه أن يجعل للبيطرة وزارة مستقلة لو يريد ؟ , كان لا أحد يجروء مهما كان مركزه بالدولة, أن ينال من المهنة, فالكل يحسب له الف حساب , اما احتراما وأما خوفا !! لقد كان للطب البيطري في عهده شأن كبير, ولكم أن تتخيلوا ردة فعله فيما لو كان حاضرا اليوم وهو يشاهد وزارة التعليم العالي تصنف كليات الطب البيطري كليات انسانية حالها حال كليات الاداب والتربيه والشريعة ؟؟؟ ولكم أن تلعنوا حظكم العاثر يامن لم تزامنوا هذه القامة الشامخة بعلمه وأخلاقه أبن العراق البار الذي يعشق كل شبر من ارض بلاده ويذرف الدموع حزنا وكمدا لأبتعاده القسري عن حبه الاول والاخير بلده رغم أن الامريكان عرضوا عليه أول ايام احتلالهم بغداد اعلى المناصب , لكنه رفض أن يلوث تأريخه ويضع يده بيد المحتل , فالتأريخ لا يرحم وسيجلد كل من راهن على ادوات المحتل , أنه الدكتور نبيه محمد عطا النخلة العراقية الشامخة , التي لاتموت الا واقفة