يخطأ من يظن أن الدين له نظرية خاصة في الشأن الأقتصادي تعبر عنه أو تسترشد بمبادئه النظرية التي حملها النص الديني أو عبر عنها بموجب أفكار عملية واضحة المعالم والخطوط، وأيضا مخطئ من يظن أن الدين كفكر لا علاقة مباشرة له بالأقتصاد كوجه من أوجه النشاط المجتمعي للإنسان في هذا الوجود أو أنه لا يهتم أصلا بمثل هذه القضايا العملية، فالأخير يمثل سلوكيا يوميا وتفصيليا وأيضا كليا تفرضها قوانين الواقع وتتعامل مع حركة الأسواق والأموال والبضائع بموجب ما يستجيب الواقع لهذه الحركة من ردات الفعل العامة عليه، بأعتبار أن جانبي الأقتصاد والمال لا يعترف بالقيم المثالية ولا يرضخ لها بقدر ما يرضخ للسوق وحركة رأس المال. وجه الخطأ في كلا العرضين هو أن الدين فكر عام مثالي إرشادي لا يتبنى طروحات تفصيلية إلا في حدود ضيقة وضيقة جدا خاصة في الجانب العملي من تجسيدات الإيمان به وأقصد جانب العبادات العينية، مثل الزكاة والخمس والأنصبة وما يتعلق بمواضيع عامة يمارس فيها الدين الدور الأخلاقي في رسم حركة الفرد والمجتمع، كتحريم الربا أو توزيع موارد التكافل الأخلاقي من ضروريات توزيع الثروة داخل المجتمع بالصيغة التي يرى فيها داعما للشعور بالمسئولية والتضامن الإنساني، هذه المفردات لا تشكل من حيث هي نصوص وأحكام خاصة نظرية أقتصادية وإن تطرقت في بعضها مثل في معالجة الموضوع الربوي، فعلم الأقتصاد والمالية وما يتعلق بها من مواضيع التجارة والسوق والتداول لها أطر وقواعد خاصة تحكم الحركة الأقتصادية وتنظم شبكة التعامل فيها. الدين محدد قيمي يتعامل مع عقل الإنسان وحدود سلطته تنتهي عند تحريك العقل نحو فهم كامل أو شبه مستوعب لقوانين الحياة، بعد ذلك الدين غير مسموح له من جهة المصدر أن يشرع قوانين أقتصادية حتى لو كانت هذه القوانين فيها جانب ناجح، لأن الله لا يريد من الدين أن يكون بديلا عن التجربة الإنسانية ونتائجها وفهم العقل لشرط التجربة وتحمل ما تفضي له، وصحيح أيضا أن النص الديني من خلال قراءة كلية لا يحبذ خروج التعامل البشري في الواقع العملي من الطبيعي في الأمور، فهو مثلا يشجع الإنسان على العمل الحر ويشجعه على السعي والبحث عن موارد السعادة، بل يأمر أحيانا بترك الكسل والتكاسل والأعتماد على الغير ولكن من خلال ما يسمى بالحث الإرشادي لا المولولي، كما يحث على الشعور بالأخر ومعاونته ولكن في أطار السعي فقط وأن لا تتجاوز على ما للآخر من حق متساو في ذات الموضوع. هنا من الواجب العقلي علينا أن نجرد الدين من أوهام النظريات، وأن نعيده كما هو وكما أراد له الديان يكون منهج إرشادي عقلي سامي، وندع العقل المسترشد بالمبدأ الأخلاقي أن يمارس دوره كقوة منظمة وفاعلة وخالقة للأفكار التي تنتمي للقيم الأخلاقية في هدفيتها، ولكنها تتجاوب مع واقع الواقع والقوى المتحكمة وتستجيب في سيرورته له دون أن نقحم الدين في كل التفصيلات، فنفسد علاقة العقل مع الدين مع أول فشل للتجربة الغير مناسبة ونضع كل اللوم على الفكر الديني لوحده، ولا نقول أن تدخلنا وإجبارنا للنص الديني أن يكون حاضرا في تفاصيل غير موجبه لحضوره هو السبب المباشر والأكيد لهذه التجربة الخائبة، وكأن التجربة هي تجربة الديان وليس تجربة الإنسان العاقل في الواقع المعاش. نعم الواقع الإنساني بجانه المادي المتمادي بتجرده وطغيان الأنا وقساوة الصراع بين المال ورأس المال من جهة وبين التفاوت البيني بين طبقات المجتمع، يحتاج إلى عامل مهدي ويساعد على توفير بيئة التوازن المستند على قيم أخلاقية، الدين هنا وبوجهه الأخلاقي وبخيارات الأحسنية والأخيرية يمكنه أن يلعب دور المرشد الروحي لتوفير خط تواصل بين القوى الأقتصادية وشبكة العلاقات الناشئة عنها، خاصة مع وجود الفوارق الطبقية الحادة وأختلال ميزان التناسب بين الإنسان المالك وبين الإنسان الذي لا يملك، هذا الدور الذي يجب أن يلعبه الدين ليس ترفا ولا زجا بغير سبب ولا ذريعة ضرورية، ولكن تدخله لا يكون بعنوان قواعد وأسس بل من خلال تعزيز روح الإنسانية بين الناس أولا وجعل المال والأقتصاد، وأن يكون مجرد عامل لتعزيز الرفاهية الإنسانية دون تركه أن يمارس دور الجلاد في المجتمع . الفكر الأقتصادي بحيثياته وقوانينه ومؤسساته طبيعيا كان على الدوام حرا وفقا لما في الطبيعية من براءة ومن مباشرة، أما تقنينه بنظريات وأفتراضات مؤدلجة حتى لو كانت دينية سوف يتعارض مع طبيعة الإنسان وطبيعة الواقع المباشر، وفي تعامله مع أول قاعدة أقتصادية التي هي عرض موجب وطلب مستجيب، تخصص وتنوع في الحاجات، تبادل في الأدوار مع تناسبها مع الماحول الطبيعي والظرف البيئي والذوق السلعي وتنوع الحاجات وتطورها، هذه المفردات الأسية لا يمكن تقنينها ولا يمكن أن نصيغها تحت قوانين وأطر تخرجها من التلقائية والمباشرة، نعم في القضايا الفنية والحسابات والتخطيط والبرجمة والخ من وظائف الأقتصاد، لا بد أن نعتمد المحدد العلمي والفني والتقني أما أساسيات المفردة الأقتصادية فلا بد لها من الحرية وخضوعها للخيار الإنساني.
|