حين ذهبنا الى الحرب .. كنّا نُغنّي . كانت مدن العراق كلها لاتزال ضاحكةً ، إلاّ البصرة . كانت البصرةُ تعرف أنّ الخرابَ سيبدأُ فيها .. ثم يعّم العراقَ شيئاً فشيئا. * في قطارِ الجنود ،النازلِ للبصرة.. كانت الأضواءُ مطفأةً ، وثمّةَ من يبيعُ "العَرَقَ" في العربات. كَرَعَ رفيقُ الدربِ نصف " البُطْلِ " ،واسْتَلَّ من جيب "القَمْصَلَةِ الرومانيةِ" حُزْمَةَ صُوَرٍ ، وقالَ : هذه حبيبتي ، وهذه فقط .. هيَ صور الأسبوع الأخير من البهجة . حين وصلنا إلى محطّةِ (المعقل)، كنتُ شاردَ الذِهْنِ ، ومأخوذاً بالخرابِ الجديد. كان رفيقي في درب الحرب قد أكمل كَرْعَ "البُطْلِ الزَحْلاويّ" العظيم . في الطريق الى "الأحواز" كانَ يعتذرُ وهو يبكي ، لأنه كان يعتقد أنّ المرأة في صُوَرِ البهجةِ .. هي احدى قريباتي . * جاءوا بنا من ضفافِ الفرات ، و شواطيء دجلة. حشرونا في القطارات , وشاحنات "الإيفا" ,وباصات "الريم" .. وألقوا بنا في "نهر جاسم". كان الرمادُ يملأُ الفم ، والفراتُ بعيد ، ودجلة خارج الذاكرة ، ولم يكن " الكارون " قد أصبح بعد نَهْرَنا المُفَضّل . * الأحوازيّونَ "الخوزستانِيّونَ" ، يتحدثونَ بلهجةِ أهلِ (العْمارَة) صرخَ بي أحدهم ، وأنا أحدّقُ مذهولاً بأكواخهم المنهوبة : من "صَخّمَ" وجوهكم ، وجاءَ بكم الى هنا ؟ * في بساتين "الزِريجي"، كنتُ أسمعُ النخيلَ يئنُّ ،و يتمدّدُ بين "سُرُفاتِ" الدبَاباتِ ، ويموتُ من الخُذلان. * في بساتينِ "الجِباسي" سرَقْنا عِذْقاً من نخلةِ بَرْحيّ . كُلُّ شيءٍ قابلٍ للسرقة، ما دامت الحربُ قائمةً ، والمُلاّكُ غائبونَ ، والجيوشُ تَرِثُ الأرضَ بمَنْ عليها . * لماذا يسرقُ الجنودُ دوماً ،أشياءَ عظيمة ، لامعنى لها في الحروب ، كنخلِ البصرة ؟ * التَفَّ حولي جنودٌ كثيرون. وعلى ضوء الفانوسِ ،ورائحة " الجولَة "،رحتُ أروي لهم قصصَ بطولاتي في مُدُنٍ بعيدةٍ ،عصّية على الفهم . ولأن أفواههم كانت فاغرة ، وإنصاتَهُم يغري بالمزيد من الوقاحة ، روَيْتُ لهم أكذوبة عشقي العابر لامرأةٍ في (صوفيا) ، وأخرى في (فيينا). كلُّ الأشياء كانت مجردَ أسماء. لم تكن لنا أمكنة. وكنت أريد أن أعوّض خيبات الجنود ،بأمكنةٍ مُبْهمة. رشَقَنا الايرانيّون بدُفْعَةٍ من قذائف "المِهداد" 175 ملم. قاطَعَني "عبيد علي عبيد " : ستكونُ معجزةً اذا عُدْتَ أنتَ إلى بغداد.. وعُدْتُ أنا إلى أهلي ، في (التّنومة) . * بين "المحطة العالمية"، و "محطة المعقل ". بين " كراج النهضة " ، و "ساحة سعد" ، ثمانيةُ أعوامٍ من التواصلِ ،والشايِ المُعَدِّ على عجل ، والصباحاتِ المُطفأةِ ، واللحمِ الرخيص . * حساءُ عَدَسٍ ، وصَمّونٍ حَجَريٍّ ، و"قُصْعَةٍ" بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحة .. و"بيريّاتٍ" و "بساطيل" .. وأوسمةٍ وأنواط ونياشين .. وكراماتٍ مهدورةٍ .. وإذلالٍ وذهولٍ .. وموتٍ مجانيّ . موتٌ زائف. موتٌ محض. هذه هي الحرب . * في (مَهْران) .. كان دويُّ المدافعِ بعيداً جدّاَ . وكان عبيرُ الوردِ يَصُمُّ الآذان . * على مشارفِ (دَيزَفول)، مَرّتْ زخّةُ صواريخ أرض - أرض ، من فوق رؤوسنا، ذاهبةً الى قلب المدينة. حين تسقطُ هناك .. لن تتحوّلَ أبداً الى قصائد حُبٍّ ، نتبادلها مع الأمهات .. في الجانب الآخر من المحنة . * طيلة الحرب .. لم تسقُطْ أيّة مدينة. لا(عبادان) ، ولا (خُرّمْشَهَر)، ولا البصرة، ولا (دَيْزَفول) ، ولا (العمارة). الذين سقطوا.. هُم الجنودُ فقط ، على الجانبين الآسنين من الحدود المشتركة . * كان (علي الأمام)يعزفُ على العود "تقسيم حُجاز" ، فلا أعرفُ معهُ أين تقعُ بالضبط ، حدود قلبي. وكانت (سميرة سعيد) تُغنّي "عراقُ الكرامة" ، فلا أعرفُ بالضبط ، أين تبدأُ حدود كرامتي ، وأينَ تنتهي كرامةُ وطني. وكانت الأغاني "الفارسيّة"، تُسْمَعُ خِلْسةً في راديوّات "الواز". والجنود العراقيون – الايرانيون، ما يزالونَ يموتونَ ،بإصرارٍ عجيب، في الأرضِ السَبِخَة. * جنديٌّ يقرأُ لـ (سارتر)، وآخر يقرأُ لـ (ماركس) ،وثالث يقرأُ لـ (احسان عبد القدّوس) ، والجنود الآخرون لا يقرأون ، وكلُّ واحدٍ منهم يسألُ الآخر : ما الذي جاء بكَ الى هنا .. و لماذا ؟ * ليلى تطرقُ بابَ الخيمةِ في الليلِ ، فيأتي غيمُ الرغبةِ صخّاباً ، يهمي .. يهمي .. يهمي .. وتَلّةُ الروحِ عطشى و "القعقاعُ" يحاولُ قطع الأسلاك الشائكةِ، وتعطيلِ ألغام "الفالمارا" ولكن "رُسْتَم".. يمنعه من ذلك . * الطريقُ الى القُدْسِ ، لا ينبغي ان يكونَ شرقاً. يا ويلتاهُ إذا تغَيّرَ الاتّجاه ، وأصبحَ الطريقُ الى القدس .. يمتّدُ جنوباً. * حين نُحارِبُ العثمانيّينَ .. تموتُ البصرة. وحين نحارب الأسرائيليين .. تموتُ البصرة . وحين نحارب الايرانيّين .. تموتُ البصرة . وحين نغزوا الكويت .. تموتُ البصرة . وحين تغزونا الولايات المتحدة الأمريكية .. تموتُ البصرة. متى تعيشُ البصرة ؟ * كان نائب العريف (جاسم ) ، يشربُ الخمرَ على "الساترِ" بصمتٍ ، فيتذَكّرُ جارتهُ العذبةِ كـ "قَيْمَر السدّة" .. ويعودُ ليبكي في خيمة "ضُبّاطِ الصَفِّ". وحين داهَمَنا "ضابطُ الخَفَرِ"، مُتلبّسينَ بجُرْمِ الحنينِ الى النسوة المُفترَضات ، والزوجاتِ الشارداتِ ، والأمهّاتِ المخبولاتِ .. اجْتَثَّ كلَّ شَعْرَةٍ في رأسنا ، ورمانا بضعة أيّامٍ في الحَبْسِ .. مع الجنودِ - المِثْليّينَ - الأشاوس . * حين تتساقطُ قذائفُ المدفعيّةِ الثقيلةِ، قرب الخنادقِ ،يُخَيِّمُ السكونُ على الكونِ ، ويتقيأُ الجنودُ من الصدمة. وحدها العصافير .. لاتكّف عن الزقزقة . * حين آن أوانُ "الإجازة الدوريّة"، زار الجنودُ المُجازونَ زميلَ "موضعي"(ياسرَ) ، الذي كانَ أصغرَ الجنودِ سنّاً. كانوا يتقاطرونَ عليه ، ويُقبّلونَ يديه .. ويقولونَ : سلاماً سيّدنا .. ويجهشونَ بالبكاء . كنت محشوراً في زاويةِ "المَوْضِعِ الْشَقيّ" ، مُتأبّطاً شَرَّ "المادية الديالكتيكية"، وأنا "أُبَحْلِقُ" مبهوراً بالوجهِ - الطفلِ لـ (ياسر). قلت لرفيقي في الحرب (رجاء انْهَيِّبْ ازْعيبِل): ماذا يحدث بالضبط يا (إبنَ ازْعيبِل)؟ أجابني : إنّ الضباط وضباط الصف والجنود ، يرتاحون لـ (ياسر) .. ولا يرتاحونَ لأمثالكَ من "الفلاسفة". * قبل أن أموت .. اشتَقْتُ الى أمّي . قال لي آمر " السرية " : إذا كنتَ تحلمُ بإجازة غير "دوريّة".. فأذهبْ "مأموراً" بـ "شهيدٍ"، و سَلّمُهُ الى أُمّه ، و دَع الابتسامةُ تعلو شفتيك .. أو .. تبرّع بثلاثِ قنانٍ من الدَمِ الطازجِ .. أو ... اسْتَشْهِدْ أنت . * دائماً نَنْتَصِرْ . لَمْ نُهزَمْ يوماً ،ولنْ نُهْزَمَ أبداً .. وأعدائنا كذلك . * قالَ لي نائبُ الضابطِ ، الرامي في رشّاشِ "الشِلْكَة": ماتَ خمسةٌ من أخوتي .أنا الجنديُّ السادس. حين أموتُ ، ستكونُ الحصيلة .. سِتُّ أرامل ، وثلاثون يتيماً ، ومُعيلٌ واحد .. هو القائد العام للقوات المسلّحة. * مَسَحْتُ الدَمَ عن عُلبَة المُرَبّى ، في كارتونة "الأرزاق الجافّة " ، وشربتُ نخب انتصار القادةِ الأفذاذ ، على أعداء لهم أوَّل .. وليس لهم آخر . * صاحَ أسيرٌ جريحٌ ، لم يتبيَّنْ بعد هويةَ آسريه : عاش العراق . عاشت ايران .. المجدُ للحربِ العراقيّةِ - الايرانيّة. * قال قائد الفرقة : هاجِموا خطوط العدوّ ، فإذا لم تُلحِقوا به الهزيمة ، لا أريدُ لأحدٍ منكم أن يعود. هاجَمْنا خطوطَ العدوِّ ، ولَمْ يَعُدْ منّا أحد ، ليُخبِرَ القائدَ بما حدث .. خلف خطوط العدوّ. * (أكرم هلال) .. ابنُ خالتي (وفيّة) .. كان يذهب ويجيء ، طيلة ستّ سنواتٍ من الحربِ ، ولا نعرِفُ لهُ عنوانَاً ، نُراسِلَهُ عليه . قلنا له يا(أكرم) ،بحقِّ السماوات السبعِ ، اسألْ جُنديًّا من أقرانك عن عنوان "الوحدة".. وأبعثهُ الينا. عاد أكرم الى الجبهاتِ الصفيقةِ ، وأرسل الى خالتي "وفيّة" ، سِرَّهُ الأبديّ : إذا رغبتُمْ في مُراسلتي ، فأنا في "لهيب النارِ .. قربَ الجبل". لم يعد بعدها(أكرم) من الحرب أبداً. وماتت خالتي ( وفيّة). وحتى هذه اللحظة .. لَمْ نعرِفْ أينَ كان لهيبُ النار، و قُربَ أيّ جبل. وحدها خالتي (وفيّة).. كانتْ تعرفُ ذلك . * مدّةُ الإجازة الدوريّةِ .. سبعةُ أيامٍ . كان الجنود يتزوجون فيها ،ويعودون لثكناتهم .. ليموتوا . كنتُ أذهبُ "مأمورا" ، لتسليم جثة العريسِ الى أهله. دائما كانت العروس دون العشرين ، حتّى أنها لَمْ تَكُنْ تعرِفُ كيف "تلْطُمْ". الأمّهاتُ يَضعنَ "فَرْشَةَ" العُرِسِ على التابوت ، والقريباتُ يُهلْهِلْنَ .. والآباءُ يَزُفّونَ ابناءهم الى المقبرةِ ، وهُم يهزُجون: امبارَكْ عِرِسَكْ .. يا بويه . * (علي الأمام) ، يعزف على العود ،"تقسيم حجاز". و (يوسف عمر) ، يُغنّي "يا يوسفَ الحزن"، من مقام "المنصوري". و (داخل حسن) ، يموءُ كناعور . والجندي يهمس لزميله قبل "الصَوْلَة" : لماذا لا يصمتُ هؤلاء "المخانيث" ، ليتسنى لنا الموت بحبور ، في هذه الحرب السخيفة . * لا أعرفُ ما الذي تفعلهُ الآلهةُ في الحروب . إنّ الأمرَ لمُرْبِكٌ حقّاً .
|