موازنة الخطوط الحمر

لايجد المرء عناء في التقييم الأولي لماهية "الموارد" المالية التي تغذي موازنة 2017 المرتقبة وهي تنتظر ماراثون مناقشتها والتصويت عليها من قبل البرلمان ومن ثم إطلاقها ، ولست بصدد مدى السرعة التي سيتم فيها مناقشة هذه الموازنة ومدى تعرضها ـ حالها حال بقية القوانين المدرجة للمناقشة والتصويت تحت قبة البرلمان ـ الى سيل من المناكفات والتجاذبات السياسية والكتلوية والتي تشي بالواقع المتشظي والمتجزئ لهذا البرلمان.
لقد كان مأمولا ومنذ أن بدأت مناسيب سعر البترول بالانحدار أن يتم اعتماد موارد أخرى للتمويل وكسر احتكار النفط كمورد شبه كلي ووحيد لبناء الموازنة التي بقيت (وستبقى) تحت رحمة الخط البياني لمناسيب أسعار سوق النفط وهي أسعار غير ثابتة أو مستقرة وتخضع لسياقات العرض والطلب كأي سلعة تجارية ومن الخطأ الاستراتيجي بناء أية موازنة على معدلات السلع الريعية ـ حتى وان كانت ذات معدلات عالية و"مريحة" لبناء موازنة طبيعية ـ لاسيما إذا كانت تتضمن استحقاقات استثنائية وخاصة الجانب الاستثماري منها والذي يعد استثنائيا بحكم تذبذب التمويل الريعي غير المستقر لها ، ناهيك عن أن هذه الموازنة هي الثالثة على التوالي التي تبنى على أساس تخمين سعر برميل النفط المتذبذب والمنخفض وفي حال أن العراق يخوض حربا ضروسا جدا ضد داعش ، ومدى تأثير انخفاض تذبذب وانخفاض أسعار النفط على هذا الاستحقاق المتعلق بالأمن القومي العراقي المهدد منذ ثلاث سنين والمخترق أساسا منذ 2003، يضاف الى ماتقدم استحقاقات أخرى لاتقل أهمية عن استحقاقات الحرب ضد داعش ومتطلبات تحرير المناطق المغتصبة وتتمثل بإعادة اعمار المناطق التي نُكبت بالاحتلال الداعشي وصارت فيما بعد ميدانا لحروب التحرير، واستحقاقات مابعد التحرير كإعادة توطين النازحين في مناطقهم التي نزحوا منها قسرا وتأهيلهم ، إضافة إلى تهيئة أماكن اللجوء لهؤلاء كونهم يعيشون في ظروف اقل ما يقال عنها إنها صعبة ومأساوية يضاف إليها استحقاقات العراق الدولية كالديون المترتبة عليه وأقساط تلك الديون وفوائدها والتي اقترضها العراق مؤخرا لتلافي أزمته المالية الخانقة .
هذا ولم يتسنَّ للعراقيين أن يحظَوا بواقع خدماتي ومعيشي وامني جيد رغم الموازنات العملاقة والانفجارية التي أُهدرت وتبخرت بسبب الفساد الذي استشرى في جميع مفاصل الدولة العراقية منذ التغيير النيساني والتي أورثت هذا الواقع الى وقت تراكمت فيه موازنات شحيحة وذات أرقام محرجة اضطُر فيها واضعو الموازنة الى مناقلة معظم بياناتها الى الجانب التشغيلي وعلى حساب الجانب الاستثماري والخدمي وحتى الأمني إذ ستشكل الموازنة الاستثمارية في هذا القانون حوالي24 % من إجمالي الإنفاق كون الجانب التشغيلي ـ وبحسب مخططي الموازنة ـ خطا احمر تتعلق به أرزاق ملايين الموظفين العراقيين والمتقاعدين (حوالي 8 ملايين مستفيد) فضلا عن المستفيدين من تخصيصات الرعاية الاجتماعية فتكون الغلَبة ولسنين متلاحقة للجانب التشغيلي على الجانب الاستثماري الى أن يستقر سعر البرميل على سعر معقول للتمويل ، ومراعاةً لنسبة العجز الذي تُقدر في موازنة 2017 بأكثر من 31 % حوالي 32 تريليون دينار (26.6 مليار دولار) من إجمالي النفقات البالغة 102 ترليون دينار ( نحو 85 مليار دولار) ] وهو أكثر من عجز موازنة العام الماضي وبإيرادات نفطية وغير نفطية قدرت بـ70 تريليون دينار (نحو 58 مليار دولار) وتخمين لسعر البرميل 35 دولارا بدلا من 45 دولارا وهو أدنى سعر يعتمد لأية موازنة على الإطلاق وبحجم تصدير يبلغ 3330 ألف ب/ي من قبل شركة تسويق النفط و (250) ألف ب /ي من قبل إقليم كردستان و (300) ألف ب / ي من قبل كركوك.
وتمتاز موازنة 2017 عن سابقاتها من الموازنات:
1ـ أنها مازالت موازنة ريعية واحتفظت بنسبة عجز كبيرة ايضا :
2ـ أنها طرحت ولأول مرة مبدأ موازنة السلام اي أنها ستكون موازنة لمابعد داعش واستحقاقات التحرير
3ـ أنها وُصفت بإجراءاتها التقشفية القاسية بموازنة شد الأحزمة وهو التوصيف الأقرب للواقع كتعليق التعيينات في الوظائف الحكومية لثلاث سنوات وهو مايساهم في ارتفاع نسبة البطالة المقنعة وتشكيل جيوش جرارة من العاطلين عن العمل ومايتبع هذا الإجراء من انعكاسات اجتماعية واقتصادية خطيرة على امن واستقرار المجتمع العراقي المنهك ، يضاف إليها سياسة فرض الضرائب وتفعيل سياسة الجبايات والرسوم فضلا عن ضغط النفقات وترشيد الصرف الحكومي الى أقصى حد ممكن.
4ـ إنها موازنة شهدت اقتراض العراق من جهات عديدة من اجل تجاوز محنته المالية وعليه في الموازنات اللاحقة إدراج فقرة للتسديد وإطفاء الديون مع فوائدها لعدم تكرار مسالة الديون التي ترتبت على العراق والتي تم جدولتها ضمن اتفاق العراق مع نادي باريس .
أقول لو كانت الإيرادات غير النفطية موازية او مشابهة للواردات النفطية فسيكون العجز اقل والنفقات أكثر وبالتالي سينعكس على الموازنة الاستثمارية ورفع المستوى الخدمي والمعيشي ولايصب اهتمام مهندسي الموازنة على الجانب التشغيلي فقط وعده خطا احمر بل وان هنالك الكثير من الخطوط الحمر كمحاربة الفساد واسترجاع الأموال العامة المنهوبة الى الشعب العراقي ، وقد فرضت أسعار النفط أن تكون خطوطا "خضرا" كواقع حال ، ومن المفروض أن يقوم خبراء المال والاقتصاد العراقيون بتفعيل الإيرادات غير النفطية ودعم القطاعات التي تصب في خانة الموازنة مستقبلا وكسر الاحتكار النفطي كالزراعة والصناعة والسياحة وأمامهم مشوار طويل يبدأ من العمل الدؤوب وليس بالأماني الرومانسية .