عبد الكريم العامري وعنبر سعيد(1)... هاتف بشبوش

  

عبد الكريم العامري شاعر وروائي وكاتب مسرحي من البصرة الفيحاء ، عضو إتحاد الكتاب العراقيين والعرب ، عضو في العديد من النقابات والجمعيات الثقافية والفنية ، مؤسس ورئيس تحرير مجلة بصرياتا ، مدير شبكة أخبار العراق . صدرت له العديد من الكتب والدواوين ومنها ( لاأحد قبل الأوان ...شعر) ، ( مخابيء...شعر)  ، ( الطريق الى الملح ...رواية) ، ( عنبر سعيد...رواية) ، ( جسدي مشاع ...شعر ) ، ( مجموعة من المسرحيات) . ثم هناك له من الكتب تحت الطبع ومنها ( رواية غزو....تتحدث عن الغزو الأمريكي)  ، ( مسرحية كاروك ..مترجمة للغة الإنكليزية) ، ( مسرحية قيد دار .. مثلت من قبل الممثل د. مجيد الجبوري واخراج د. حميد صابر) ،( مسرحية دعوة للمحبة (للاطفال) اخراج د. كريم عبود) ،( مسرحية جعبان اخراج د. حازم عبد المجيد )، ثم قدمت له العديد من المسرحيات في بلدان عربية مختلفة .

عبد الكريم العامري حينما يبدأ بالشّروع في الكتابة ينطلق ضدّ التيار ، يُعجبه أن يكون أكثر قوّة كي يستطيع أن يواجه أعتى أمواج البشر وأعاصيره العاتية ، ينطلق كي يرفع البيرق الذي رسم ألوانَه ، وخطّ ما يحتويه من معاني واتّخذه علماً يستطيع أن يكون رمزا له و لهدايته في الطّرق الوعرة التي تُصادفه أينما حلّ و ارتحل ، و لذلك في روايته قيد دراستنا هذه والموسومة ( عنبر سعيد) نراه قد استعان بقديس الإبداع جون كوكتو و جعل مقولته الرائعة في أوّل سطر من الرواية( ما يلومك الناس عليه اعمل على تنميته، فذلك هو أنت)، وهذه أروع من عاضدها و جسّدها لنا الممثل القدير والشّهير ( جاك نيكلسون) حين يقول (لا تضيّع وقتك لتُثبت لهم أنّك ناجح ...قل لهم إنّك فاشل فسيصدّقوك فورا .. ثم عش حياتك مثلما تريد بطريقتك و أسلوبك ...هذا هو النجاح الحقيقي) .

 عبد الكريم العامري يكتب بالواقعية الشديدة و ما تراه عينه أو ربّما هو أحد شواهد هذه الرّواية التي بين أيدينا ، ينقل لنا طبائع البشر كما هي بلا رتوش خصوصا تلك التي تتعلّقُ بالجانب الاجتماعي المرّ و ما يجلبه لنا من كوارث و ويلات لو سكتنا عنه و لم نفضح الجانب السّلبي منه. فعلينا أن نفضح المستور حتى لو كلّفنا ذلك الكثير والكثير أو لم ترض علينا الناس فإرضاء الناس جميعهم غاية لا تُدرك ، و لذلك يتوجّب علينا أن نُؤشّر على مكامن الخطأ مثلما أشار لنا الروائي عبد الكريم حول الشخصية الدينية المزيفة المتمثلة بالشيخ ( مقطوف)        و أفعاله الشريرة و هوسه الجنسي الفضيع كما سنبيّن لاحقا.

عبد الكريم العامري يكتب بدون تورية ، إنّه لا يخشى ما يأتي من الجاهل الذي يُصرّ على بقاءه في عتمته و ظلمته و كأنّه يريد الظّلم كقدرية أبديّة، أو ذلك الجاهل الذي يعطيه الجلاّد أحيانا فرصة للهرب حينما يذهب يحدّ سيفه ، لكنه ما يزال مُسمّرا في مكانه متّكلاً على الباري منتظراً حزّ رقبته، فهذا نوع من أنواع الجهل و من الضّروري فضحه أو توجيهه على المسلك الصّحيح كما كان يفعلها جميل صدقي الزهاوي أو علي الوردي ، اللذان ذاقا الكثير من جرّاء العمل في هذا الدّرب العسير

رواية (عنبر سعيد ) رواية قصيرة لا تتجاوز عدد صفحاتها الإثنين و السبعين صفحة تحكي قصّة رجل صاحب عربة يجرّها حمار( عربجي) ،اسمه (عنبر سعيد) هذا الذي تشهد عينه الكثير من الأحداث، ثم شيخ المدينة الدجّال الديني و زير النساء (الشيخ مقطوف)، ثم الفتاة الغضة الطرية التي يغرّر بها الشيخ (مقطوف) فيطئها مرارا و تكرارا بعد تنويمها دينيا و جنسياً تحت شهوات إكليله القائم على الدوام . عنبر سعيد يفرّ من المدينة التي وُلد بها نتيجة الخيانة و الغدر ظُلما و بُهتاناً، يُتّهمُ بعلاقة مع فتاة أرادها أن تكون زوجته، ينصبُ لهما الفخاخ من رجال الدين الذين اجتمعوا وتعاضدوا على رجمهما. عنبر سعيد يستطيع الهروب لكن الفتاة تُرجمُ حتّى الموت، فتظلّ ذكرى أليمة لا تفارقه حتى موته. يهربُ عنبر من المدينة صوب مدينة أخرى حيث لا يعرفه أحد ممّن نصب له هذا الفخاخ الذي هو على غرار فخاخ الفلم الإيراني البديع (رجم ُثريا....The Stoning of Soraya إنتاج عام 2008)،حيث تُرجم (ثريا) الجميلة ، الفتاة الطاهرة البريئة بالحجارة حتى الموت بعد أن يشي بها طليقها لكي يتخلّص من دفع نفقات الزواج في اتّفاقه مع شيخ المدينة الدّجال هو الآخر ، تُرجمُ الفتاة العفيفة بلا رحمة ، حتى ابنها الطفل الصغير غرّزوا به نار الحقد على أمّه فقام بضربها بالحجارة إسوة بالآخرين ، فأيّ عالمٍ إسلاميٍ هذا وأيّ دين؟

(عنبر سعيد) ، عنبر تعني الرائحة الزكية ثم سعيد من السعادة، بينما شخصية عنبر أمام الناس كما رواها لنا الروائي عبد الكريم، سكّير مُعربد، نتن الرائحة، وسخ على الدّوام نظرا لعدم توفّر وسائل الرّاحة و النظافة لشدّة فقره وحاله المُعدم ، كما و أنّه ينام في زريبة حماره الذي يُحبّه كثيراً فيطلق عليه (أخوه) . و لذلك اسمُ (عنبر سعيد) و طبقا لهذه المواصفات يفترض أن يكون ( نتانة حزين بدلاً من عنبر سعيد)، لكنّ الروائي أراد أن ينقل لنا طبيعة البشر السّائدة          و السّاديّة بذات الوقت، طبيعة البشر التي تنظرُ إلى مظهر الإنسان لا جوهره، تنظر إلى شكليّات المرء لا أخلاقه الحميدة و لا إلى تلك المآل التي جعلت منه فقيرا مُعدما وسخا و سكّيرا .        و لذلك الروائي عبد الكريم أطلق هذه التّسمية على بطل روايته كرسالة يريد إيصالها لنا ، من أنّ أخلاق عنبر سعيد تنطبقُ كلياًّ على مسمّاه إذا ما قورن بالشيخ ( مقطوف) الفاسق و الكذّاب الذي يحمل كل معاني الوساخة و القذارة الحقيقيّة ، لأن ّ وساخة العقل هي أكثر خطرا على الشعوب من وساخة البدن، أو ربّما بطل الرواية ( عنبر سعيد) هو اسمه الحقيقي ، فهذه تُضيف للرّواية بُعدا خلاّبا آخراً وحقيقة لا يُمكن تصديقها إلاّ من شفاه الروائي عبد الكريم العامري نفسه باعتباره الشّاهد و المُتعايش ربّما مع أحداث بطل الرواية .

عنبر سعيد يتعرّف في فندقٍ بسيط على شخص فيكون صديقه الأحبّ إلى قلبه، لكنهما متناقضان تماما، عنبر خمّار مُعربد ، و صديقه زاهدٌ دينيّ ، لنرَ ما تقوله الرّواية بصدد ذلك :

( تحدّثا معاً عن شؤونٍ كثيرةٍ ولم يسمع أبداً منه كلمةً في السياسةِ، كما أنّه لم يتذمّر من الشراب الذي يأتي بهِ عنبر إلى الغرفةِ، قال مرةً إلى عنبر:

أنت َتشربُ كثيراً .

ردّ عليه عنبر ضاحكاً :

وأنت َتصلّي كثيراً !)

 

في إحدى جولات رجالات الأمن السرّي يُلقى القبض على صديق عنبر و يُعدم هناك في تلك الأقبية المظلمة وهو لا يعرف الشيوعية من الشيعية، فيحزن عنبر عليه حزنا شديدا ، فيا لغرابة الموقف عن الصداقة العراقية سابقا ، حيث لا فرق بين سكّيرٍ ودينيٍّ إلاّ بالأخلاق ، بينما اليوم حدّث و لا حرج في ظلّ الحكومة الدينية المتدنيّة، إذ يقولون بإمكانك اليوم أن تحمل رمانة يدوية وأنت ماراً على الكثير من سيطرات الجيش العديدة ، وإيّاك إيّاك أن تحمل علبة بيرة .

عنبر سعيد يبدأ بالتّفكير بالموت بعد فراق صديقه وهو الذي كان بعيدا عن هذا المآل العدميّ كما نقرأ في الرواية :

(إنّنا مخلوقون كي نموت ! لم تكن تشغله تفاصيل الموت، فالموت و إن تعدّدت أسبابه هو واحد. مفردة واحدة : الموت، وهي تعني الخلاص و اللاعودة . في هذه المرة تغيّرت تركيبة عنبر سعيد، فموت صديقه فتح أمامه الطريق لتساؤلات عديدة . هكذا وجد نفسه محشوراً بتفاصيل الموت؛ كيف مات. متى . أين … ؟)  ثمّ الحديث عن المقابر :

(أليست المقابر مُدُناً مثل تلك التي تجمعنا؟ و كما في المدنِ تستطيع أن تحدّد غنيّها من فقيرها من المنزل الذي يسكن فيه فهنا أيضاً تستطيع أن تُحدّد : هذا قبر لغنيّ و ذاك لفقير ! حتّى في المقابر ثمّة فاصلة بين الاثنين) .

الموت ذلك المارد الذي لو دنى من الشّخص في لحظته المحتومة يجعل منه مراجعاً لكلّ حساباته الخاطئة التي فعلها دون ضمير ، دون حبّه للناس و إخلاصه ، بل حبّه للمال واللّذة على غرار شيخنا ( مقطوف) . هناك الكثير من الشّواهد على الموت حين اقترب من العظماء فتغيرت وجهات نظرهم في لحظة خاطفة ، وكأنّ شريط الزّمان العمري للشخص يُختزل في ثواني معدودة بينما هو قضى من العمر عتيّا على سبيل المثال ، أو عمراً وسطيّا أو قليلا ، كلّها تختزل في لحظات الأسف والنّدم على عُمرٍ ولّى دون مراجعة الأخلاق والضمير ، تختزل في لحظات يرجو فيها المرء المحتضر من الموت أن يُغيّر قراره وما من مُجيب. و حينما يأتي الموت يأتي وكأنه فعل لا إراديّ و لا يمكن إيقافه، كما حركة أعضائنا اللاّإرادية التي لا يمكنها التوقف سوى بجفاف أوصالنا و عروقنا، و لذلك نرى في النّزع الأخير للكثير من الشخصيات التي ألهمت التأريخ ، أو الشخصيات التي انهمكت في عملٍ ما لإرضاء نفسها وغرورها فقط دون الحساب للبشر الآخر و ما يضرّه من جراء عمله هذا ، نراهم سطّروا تراجيديا لا يمكن أن نصدقّها لهول أخطائهم التي ارتكبوها ، على سبيل المثال لا الحصر كما نقرأ أدناه:

(ستيف جوبز) أيقونة الكمبيوترات و الذي قضى جل عمره بالركض وراء المال حتى تحقّق له ذلك الثراء العالمي ، أصيب بمرض سرطان البنكرياس و قبيل الرمق الأخير قال:

(إن سرير المرض هو السرير الأغلى في عالمنا، لن تجد أبدا من يرضى أن تُعطيه مرضا و ينام بدلا عنك مهما أكرمته و كافأته ماليا، ربما تجد من يقود لك سيارتك أو يُعينك على كسب المال أو يوفّر طعامك لكنك محال أن تلقى من يمرض عوضا عنك. كثيرا ما تستطيع أن تعثر على أشياء فقدتها في غفلة ما لكن شيئا واحدا لا تستطيع استرجاعه أبدا و هي الحياة و البقاء حتى في أحلك الظروف. حتى المؤمنون بالنعيم و الجنان يطمحون إلى الخلود في الدار الأخرى ....نقلا عن الشاعر والكاتب الجميل جواد غلوم).

عنبر سعيد يسكر في حانة سلمان، تلك الحانة التي غالبا ما يحصل فيها العراك و تُؤدّي بالنتيجة إلى تهشيم كل الزجاجيات و ما فيها من آثاث بسيطة فيضطرّ سلمان إلى ترميمها من جديد،هذا هو حال شعوبنا المريضة، ففي كل شعوب العالم المتحضرة ، أجمل مكان يرتاده المرء ، رجال أو نساء هو البار أو المرقص حيث تتوفر أشهى أنواع المشروبات الكحولية ، لكي يقضي المرء بعضا من وقته سعيدا بفعل نشوة الخمر ، رجال و نساء يرقصون ،يُغنّون ، يقبّلون بعضهم بعضا ، يمارسون الجنس في أماكن البار المعزولة ، يتعانقون ، يهتفون بأغاني الوطن أو الحب ، هذا هو بار العالم المتحضر ، وهذا هو فعل الخمر الجميل إذا ما دبّ دبيبه ، في المرقص أو البار ، هذا هو البار الحقيقي لا حانة سلمان التي يرتادها عنبر سعيد ، حيث نرى بعد الكأسين أو الثلاثة تتحوّل الحانة لساحة حلبة للقتال والضرب وتهشيم الزجاجيات       و الموبيليا. ثقافة دخول البار هي ثقافة خالصة يتوجّب على المرء تعلّمها منذ الشباب الأول ، ثقافة البار لا يمكن أن تكتمل إلاّ بدخول الرجل والمرأة سوية إلى حيث الرقص و المتعة بالانتشاء ، المرأة هي التي تجلب السعادة للرجل ، هي التي تهذب المكان ، فكنا حين نجلس في نادي الجامعة مثلا أيام كنا طلابا ومعنا عدد من الطالبات لا أحد يستطيع أن يتطاول ويسيء إلى الجلسة لأنّ الجميع يرجو أن يكون ذا سمة جيدة في نظر إحداهنّ . ولذلك في الغرب تجد المرأة في البار على الدوام بينما في شعوبنا ، المرأة لو رأت سكرانا في الشارع تبتعد عنه أمتارا وأمتار لضنها السلبي والكامن في العقل الباطن اتّجاه السكير و شارب الخمر . ثقافة الخمر تتطلّب المعرفة الكاملة في حبّ الآخرين واحترام المكان ، و لذلك في يومٍ و أنا في بارٍ دنماركي دخل عربي في غاية البذاءة و الجهل  إلى بارٍ جميل في موسيقاه ونساءه بسيقانهنّ و وجوهنَ الصادحة بأضواء الليل المشعشع ، هذا العربي بعد لحظات كسّر زجاجة البيرة ، وشهرها على الآخرين ، مما أدى إلى هروب جميع الحسناوات و الرجال بعد ثواني . الدنمركيون تصوّروا أنّ وحشا قد دخل ، أنّ مجرما حلّ عن طريق الخطأ هنا ، هم حينما يأتون إلى البار يتحدثون بلغة الحمام ، بينما هذا العربي الأرعن جاء ليتكلم بلغة الأسود، فجاءت الشرطة و كبّلته، و من وقتها حُرم هذا الجاهل الغبي من دخول جميع البارات لمدة ثلاث سنوات

عنبر سعيد بطل روايتنا ، لم يمتلك نقودا ليدفع ما يعبهُ من عرقٍ ،وغالبا ما يحذّره سلمان صاحب الحانة من ذلك ، لكنه في أغلب الأحيان ينام في البار بعد شجارٍ مع أحدهم كما حصل مع (حمزة سكراب) ، وبالرغم من ذلك صاحب الحانة سلمان يُبدي حُبّاً مميزا لعنبر سعيد لشيء لم يعرفه ، غير أنّه اعتبره طيّب القلب و هناك خفايا خلف شخصيته ، و أمّا هذه المشاكل التي تحصل له تأتي رغما عنه و من دون رغبته

عنبر سعيد ينام في الخرِبة التي يربط بها حماره الذي يُحبّه و يُفضّله على البشر الآخرين      و يعتبره أخوه كما ذكرنا أعلاه وهذه تنقلني إلى ( دينو) النادل في بار أبي مازن في السّماوة أيام زمان ، فكان دينو له صديق مقرب يحبه كثيرا يدعى (جميل حولي) الكليم العين ، وهذا المسكين كان سكيراَ من الطراز الأول ، فكان دينو يقول  ( ثلاثة في السّماوة أغبياء ..أنا وجميل والحمار) . يموت حمار عنبر ، و تنبعث رائحة من مكان الخربة ، فيظن الناس أنّ عنبر قد مات وهذه هي رائحته النتنة التي لم يرأف لها قلب إنسان كي يكرمه بالدفن تبعا للمقولة السائدة (إكرام الميت هو دفنه) وهنا أراد الروائي عبد الكريم الإشارة إلى طبع البشر السيّئ في بعض الأحيان لعدم اكتراثه بموت رجل سكّير ، في حين في بلدان الغرب يقيمون مهرجانا خاصا للاحتفال بالمدمنين على الكحول والمخدرات ، حيث يجتمعون في ساحة كبيرة ويتم تقديم كافة الدعم لهم من أدوية وطعام و فرق موسيقية تعزف لهم أجمل الأغاني ، وما يتطلبه هذا الأمر  من أشياءٍ أخرى .