حرب المدن

 

الطبول التي دقت أو تدق في بلادنا، تشبه حالة الحرب مع جيوش أخرى، واعداء يتربصون ببلادنا من خارج الحدود.
هكذا يبدو المشهد ، ونحن نرى الارتال والطائرات والدبابات تحاصر مدناً، وساحات اعتصام سلمية، ونسمع تصريحات مخيفة، وتهديدات زمنية محددة بالساعات، وكأن المقابل عدو  غائر، وليس مواطن في هذا البلد يشكو الظلم ويطالب بحقوقه المشروعة.
وتتحشد الصور ، وتتعالى الأصوات، عن معركة مرتقبة، وهجوم كاسح، ليس للتصدي، ولا لرد عدو خارجي، وانما على ناحية أو قضاء أو مدينة ، أو خيم لمتظاهرين.
وتضع الحرب اوزارها ، وتقع مجزرة، ضحاياها من الكبار والصغار ، وتنثر خلف دخاخينها حجج واهية، واكاذيب ملفقة، ثم يمنح القانون السامي ضحايا المجزرة  رتبة شهيد ، فيما يطلق سراح المعتقلين ، ويتساوى الجاني والمجنى عليه، ثم ينطلق صوت يطالب بالتهدئة، ليس من القاتل ، بل من القتيل، وتساق الأمثلة تباعاً: الطايح رايح، وآني ابن اليوم مو البارحة، وانسه وآني انسه، حتى ترتكب جريمة اخرى لاحقاً.
العجيب ، ذلك الصمت العالمي، لما جرى في الحويجة، وغيرها من مناطق العراق، التي تعرضت ولا تزال الى القصف والتدمير، حتى أصبحت الطائرات السمتية سلاح فعال ضد المواطنين، واخذت الدبابات تطوق المدن، بل وحتى الخيم، وكأنها تقف على الحدود ، أو تستعد لحرب في جبهات القتال.
والأغرب ان تسمع من بعض المسؤولين ، وهو يتحدث عن قواطع العمليات، واي قواطع هي أو جبهات ، والمقابل لا يعدو ان يكون مناطق وسكان لا يملكون سوى سكاكين المطابخ.
ولا بأس، ان كان هناك مجرمين وجناة، فبالامكان ان تقوم اجهزة مختصة من الشرطة بملاحقتهم، اعتماداً على معلومات استخبارية دقيقة، أما اسلوب العقاب الجماعي والتسلي بوسائل القتل العشوائية ، قصفاً بالجو، او بالمدفعية، فهذا الاسلوب الحربي له معان اخرى تخرج من معنى الملاحقة الى معاني التصفية والتطهير.
والمؤسف ان اللجان تشكل بعد الجناية لا قبلها، لترميم ما حصل ، وعلى المتضرر الصبر والسلوان.
ومن نافلة القول، نذكر ما دام المسؤولون في هذا البلد، يقتلون باسم القانون، ويحاربون شعبهم باسم القانون، ببعض القوانين الدولية التي اعلنا مراراً الالتزام بها، والاقرار بموادها.
من ذلك ، ان التمييز بين المدنيين والعسكريين مبدأ عام في القانون الدولي الانساني، وهو ما نصت عليه المادة 48 من البروتوكول الإضافي الأول ، كقاعدة عامة، ويستلزم بأن على المهاجم ان يميز بين المدنيين والاهداف المدنية من جهة، وبين العسكريين والاهداف العسكرية من جهة أخرى، وان يستخدم اسلحة تمييز بين الاهداف.
وهذه المادة تنظم حالة الحرب بين جيشين، ودولتين، وليس بين جيش وشعب، وإلا فالحالة اسوأ، عندما يكون الهدف كله مدنياً، والقصف يكون على اساس افتراضات وجود عسكريين أو اعداء مسلحين بينهم، وهذه حالة مقلوبة، ربما عالجتها المادة 50 من البروتوكول الدولي، حيث اعتمد قرينة واضحة لحماية المدنيين، تنص على انه " اذا ثار شك حول ما اذا كان شخصاً ما مدنياً أم انه غير مدني ، فإن ذلك الشخص يعد مدنياً، ولا يجرد السكان المدنيون من صفتهم المدنية وجود افراد بينهم لا يسري عليهم تعريف المدنيين".
وهذا النص في حماية المدنيين ، في حالة اشتباك جيشان نتيجة اعلان الحرب بين دولتين وليس بين جيش وشعب.
بالتأكيد نحن نحاول ان نجد مسوغات لافعال من هذا النوع، لكن ليس لها معنى سوى الإبادة البشرية، والجرائم ضد الإنسانية ، لأن المقابل ليس في حالة حرب، وانما شعب يطالب بحقوقه بطريقة سلمية كفلها له الدستور.