العلمانية الفرنسية والحلال الإسلامي

 

منذ بدايات القرن العشرين، وتعاقب القوانين التي اصدرتها فرنسا حول العلمانية في الدولة، كان الانقسام الفرنسي واضحا حول رهاناتٍ سياسية ودينية مترسّخة منذ القرن التاسع عشر.

لم يكن الوجود الاسلامي وقتها بهذا الحضور الكثيف في المجتمع الفرنسي، رغم تواجد الفرنسيين انفسهم في الجزائر كقوة استعمارية، الا انها وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تفقد العلمانية الفرنسية روحها وهي تواجه تحديات حضور الإسلام، ولم تعد المسألة الكبرى لدى الفرنسيين فصل الكنيسة، لا سيما الكنيسة الكاثوليكية، عن الدولة، بل باتت دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي ومؤسساته، وأصبح دمج الإسلام شرطاً لا غنى عنه للحفاظ على العلمانية الفرنسية، والتي يطلق عليها العلمانية الصلبة، حين تقارن بالعلمانيات الاوربية او العلمانية الامريكية.

هذه العلمانية المتصلبة، تتعارض مع الفكرة الرئيسية التي قامت عليها العلمانية والمتعلقة بإيجاد مجتمع تعددي تحترم فيه الدولة خيارات مواطنيها ومعتقداتهم الدينية، واضحت تقود الى عواقب مخالفة لنية المشرّعين وقد تشكّل عائقاً أمام علمنة المجتمع.

مناسبة هذا الكلام، ما بدأت بفرضه بعض المناطق الفرنسية من إلزام على المتاجر التي يمتلكها مسلمون ببيع الخمور ولحم الخنزير في متاجرهم، تحت حجة أن السلطات تريد "خليطًا اجتماعيًا". بحيث لا تكون أي منطقة للمسلمين وحدهم أو أي منطقة تكون بلا مسلمين.

وذهبت السلطات المحلية في تلك المناطق، في تبريرها لمثل هذا الامر، إلى أن متجر الأغذية الحلال يخرق المبادئ الجمهورية الفرنسية بإعطاء الأولوية لجماعة معينة في المجتمع بدلًا من تلبية احتياجات الفئات جميعها.

ولم تكتف الحكومة الفرنسية بالتدخل في هذا الشأن المتعلق بتجارة الاغذية والمشروبات الحلال،

فالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ينوي تعيين أحد الشخصيات اليسارية رئيسًا للمؤسسة الفرنسية للإسلام، وهي مؤسسة تعنى بأوجه نشاط الديانة الإسلامية في فرنسا، وعلاقة الإسلام بالمؤسسات الرسمية الفرنسية.

ما الذي يعنيه ذلك؟ خاصة وان الكثير من الدول الاوربية اصدرت عددا من القوانين التي تحاصر المسلمين او هي على وشك اصدارها في القادم من الايام؟

تعاني فرنسا والغرب عموما من ازمات على مختلف الاصعدة، الفكرية والاجتماعية والثقافية، ولعل أبرز ازماته، هي الازمة الذاتية التي تسترت لعقود طويلة خلف دعاوى التعددية، لكنها في حقيقة الامر وكما يتضح الان، كانت لتكريس الأحادية الفكرية لهذا الغرب، واتخذت أشكالا مختلفة حسب المراحل الزمنية التي طرحت فيها تلك الدعاوى.

التعددية الدينية ومثلها الثقافية، اصبحت تتعرض للكثير من الهجوم والحصار من قبل الحكومات الغربية، بعد صعود الشعبويات واليمين المتطرف، التي تقوم على الخوف والتخويف من الاسلام والمسلمين، ووصم الدين الاسلامي بالإرهاب، ووصم المسلمين بالتطرف، من اجل تكريس صور نمطية جديدة تحل محل الصور التي ابتدعها الغرب نفسه في مراحله الاستعمارية من خلال الدراسات الاستشراقية التي كانت قد رسخت صور التخلف للدين الاسلامي والمسلمين.

تفصح مثل تلك الصور الجديدة عن تراجع في قبول الاخر الديني والإثني في تلك المجتمعات، وتراجعا لأفكار التسامح والتعددية وقبول الاخر، بعد ان اشتهرت تلك المجتمعات بمثل هذه الافكار، ونادت بالمواطنة العالمية التي بشرت بها العولمة في سياق اكتساحها للثقافات الاخرى.

اذا بقيت مثل هذه الوتيرة من القوانين والتشريعات تتصاعد، ويتصاعد معها الحس الشعبوي واليمين المتطرف، فان العالم ربما مقبل على تحقيق نبوءة صموئيل هنتنغتون حول صدام الحضارات، وسيشتعل العالم بحروب ضارية وهذه المرة حروب دينية، لا تكتفي بتدمير المنجزات الحضارية للأشواط الانسانية الطويلة، بل ستحاول القضاء على ما يعترضها من اديان، وذلك وهم خطير اصبحت العلمانية الفرنسية وغيرها من علمانيات صلبة تعيش تحت وطأته.